( 9 ) «حوار الأبعاد الثلاثة» مجموعة شعرية جادة
بقلم: بـدر بديـر
.................
كتب الأستاذ الشاعر حسين علي محمد "رسالة القاهرة الثقافية" في عدد 9/2/1978م من جريدة "أخبار الأسبوع"، وتعرّض في إحدى فقرات رسالته لسلسلة "كتابات الغد" التي قدمت عطاء خصبا وجادا تمثل في سبعة كتب أصدرتها خلال عام.
وفي هذه الرسالة من القاهرة نعرض لديوان "حوار الأبعاد الثلاثة"، وهو الكتاب الثاني في هذه السلسلة، ويضم مجموعة شعرية للشعراء الشبان: حسين علي محمد، ومحمد سعد بيومي (وهما من مصر)، ومصطفى النجار (من سورية)، وقد قدمت السلسلة هذه المجموعة الشعرية بقولها:
"تضم هذه الرحلة ثلاثة أصوات جديدة تُضيف إلى النبض الشعري حيوية وحركة وإثراء، ويُحاول كل منهم أن يُقدِّم رؤيته المتفردة للكون والحياة. وأصحاب هذه القصائد لا يثقدِّمون تجاربهم الأولى هنا، وإنما يحرصون على أن يقدموا شعاعا جديداً للقارئ العربي، وقلة القصائد لا تعني شُحا في الإنتاج بقدر ما تعكس أزمة النشر وضيق ذات اليد".
إن صدور هذه السلسلة من "كتابات الغد" يدل على روح الإصرار التي يتمتع بها فريق من الأدباء الشبان، فهم بهذا الإصرار يتحدون أزمة النشر وانصراف معظم الصحف والمجلات عن الاهتمام بالناحية الأدبية عموما وبإنتاج الشباب على وجه الخصوص.
ولولا هذا الإصرار لحُرمنا لحظات ثرية قضيناها مع "حوار الأبعاد الثلاثة".
وإذا ألقينا نظرة على قصائد هذه المجموعة المشتركة طالعنا اللوحة التي تضم عدة صور حية تجمع اللون إلى الحركة إلى الصوت فـ "القاهرة 75":
وجهُ مصبوغٌ بالألوانِ الصَّارخةِ الفتّانهْ
عاهرةٌ تحبسُ جسداً رخصاً في فستانْ
تجلسُ في مَرَحٍ نشوانَهْ
وهي أيضا:
رجلٌ لايملكُ نصفَ القرشْ
كيْ يبتاعَ رغيفاً
يرفعُ رأساً مخضوباً بالحنَّاءْ
وهي أيضا:
طفلٌ يتعلمُ: ألفٌ .. باءْ
هذه الصور الجزئية التي تتقابل وتتجمَّع لتكوِّن لوحة حية نابضة بالحياة بكل ما فيها من خير أو شر.
وإذا تناول النيل باعتباره معلما رئيسا للقاهرة بتناوله كفكرة للسخاء ورمز له:
النيلْ
يعطي، لا يبخلْ
فيّاضٌ لا يتمهَّلْ
ينسابُ الزورقُ فوقَ مياهِ النهرْ
وعيونُ الصَّخْرْ
تحلُمُ بالخضرةِ أنْ تُزهِرَ ذاتَ صباحْ
وحسين علي محمد لايكتفي باللوحة الحية، وإنما هو شاعر استطاع في أكثر قصائده أن يوسع دائرة همومه، فهو لا يدور في فلك ذاته وإنما يقترب من هموم الناس بشكل غير مباشر، وهذه الخاصة تؤهله لكتابة الشعر المسرحي القادر على عرض آفاق الحياة.
وحتى حينما يقترب حسين علي محمد من ذاته ويُعبِّر عن تجربة خاصة من أرق ما قرأت بعنوان "القيظ"، حتى في هذه التجربة الذاتية عندما يصف مدينته يصفها بأنها مسكينة، والشمس قاسية صباحا على شبابيكها:
انتظريني
فالشمسُ القاسيةُ صباحا
فوقَ شبابيكِ مدينتنا المسكينهْ
تُدنيني
منْ أهوالٍ تملؤني رُعباُ وجراحا
تُفزعُ روحي التوّاقةَ لاستقرارٍ وطمأنينهْ
وإني لأحب أن أقرأ هذا الجزء الختامي للقصيدة مرات عديدة:
مادمتِ معي
أحزانُ العالَمِ لا تجتاحُ قلوعي
أو تقدرُ أنْ تهزمني !
