(تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
..................................
أما عن الصورة المتخيَّلة في رثاء صديق آخر، اخترمه الموت عام 1996 فيقول فيها الشاعر:
أيا نخلةَ البرْقِ
كيف رياضُ المحبينَ
في الهجرِ ؟
يا موجةَ البحرِ!
كيفَ غيابُ السَّفينْ .. ؟
.. متى عودةُ الرَّاحلينْ ؟ (ص36)
وقد رسم الشاعر حسين علي محمد صورة نفسية دقيقة للفقد والغياب، ودونما غياب، وقد كثَّف الشاعر ذلك في قصيدته "صبيحة الغياب"، حيث يقول:
وقُرْصُ شمسِهِ البعيدْ
يغرُبُ في السَّماءْ
ماعادَ يسْألُ السؤالَ ، أوْ يُعِيدْ
قدْ سافرَ الأحبابْ
فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِيابْ ؟!
لكن الشاعر في نصه الذي يحمل عنوان "فخاخ الصحراء" ألقى على بصائرنا مرثية مطوّلة حول صديق لم يُفصح عنه بصورة تامة إلا بالاسم الأول "أحمد"، والذي لقي حتفه في رحلة عمل مغترباً بالباحة، في جنوبي المملكة العربية السعودية، والبكائية في النص تميل إلى الإطالة التي لا ضرورة لها.
يقول الشاعر في رثاء صديقه أحمد:
"الباحةُ" خاتِمةُ الأسفارْ
وأنت قديماً كنتَ تُشاكِسُ باللفظِ
وترجِعُ بالغارِ
فكيفَ خرجْتَ من الدَّارِ
صباحاً
ومهما يكن من أمر، فإن الرثاء لا يتحمّل ـ باعتباره فنا شعريا ـ الحوار المطوّل، أو المناجاة المطوّلة، فهو دمعة وفكرة، ومدح لصفات الميت الراحل، وإن هلك.
والفجيعة بالموت ورثاء من ماتوا عادة مألوفة عند الشعراء، حيث نجدهم في قصائد الرثاء يتتبعون من يرثونهم، فيذكرون ذكرياتهم معا،كما يذكرون مآثرهم، وسجاياهم، ويمدحون صفاتهم وسلوكهم في الحياة الدنيا قبل الرحيل الأبدي للدّار الآخرة.
وبالإضافة إلى قصائد الرثاء، فقد كتب حسين علي محمد في ديوانه هذا آهاته المحزونة حول فراق الأحبة، وله في فراق صديقه الشاعر أحمد فضل شبلول حينما ترك الرياض وعاد إلى الإسكندرية ـ بعد صداقة امتدت سبعة أعوام ـ قصيدة بعنوان "دموع الحاسوب"، يقول فيها وهو يناجي الحاسوب ـ ومن المؤكد أنه يتذكّر صديقه الذي غادر الرياض، ويتذكّر جولاتهما وسهراتهما الأدبية معاً:
ياحاسوبي الساهرَ في أحنائي
والحالِمَ بالضَّوْءِ وبالسَّعْدْ
سافرَ أحبابي ..
تركوني في دائرةِ الوجْدْ
وانفضُّوا منْ حوْلي ..
تركوني في سِردابَ الفقْدْ
انفضُّوا .. فرداً .. فرداَ
وبقِيتُ أُعاني ..
من وطْأةِ أحزاني
في مَجْمَرةِ البُعْدْ ! (ص38-39)
وكأنما الشاعر ينتقل من لوعة الفراق وألم الابتعاد عن الصديق، فينتقل من التجريد إلى المحسوس في قوله:
لِمَ لَمْ تبصرْ طابعتي ..
وهْيَ تُنادِمُ نافذتي ..
بحروفِ الهمسْ ؟
لِمَ لَمْ تأكلْ طبقَكَ ،
لمْ تشربْ قهوتَكَ
ونايكَ مُرْتَهَنٌ للحزنِ
وفُقْدانِ الأُنسْ .. ؟ (ص38)
والحاسوب أحد الرموز المادية في النص عنواناً وتشكيلاً ورؤيةً، بينما الألفة والوفاء يعذبان الشاعر، الذي غادره الصديق في سفرة أخيرة لمحل إقامته، وموطنه، وداره، وأهله.
ولن نغادر هذه النصوص في هذا الموضع، دون أن نتذكّر العنوان الدال "النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة"، وهو العنوان الأساس للمجموعة جميعاً، ففيه الفراق المكرور، وتداعيّات الشوق والبوح حول من غادرهم إلى موطن عمله وغربته.
