( 13 ) ملامح بكائية الفقد، وصرخة المقاومة، وهدأة الجراح
قراءة في ديوان «النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة»

بقلم: أ.د. أحمد زلط
.......................

أمّا قبل:
فثمة حقيقة غائبة يجب أن نُفصِح عنها قبل الدخول إلى التجربة الشعرية الإنسانية في ديوان حسين علي محمد الذي بين يدي القراء، والمعنون بدلالة لفظية أو فكرية تقول "النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة"، أما الحقيقة فمفادها متابعتي النقدية لكل عطاء يثمره الشاعر أو يُطالعنا به، وليس قلمي فيما قد يظن البعض هو الوحيد المتابع، بل هناك عشرات الأقلام التي تابعت نتاج الشاعر في الربع الأخير من القرن العشرين، أمثال الأساتذة والدكاترة: طه وادي، وعلي عشري زايد، وحلمي القاعود، وصابر عبد الدايم، وحامد أبو أحمد، وحسني سيد لبيب، ومحمد جبريل، ومصطفى النجار، وأحمد سويلم، وأحمد فضل شبلول … وغيرهم.
إن جيل السبعينيات والذي تحول إلى تجمّعات أدبية أشبه بالمعادل الموضوعي الذي تحقق حلمه في الطموح الإبداعي غداة انتصار 1973م، ألفيناه يتجمّع في جماعات أدبية، مثل: الكلمة الجديدة، وأصوات معاصرة، وفاروس، وإضاءة … وغيرها، ولقد نحتت هذه الجماعات نقّادها، وقدّمت إلى الساحة الأدبية نخبة من المبدعين طوال الربع الأخير من الألفية الثانية، وكانت المتغيرات المحيطة بجيل السبعينيات في قوتها واندفاعها كفيلة بأن تعكس هموم هؤلاء وأولئك بنفس فدر التطلع إلى حلمهم الإبداعي المشروع الجميل.
في ضوء تلك التوطئة خرجت إلى النور "أصوات معاصرة" ممثلة لما ذكرناه، منذ أن أصدر مؤسسها حسين علي محمد عددها الأول في أبريل 1980م.
ومن المنطقي أن يكون من بين كل تجمّع أدبي الأقلام التي يقع على عاتقها هم الإبداع الأدبي ونقده، في خط مساوٍ لهموم النشر والتوزيع، ذلك أن المجهودات الفنية والطباعية والتسويقية وغيرها عبّرت عن إرادة جيل أدبي لفّه الانكسار ـ مع أنه جيل الإنجاز ـ كانت أقلام حسين علي محمد، وصابر عبد الدايم، وأحمد زلط تختط مع بقية جماعة "أصوات معاصرة" طرائقها، وتحدّد ملامح رسالتها، وتنوّعت التجربة عند كل في الشعر والقصة والمسرحية والنقد، كأنما تتكرّر تجربة الأجيال الروّاد الأوائل الذين قادوا النهضة الأدبية في الأدب المصري، بل الأدب العربي الحديث، حيث عضّد كل قلم الآخر، في موضوعية وصدق، ولذلك تواصلت نجاحات "أصوات معاصرة" من طباعة "الماستر" المحدود إلى الطباعة المعاصرة الفاخرة، وهي في ضوء ذلك وعاء لمحتوى رصين وباق، لا يكتب المكرور والتافه، ولا يقصد إلى إزهاق روح المتلقي بأفانين ما بعد الحداثة.
ومؤسس الجماعة (حسين علي محمد صاحب هذا الديوان الجديد) يمتلك مع زميليه صابر عبد الدايم وأحمد زلط آفاق التجديد، لكنهم لا ينطلقون إلا من ثوابت أصيلة في أرض الواقع إلى فضاءات التجديد المحلقة النقية التي تبني ولا تهدم، ويقيني أن عدة طبعات في عشرات من العناوين لأقلام هؤلاء في الإبداع والنقد كفيلة بالرد على كل راصد للحركة الفاعلة في جماعة "أصوات معاصرة" وحيويتها.
