(تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
..................................
يقول الشاعر في رسم تصويري يُجسِّد العار:
نمشي فوقَ مناكِبِ قتلانا
كلَّ مساءْ
تصفعُنا ذكراهُمْ
ليلاً ،
فجْراً ،
ظُهْراً ،
عصراً ،
صيفاً ،
وشِتاءْ
فلماذا تُمسِكُ مرآةَ الأيامِ السوداءْ
وتُحدِّقُ في الأُفْقِ المجدولِ بعارِكَ
في خُيَلاءْ ؟ (ص21،22)
ويبدو أن الشاعر حسين علي محمد لم يكف عن إلقاء السؤال مرة أخرى في قصيدة ثانية مماثلة، بعنوان "الشاعر والجنرال"، حيث يتساءل في مطلع استهلالي قائلاً:
لا تسألني عن آخر أشعاري
فأنا في الليلِ الدَّامسِ .. أخطو
ولحفلٍ شرسٍ أدعو الغربان
وفوقَ الطَّاولةِ المملوءةِ بالجثثِ المذبوحةِ
والخُطَبِ النَّاريَّةِ
ودسائسِ أولادِ القَرَدةِ
أخطُبُ ..
حتى يتثاءبَ في الليلِ الآتي
ظِلُّ غزالٍ يُشرقُ في برْقٍ ونُعاسْ (ص24)
والتجربة ـ كما نلاحظ ـ في هذا النص مغايرة لنصه الأول "الشاعر والوطن المنفى"، وإن بقيت الصورة النفسية لسيكولوجية الجنرال، تومئ للطغاة أينما كانوا، لكن الشاعر في ظل إجاباته عن تساؤلاته، يلعب دوراً إيجابيا مأمولاً من المثقف أمام الطغاة من العسكر.
إن لعبة تحييد البعض، وتجنيد بعضهم على بعض، أو التهديد بالسجن ـ وما أدراك ما سجن العسكر! ـ … وغيرها أضحت ـ كلها عند شاعرنا ـ غير ذي بال، فالشاعر هنا يقف مقاوماً، منوباً عن المقهورين والمظلومين، ومن ثم فإننا نراه ينتظر السياف:
حدُّوا شفْراتِكمو المُتأجِّجَةَ لبعضِ الموتْ
الرابضِ بينَ دمي والحرفْ
وليحفرْ كلٌّ منكمْ قبْرَهْ
وليعزِفْ موسيقاهُ السَّوداءْ
…
أبْعِدْ عنِّي يامسْرورْ
هذا الكذَّابَ المُختالْ (ص25)
يا تُرى كم صاحب قلم تحوّل إلى مُقاوم يقاتل كل محتال كذّاب بحد السيف وحد الكلمة المقاومة الحقيقية التي هي حدُّ الحق؟! حتى يتحوّل "مسرور" أداة الجنرال الطاغية وسيافه إلى رجاء يكشف احتيال وكذب الجنرال المختال طوال الوقت.
إن الشاعر إزاء السلطة في موقف فكري منشود يتكرّر بالإلحاح الصادق:
لا تسْألْني
هلْ هذا آخرُ شعرِكْ ؟
آخرُ شعري لمْ يُكْتَبْ بعْدْ !
فاكتُبْهُ أنتْ (ص28)
وقد يقول قائل إن الشاعر تراجع عن موقفه كبطل إيجابي مقاوم، وترك أغلى ثرواته، وهي هبة الفكر ووميض الإبداع: الشعر، حين تركه للجنرال وأعوانه يكتبونه، ومما لا شك فيه أن شعرهم سيكون النقيض الذي يكون معاكساً للحياة وتدفقها، بينما شعر الشعراء رسالة تحتاج إلى مناخ يكون أكثر وعيا بالحياة وصدقاً في تصويرها، لا كذباً أو تسلطاً أو اختيالاً، وهذا ما قصده شاعرنا من تهكمه اللاذع في سطره الساخر الأخير "فاكتُبْهُ أنتْ".
إن إتباع قصيدة "الجنرال والوطن المنفى" بقصيدة "الشاعر والجنرال" لا يعني أنهما متصلتان معاً بروابط فنية، أو أن القصيدة الثانية امتداد للقصيدة الأولى، أو هما ثمرتان لتجربة شعرية واحدة، كلا .. رغم أن "الجنرال" اسماً وصفة يظل كما هو بسلوكه العدواني ـ أو الفردي ـ غير أن التجربة عند الشاعر حسين علي محمد في القصيدتين ليست واحدة، بل متعددة التأويل.
أما ما نحمده للشاعر من شجاعة فكرية ومزية فنية معاً فهو بوْحه العاقل ـ أو شاعريته المُدرِكة ـ في نصه الشعري "سبع سنبلات خضر إلى بغداد"، وبغداد ـ كما هو معروف تاريخيا ـ من أهم مراكز الإسلام الحضارية، وعاصمة الخلافة والعلم، وصاحبة القوة والمنعة، بل هي بغداد الشاطئ والنخيل، يستعيدها الشاعر في رؤى ثاقبة: المآذن والقباب، والمروج والضياء، أين بغداد القديمة؟
إن حسين علي محمد يستحضرها، ويذكرها مشيراً إلى من ابتعد بها عن مجرى الحضارة:
"وأشارتْ: نأيْتَ بعيداً وكنتَ السِّراجْ
ـ …
ـ تناءيْتَ في الظلماتِ بعيداً
أعاقَكَ هذا السِّياجْ ؟" (ص63،64).