أما المحاورة الشعرية الوحيدة في قصائد الديوان، فقد جعلها حسين علي محمد تمتلئ بالتهكم والسخرية ممّن بلغا النضج وحكمة السنين، بينما يطفح من سلوكهما الحمق والادّعاء، والنص مع جودته قطعة فنية محكمة، لا يُمكن أخذ الشاهد منها إلا بنصها كاملاً، يقول الشاعر:
ـ إني حاربْتُ كثيراً في صفِّكِ
ـ لكنِّي لمْ أُبصِرْكَ بليغاً ،
تتحدَّثُ في جمْعِ السُّفهاءْ
ـ إني مشغولٌ بهمومِ العامَّةِ ، وحقوقِ الضُّعفاءْ !
ـ هذا ما نرجوهُ على يدكَ البيضاءْ !!
لكني أسألُ نفسي :
لِمَ لمْ أسمعْ منك قديماً
ـ من فيكَ المثقلِ ببلاغتِهِ الشوهاءْ ـ
شيئاً عنْ فقرِ الفقراءْ
ـ إنك تُغمطُني حقي يا شيخْ
فلماذا هذا الظلمْ ؟
ـ إنكَ وقِحٌ
ـ بل أنتَ الأبلهُ ، والشعرورُ ، وبيْتُ الدَّاءْ
نصَّان من قصائد النثر:
ضمّن الشاعر حسين علي محمد ديوانه قصيدة نثرية مطوّلة سمّاها "أحزان صباحية"، سوّدت الصفحات (72-75) من هذا الديوان، والطريف أنها كرصيفتها الأخرى بالديوان ـ والمعنونة "القاهرة 1968" تتخذان من "قصيدة النثر" أداة تعبيرية. والصياغة الفنية في قصيدة النثر لشاعر يكتب القصيدة الخليلية والحرة باقتدار لا تروق لي، لكني أقدّر حرية التعبير لدى المبدع، ولا أُصادر حقا يراه!
والواقع أن الاستقراء المبدئي للنصّ الأول يجد مفارقة غريبة ـ وإن لم تكن مقصودة ـ وهي أنها إعادة صوغ لتجربة كتبها الشاعر قصّة قصيرة، ومرّ عليها زهاء عقدين من الزمن!
ولن أتحدّث عن نجاح التجربة في الشكلين فيما يرى البعض. غير أني زعيم هنا بأن قصيدة "أحزان صباحية" كانت الأضعف من توأمتها "مهاتفة صباحية" المنشورة في مجموعة قصصية للشاعر تحمل عنوان "الطريق الطويل أو أحلام البنت الحلوة" .
إن تضمين الشعر فقرات النثر المتساوقة أو الجمل ذات البنى الإيقاعية لا يعني أنّ هناك قصيدة، بل حصادنا ـ وقتئذ ـ هو النثر في لغة شاعرة!
فالسرد القصصي راق في سائر معاييره عند شاعرنا على نحو ما ظهر في "القاهرة 1968" و"مهاتفة صباحية"، والسرد في البناء القصصي كان واضحاً متماسكاً في القصة، أما في قصيدة النثر المزعومة فالشاعر مجرّب، ويخرج نصه في تداعيّات أرى عدم مشروعيتها في الشعر ، باعتباره فنا، عماده وحدة الفكر (الموضوع)، ووحدة الإيقاع النغمي العروضي، ووحدة الائتلاف في اللغة وسيلةً ودلالةً.
إن "قصيدة النثر" المزعومة تخرج من دائرة ضروب الأجناس الأدبية، والأوْلى أن يُجوِّد المبدع في النوع الأدبي الذي يبرز فيه؛ فالمبدع ـ في حقيقته ـ هو الأساس الجوهري في الإبداع الأدبي، وليس هو الوسيط أو الناقل، أو الدراماتولوجي، أو السينماتولوجي كي يُلفِّق بين الأنواع الأدبية فوق مائدة الفنون المجمّعة، والفنون المجمّعة قد تقبل مثل ذلك التجريب بالتحوير والمعالجة والاقتباس والأخذ من أي نوع أدبي، بعد توطئته وترويضه للفنون المجمّعة، بينما فنون الشعور ـ ومنها الأدب، وأهم أنواعه الشعر ـ يجب أن تكون محافظة على تقاليدها الفنية، ومن ثم فإن الشعر يجب أن يظل شعراً كما هو في أدب أية لغة.
نصوص موازية في التجربتين:
يقول القاص حسين علي محمد في فصة "مهاتفة صباحية": "الظهيرة تبصقهما بجوار المستشفى الجامعي، يتحسس سحابة الجهامة .. كل المشاوير خاطئة في فم فائزة المحشو بالكراهية والنفور. فكيف تكونين يا رباب ضفة مشتهاة، وأنتِ ثمرة محرمة في يد الهارب البعيد؟!"