إن الحرية الفكرية أو مبدأ الاستقلال لفكري عند هؤلاء لم يكن ليمنع من تحقيق رسالتهم الجماعية (الأدب العربي المعاصر: حق وخير وجمال)؛ فلكل خطه الإبداعي أو نهجه الفكري الفردي، لكنه لا يتعارض مع كون "أصوات معاصرة" رسالة تبني وتعلو، وبحمد الله لم تؤطَّر "أصوات معاصرة" في أي منحى إيديولوجي أو مادي، ذلك لأن أصحابها أدركتهم هواية الأدب، ونوافذ أحلامه المعطّرة بأنداء الحياة.
أبعاد التجربة الإنسانية في ديوان
"النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة"
بين يدي القراء ديوان صغير الحجم، كبير القيمة، أسماه صاحبه الشاعر حسين علي محمد "النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة"، ويضم عشرين قصيدة، منها التجربة المطولة والتجربة المكثفة، وهي نصوص شعرية ناضجة كعهد القارئ بالشاعر في إصداراته الأخيرة غنائية أو درامية. وعنوان الديوان من العناوين المستقاة من وحي غربة الشاعر حيث يعمل بالمملكة العربية السعودية، ولا ينخدع القارئ بأن عنوان الديوان تكرار لتجربة الغربة في ديوانه السابق "غناء الأشياء" الذي أهداه لفاطمة؛ فالبوح هنا غناء في أبعاده الإنسانية المستجادة، حول الفراق أو الموت، وثلة الأصدقاء، وهي في عمومها غنائيات تدور في دائرة البعد الإنساني (الأسري / العائلي)، ولم تشذ عن هذا الاتجاه العام إلا قصائده:
1-الجنرال والوطن المنفى.
2-الشاعر والجنرال.
3-سبع سنبلات خضر إلى بغداد
4-هوامش المسلم الحزين.
بينما عبّرت ست عشرة قصيدة عن الأبعاد الإنسانية التي ألمحنا إليها، وهي قصائد:
1-فراشات زرقاء.
2-أغان صغيرة إلى فاطمة.
3-عرس أمينة.
4-صبيحة الغياب.
5-انكسار.
6-رحيل آخر 1996.
7-النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة.
8-الصارخ في البرية.
9-فخاخ الصحراء.
10-الغائب.
11-.. ونام في سلام.
12-حوار سيدين في مطلع الرحيل.
13-دموع الحاسوب.
14-مكان بالقلب.
15-أحزان صباحية.
16-القاهرة 1968.
وسنحاول استقراء النص الشعري لغةً وفكراً وبناءً في مجموع قصائد الديوان، وليكن استهلالنا في مقاربة تللك النصوص التي تتكئ على علاقة المثقف بالنخبة العسكرية، ثم مردود فعل العسكر في نص "هوامش المسلم الحزين"، يقول الشاعر حسين علي محمد في قصيدة "الجنرال والوطن المنفى"، يخاطب الجنرال المتوهم بالغزو، وأم معارك النصر، وما آل إليه فعله الأحمق:
ماذا تفعلُ
تحت غيومَ الوطنِ
المُثقَلِ بالفقْدِ ،
وأوحالِ الدَّاءْ ؟
خُضتَ بحارَكَ حتَّى الرَّقَبَهْ
هلْ كان الموتُ يُسابِقُ حُلْمَكَ ..
يَسْرِي في نبْضِ دِماءْ
تُعلِنُ عنْ ليْلٍ يتخفَّى
تحت الأضلاعِ الستة للنجمةِ
في الأنحاءْ ! (ص21)
لقد أجاد الشاعر وصف الجنرال في عناده وغيه، وفي تعطشه الدموي، وفي أوحال يجول ويصول فيها العسكر الذين أذاقوه الخزي والعار، وجعلوه يردد طعم المذاق المر / العلقم: الانتصار!
وفي مقطع لاحق من القصيدة يفطن الشاعر إلى فداحة جرم الجنرال الذي عذب وطنه، بل أوجد ـ بعناده ـ عذاباتٍ وجراحاً لا تندمل، وقد استعار الشاعر تفصيلات الزمن في المقطع كي يؤكِّد على طول المعاناة، وآثلر الذكرى الأليمة التي تُشبه العلقم، نتيجة وسبباً لخيلاء الجنرالات، أو عنادهم البغيض.
(يتبع)


</i>