وليس من شك أن ما جعل حالها يؤول إلى تلك الحال هو:
"ذاكَ العتلُّ الزنيمُ على صدْرها جاثمٌ في اشْتهاءْ" (ص63)
والعتل الزنيم فيما صوّره الشاعر عن الجنرال المتوهّم القاعد على كرسي الطغاة، يشرب في لذة نخب الخراب والدمار، وموات الوطن في مكتسباته، ومجموع شعبه العظيم الذي أصابه اليأس والقنوط.
وفي المقطع الثاني من النص تهفو النفس ـ مع الشاعر ـ إلى تلك المواجهة:
"لأزقِّةِ الكرخِ العتيقةِ
شفَّني وجْدٌ ..
وكمْ يهْفو الفؤادْ
لصبيَّةٍ خضراءَ
في قصْرِ الرَّشيدِ
نأتْ عن القلْبِ المُضَرَّجِ بالسَّوادْ
ولخصلةِ الشعرِ الجميلِ على جبينٍ فاتنٍ
.. لحكايةٍ فاتتْ ليالي شهرزادْ
لقصائدِ الشِّعْرِ المُضَمَّخِ بالبطولاتِ النبيلةِ والعواطفِ والودادْ !
والجُرْح يرعفُ بالسؤالِ وقدْ نبا عنَّا الرُّقادْ :
أعصابةُ الأشرارِ تُخفي رأسَها في الجُحْرِ
هانئةَ ، ويُدمينا القَتَادْ ؟" (ص64)
وفي نقلة متباعدة مع الزخم الموروث السابق واقعة وذكرى، حيث يومئ الشاعر إلى غياب عقل بغداد، و"مقياس" وجودها المعنوي .. أحلام الشعراء، وأفكار النخبة في مزج الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل، حيث تسقط إلماعات نازك الملائكة المجددة، وثورة بدر شاكر السياب الموغلة في الآتي، وتسقط الأفكار والأحلام إلا من فكر واحد، وحلم مخرب واحد للعتل الزنيم الطاغي الذي لسان حاله يقول: أنا قائد الغر المنهزمين، لقد حاربتُ كل الجيران، وناس كثر من كل أجناس العالم راحوا جميعاً، وبقيت وحدي، ولا يفيق الطاغية إلا على كابوس مزعج: أين بغداد القديمة الجديدة، وكأنه لا يعلم ماذا جنت يداه قبل وأثناء وهم "أم المعارك"، ويقول الشاعر على لسانه:
"ـ أنا أبغي الأمامْ !
ـ هيّا إلى النَّوْمِ اللّذيذِ .. أما .. تنامْ ؟
الموْتُ مفتتَحُ الكلامِ ..
ـ أنا .. أنا ..
أبغي الأمامْ !" (ص67)
أما بغداد ـ يا حادي الطغاة ـ فتحتضر في اليوم ألف مرة، وأنت في وهم وغي بالغين. لقد كانت بغداد صنو القاهرة ودمشق والرياض والدار البيضاء، و.. ويا للأسف خاب الأمل وضاع الرجاء، ولقد أرجعت بغداد قروناً إلى غياهب الوراء، والظلام، والموت، والعجز. وما مِن نهوض لأنك جاثم فوق الصدور المتعبّة! وياللخزي إذ تغني للنصر الكاذب والفتح الكذوب، وأنت تعرف ـ وكل أفراد شعبك يعرفون ـ أنك مهزوم مهزوم!
لا يفقد الشاعر سراجه، أو صوته الحر المأمول دائماً بين الكاف والنون، الله أكبر على كل طاغية وباغ. ويفطن الشاعر حسين علي محمد إلى اللمسة الإيمانية الصافية في نصرة الشعب، ونهضة بغداد، بالرغم من مصيدة أعداء الأمس، وأعداء اليوم، فلا بد من كبوة لهم، ولا بد للطاغية من ميتة، فتحيا بغداد، وتحيا الحياة .. يقول الشاعر حسين علي محمد تحت مقطع غنائي آمل يحمل عنوان "الله أكبر":
"…
وبعدَ قليلٍ ،
أمُرُّ على بيْتِكِ الحلْوِ
أتْرُكُ أحزانَ قلبي ورائي
ورتْلُ الجرادِ إزائي
سيسْقُطُ دونَ كرومِكِ
أهتفُ :
يا أيُّها العابرونَ
مضيْتُمْ .. كليْلةِ حزنٍ طويلٍْ
ويا أيها الصُّبْحُ أشرقْ عليْنا
تَرَ اللهَ أكبرَ فوقَ المآذنِ ..
تسمعُ رجْعَ الصَّهيلْ
.. وهذي مروجُ الضِّياءِ
وهذي قناديلُنا في الليالي البهيجةِ
تضحكُ "نازكُ" ..
يُشرقُ وجْهُكَ يا "بدْرُ"
يُشْعَلُ في الليْلِ ضوْءُ السِّراجْ
وجئتُكِ بغْدادُ ..
.. غنَّيْتُ شعبَكِ ، أرْضَكِ ..
ما عاقَني ـ في الطريقِ ـ السِّياجْ !" (ص68،69)
لقد أضاف النص قيمةً ووزناً فكريا، بل تعاطفاً إنسانيا تجاه بغداد الإنسان والزمان والمكان، وهو شعور عربي وإسلامي جارف، عكسه الشاعر في أبعاده الإنسانية العميقة.
***
(يتبع)
</i>