ويقول الشاعر حسين علي محمد في قصيدته "أحزان صباحية":
"الظهيرة تبصقنا
بجوار المستشفى الجامعي
أتحسس سحابة الجهامة
المشاوير خاطئة
فكيف تكونين ضفة مشتهاة" (ص74)
وليس من شك في أن القارئ المتذوّق سيُعجب بالفقرة القصصية في دقة تكوينها وعمق دلالتها، بينما التكرار مع التعديل في بعض المفردات في "قصيدة النثر" لا يُضيف جديداً عمّا أدّته سردية القصة.
وفي مقطع آخر يقول القاص حسين علي محمد في القصة نفسها:
"قبل أن أفكِّر في صعود الدرج للطابق الخامس ـ في نفس العمارة التي أسكن في الدور الثاني فيها ـ لمحادثة صديقي "حلمي أحمد"، كي يمنحني فسحة من الوقت ، لتأجيل خيباتي:
خيبة قديمة .. خيبة جديدة .. خيبة مقبلة. في زمن تضرّج بالسواد والحداد!" (ص88).
وفي نص مواز يقول الشاعر حسين علي محمد:
"قبل أن أفكِّر
في صعود الدرج للطابق الخامس
لمحادثة صديقنا "أحمد زلط"
كي يمنحنا فسحة من الوقت
لنؤجل خيباتنا:
خيبة جديدة
خيبة قديمة
خيبة مقبلة" (ص75)
فهل اختزال جملة واحدة من النص القصصي، وتعديل اسم الصديق من "حلمي أحمد" إلى "أحمد زلط" هو الذي سينقل النص من أدبيات القص إلى ما يُسمّى (قصيدة النثر)؟
إن مستوى شاعرية حسين علي محمد يربأ به عن ذلك التجريب الفني المراوغ، وعليه ألا يضمِّن أشعاره بعد ذلك ما يسمّى بـ"قصيدة النثر" ، ومن حسن الحظ أنه لم يكتب خلال ثلث قرن إلا ستة تجارب من هذا الأدب؛ فاللغة الشاعرة التي يمتلكها حسين علي محمد قادرة على الإبداع من خلال هيكل الشعر وميزانه وقوالبه، وهو يمتلك المضامين والرؤى التي تستحيل بين يديه شعرا.
وإن نصين مثل "القاهرة 1968" و"أحزان صباحية" منحا الشاعر الفرصة ليشير إشارة ذكية إلى التيّار الحداثي، ويكشف لهم أنه قادر على التجريب والتجويد أيضا.
ونحن نقول: فليجرّب الشعراء والكتاب في الأنواع الأدبية ما يشاؤون شريطة الوقوف فوق قاعدة يستندون عليها، وبعبارة أخرى: عليهم المحافظة على منطلقات كل نوع أدبي وخصائصه، وبالتحديد: من جذوره وأصول نشأته.
***
ظواهر فنية في الديوان:
أولا: في المحتوى والمضمون:
تنوّعت مضامين قصائد الديوان إلى مقاصد أو موضوعات متفرقة، مما يدل على قدرة الشاعر على التنقل من تجربة إلى أخرى، وأهم موضوعاته وفقاً لذيوعها في القصائد:
ـ رثاء الميت صديقا أو زميلا، أو من المحيطين به.
ـ الحزن لمن فارقهم الشاعر أو فارقوه.
ـ تشريح طبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة.
ـ الإحساس بمآسي المسلمين في العالم (مسلمي البوسنة نموذجاً).
ـ الشعور الأسري والاجتماعي (واقعاً، وفنا، وتخيلا).
ـ في أدب الحكمة، والسخرية من الحمقى والأدعياء.
ثانيا: في المستوى اللغوي:
من مكرور القول التأكيد على امتلاك حسين علي محمد للغة الشاعرة، وعدم وجود مستويات متفاوتة في لغة الديوان، حقا إن لكل تجربة لغتها الخاصة إلا أنها تظل على مستوى معجم الشاعر وثقافته وقاموسه الأدائي التعبيري، ولغة شاعرنا لغة فنية ذات مستوى ثابت: فيها تجويد للفصيح المستعمل، وتنأى عن الغريب المتقعِّر، ونلاحظ أن الديوان يكاد يخلو خلوا تاما من المفردات الأسطورية، أو الإشارية المُلغزة لدرجة التعقيد.