اقتربي مني
همساتُكِ تُذهبُ عني جزعي
وتُعيدُ إليَّ ربيعي
أما الشاعر محمد سعد بيومي ـ في قصائده الثلاث التي تضمها هذه المجموعة: الصوت الآخر، والغريق، والخروج من البحر ـ فإن الحيرة سمة بادية في شعره؛ فهو إما غريق، أوْ مصارع للموج، أوخارج من البحر، والبحر هنا تيه وحيرة وهموم تصبغ الكلمات بلون حزين:
الجزرُ يُلاحقُ ظهرَ المَدِّ
وطيْري المرجوُّ يُجافي أُفقي
والبحرُ عنيدٌ يُزبِدُ في صفحاتِ النفسِ
ويصعدُ بالموْجِ إلى حلْقي
والجوعُ يُقلِّصُ أوردةَ القلْبِ
ولا أملِكُ ما يكفي رمقي
والعاصفةُ المحمومةُ في القلبِ تلوكُ خليّاتي
والشوقُ الدوّامةُ يُطمعُني في الشاطئِ
والبرُّ بعيدٌ .. بعدَ الأفقِ عنِ الشفقِ
…
وقفتْ دفَّةُ عمري بينَ الموْجِ
اختلطَ الأبيضُ بالأسودِ في عيْني
ها قدْ أصبحْتُ طريداً للأمواجِ
ولا عاصمَ منْ قبْضِ البحرِ ولا راحمَ
إلا الشاطئَ
والشاطئُ لا يبدو في عيْني !
والسخط على النفس بارز في قصيدة "الغريق" فهو صندوق خرب، وأفئدة الأحباب والأصحاب والأحياء الموتى كلها صناديق خربة:
صندوقٌ خربٌ أتحرّكُ
في ضوضاءِ الطبلِ الأجوفِ
آكلُ، أشربُ، ألهثُ
أتحرّكُ نحوَ القمةِ
فوقَ القمةِ صندوقي الفارغ
وإذا كان السخط على كل شيء سمة بارزة للشاعر في هذه القصيدة فالشاعر في قصيدة "الصوت الآخر" صاحب قضية اجتماعية يُدافع عنها منددا بالانتهازية والانتهازيين الذين يعتصرون دماء الكادحين:
نبضاتُ المطحونينَ هي الجانحةُ على الطرقاتِ
لتُحصي أيديهمْ
والإفرازاتُ الكادحةُ البكرُ هي الأجيالُ، وهاهمْ
يردمُ كلٌّ منهم بركَ الضغْنِ المدسوسةَ حول الأشجارِ ..
المشرقةِ الملأى بثمار المكدودينَ ، وهاهمْ ..
يبسطُ كلٌّ منهمْ راحتهُ،
لنْ تدمي قدماكِ من السيْرِ على راحاتِ المطحونينَ
.. فغنِّي لشبابِ العُمْرِ ..
فما أجملَ أنْ يتغنَّى فمُكِ الباسمْ
وإذا كان اندماج شاعرينا السابقين في دائرة أوسع من دائرة ذاتيْهما قد سبب لهما أحيانا شيئاً من الغموض فإن شاعرنا مصطفى النجار بتركيزه على تجربته الذاتية يتميز شعره بالبساطة المحببة إلى النفس؛ فقد جاءت قصائده الثلاث من الغزل، فهو في الأولى يدعو صاحبته إلى الابتسام ومسح الدموع، وفي قصيدته الثالثة يجري من عيني محبوبته إلى عينيها، فالحب قدره ودربه.
وأما قصيدته الثانية "في محطة الانتظار" فهي أرق نغمات هذا الشاعر الغزل، وهو يقترب فيها من مستوى الشعر الإنساني الخالد، فقد استطاع ان يعبر عن انفعال الإنسان في موقف خاص حيث تمر السنون والأمل في اللقاء يتجدد، ولا يضيع إلى آخر لحظة:
ومرّت السنونْ
وأزهر الحنينُ والحسُّونْ
يستنظرُ الغصونْ
هلْ يلتقي الحنينُ بالحسُّونْ؟
أقولُ يا واعدتي
ترمّدتْ مواقدُ البخورْ
وصوّحتْ مشاتلُ الزهورْ
أم أنني مخمور ؟
أوّاه يا واعدتي
لو يكذبُ الشعورْ !
والشاعر في هذه القصيدة يستخدم أرق الألفاظ وأكثر العبارات ثراء بالحنين.
تحية إلى الشعراء الثلاثة، ونرجو ان نقرأ لهم باستمرار.
بدر بديــر
.................................
*أخبار الأسبوع" الأردنية ـ في 16/2/1978م.