وقد تنوّع الأداء التعبيري عند الشاعر من قصيدة إلى أخرى، فمرة نرى صوت الشاعر، ومرة ثانية يُقابلنا الحوار الداخلي، ومرة ثالثة يختفي صوت الشاعر ليترك الحوار للآخر (انظر قصيدة حوار سيدين في مطلع الرحيل، ص62).
ومن الملاحظ على الشاعر أنه لم يقف في سائر قصائد الديوان موقف المختزل للغة، أو يضعها في مخيلته ضمنا، مما يجهد القارئ أو المتلقي إلا في مقطع شعري وحيد في الديوان، حيث يقول في "منولوج" استفهامي:
أُبْصِرُني كهْفاً مهْجورا
ما هيْكلهُ الأوَّلُ ؟
هلْ كانَ الجامِعُ ..
فِيهِ الصَّلواتُ وفيهِ الذِّكْرْ ؟
...
هلْ كانَ الشِّعْرْ ؟ (ص29)
ربما كان وعي الشاعر بالتنقلات الاستفهامية في هذا المقطع تُفصح عن شيء لم أستطع استكناه مقصوده، أو تأويله إلى إدراك قريب، مع مقطعه السابق أو اللاحق، ذلك أن مسافة لغوية مكتنزة ومختزلة بدرجة كبيرة، كنا نودّ التقريب لها من لدن شاعرنا المجوِّد.
في التشكيل الموسيقي والعروضي:
تفعيلات البحور القصيرة والخفيفة هي الوحيدة دون سواها معزوفة البنى الإيقاعية في الديوان: الرجز، المتدارك، الخبب، وهي بحور ـ سواء أكانت صافية التفعيلة أم مبتورة ـ فهي تميل إلى نسق التكرار، لتنسجم وحدات التفعيلات، في إيقاعها الداخلي المصاحب ـ وبالثبات دوماً ـ في كل قصيدة.
ولم يلجأ الشاعر إلى التنويع العروضي دالخل النص الواحد ـ في القصائد القصار والطوال ـ وإنما أسعفته مجزوءات البحور الخليلية القصيرة والخفيفة، حتى في أطول قصائد الديوان "فخـاخ الصحراء" وجدناه يُحافظ على النسق الموسيقي الأخّاذ، وهو يسترجع الذكرى مع صديقه الذي قضى نحبه:
تعالَ إلى حِضْنِ "عصايِدِكَ" الملهوفةِ
بالشوقِ
أعدْني طِفلاً ، لأهازيجِ الحقلِ
ولغوِ السُّمَّارِ
وقُلْ لي :
كيفَ تُضِيءُ حقولَ الصمتِ / الثرْثارِ
وتُسْرِجُ في قفْرِ هزائمِنا
خيْلَ النار ؟ (57)
أو قوله في ثبات موسيقي مستجاد:
أحببْتُكِ .. لكنْ لمْ أتكلَّمْ !
عانيْتـُكِ .. لكنْ لمْ أتألَّمْ ! (ص30)
ومنه قول الشاعر:
لاتسْتاْذِنُ أُفْقي / أفْقَكْ
كيْ تعْبَثَ فيهْ
شهقةُ صمتي / صمْتِكَ
تُنْبِئُ عن موتي / موتِكَ
ورحيلِ العُمرِ غُباراً في هذا التِّيهْ .. ! (ص23)
واللافت للنظر ونحن نحتفي بتلك المجموعة الشعرية الجديدة صغيرة الحجم، كبيرة المغزى، أنه كلما لجأ الشاعر ـ في غير تعمد ـ إلى تكثيف التجربة في شكلها المعماري، كلما تحولت إلى آية فنية نغبط الشاعر عليها.
أما الطول المفرط في بعض القصائد، وإن خدعنا الشعر بحكم خبراته ووعيه بتجديد دماء اللغة، كي يُفوِّت علينا الإطالة، لكنها بالرغم من كل احتراز فقد دوّنت الإطالة في بعض مقاطع القصائد، وأزعم أن لكل تجربة مدداً أو بوحاً قد لا ينتهي بمثل ما نلحظه في تجارب القصائد القصار؛ إلا أنني أميل إلى التكثيف دونما تعتيم، فالضباب يحجب الرؤية واقعاً وفنا. ونحمد الله تعالى أن نسبة القصائد الطويلة في الديوان لا تمثل سوى خمس عشرة بالمائة من مجموع قصائده.
تحياتي للشاعر في غنائياته ومراثيه، وفي أبعاده الإنسانية التي أومأ إليها، وفي مواقفه من الحياة والأحياء، وفي تهكمه الساخر مما يراه خطأً. وعلى الله قصد السبيل.
أ.د. أحمد زلط
</i>