ويلحق بنبرة المقاومة والتأبي هنا قصيدتان، هما: «سبع سنابل خضر إلى بغداد» (ص63)، و«هوامش المسلم الحزين» (ص46).
جاء في الأولى:
وهذي مآذنُها في الفضاءِ
البعيدِ
تُناجي السماءَ
.. وهذي الصَّواريخُ تنهالُ
فوقَ رؤوسِ الشيوخِ / الصبايا / النساءْ
إلى أن قال:
.. وهذي مروجُ الضِّياءِ
وهذي قناديلُنا في الليالي البهيجةِ
تضحكُ "نازكُ" ..
يُشرقُ وجْهُكَ يا "بدْرُ"
يُشْعَلُ في الليْلِ ضوْءُ السِّراجْ
وجئتُكِ بغْدادُ ..
.. غنَّيْتُ شعبَكِ ، أرْضَكِ ..
ما عاقَني ـ في الطريقِ ـ السِّياجْ !
وفي الثانية:
هذا هو القرآنُ في العيونْ
رفيقي الحنونْ
يضيءُ دربيَ المسكونْ
بالرُّعبِ والجنونْ !
متى سنتلو "سورة القتال"
نكونُ خيرَ أمةٍ قدْ أُخرجتْ للناسْ
العدو واحد إذن، فالهتاف واحد كذلك، وهو قمة أدب المقاومة، وإن كنتُ لا أرى «وذاكَ العتلُّ الزنيمُ على صدْرها جاثمٌ في اشْتهاءْ» في المكان الصحيح من قواميس السياسة والمداورة على الأقل، فقد تدور الأيام، ويُصبح صديقاً للشعر العربي والحلم العربي كما كان.
أما الصرخة المطلقة إلى مسلمي العالم في: هذا هو القرآنُ في العيون" فهي صحيحة تسامتْ فوق ما نعرف وما نقرأ من صيحات ودلالات.
3-أما النوع الثالث وهو البوح الرثائي والمتمثل في قصائد «صبيحة الغياب» و«انكسار» و«رحيل آخر عام 1996م» و«الصارخ في البرية» و«فخاخ الصحراء» و«الغائب» و«نام في سلام» و«مكان في القلب»، وسأمثل لبعض هذه القصائد.
وهي قصائد رثاء في لهجة حميمة إلى أصدقائه الذين طواهم الموت، وقد خلّفوا أعمالاً وأحلاماً لا يطويها الزمن، ولا تمحوها الأيام
يقول في « صبيحة الغياب» (ص16) يرثي صديقه المرحوم عبد الله السيد شرف:
متى ستُشرقِينَ في غيابِهِ الطويلْ ؟
(تُجيبُ في قَلَقْ)
ـ غداً
ـ إذنْ متى ستكتُبينَ سطرَكِ الجميلَ
في الرسالةِ الأخيرَهْ ؟
إلى اللقاءِ يا حبيبتي المُسافِرهْ
في دوْرَةِ الفَلَكْ ؟
ويقول في «الصارخ في البرية» (ص44) يرثي صديقه المرحوم كمال النجمي:
كنتَ وحيداً تقفُ على رأسِ طريقِكَ
تصرُخُ في جمْعِ الشُّعراءْ :
كونوا مِلْحَ الأرْضِ
سياجاً للضُّعفاءْ
نوراً في الظَّلْماءْ
ازْوَرُّوا عنْكَ جميعاً ،
كانوا في الليْلِ فراشاً
يتساقطُ دونَ الأضواءْ
ويقول في « فخاخ الصحراء»:
تعالَ إلى حِضْنِ "عصايِدِكَ" الملهوفةِ
بالشوقِ
أعدْني طِفلاً ، لأهازيجِ الحقلِ
ولغوِ السُّمَّارِ
وقُلْ لي :
كيفَ تُضِيءُ حقولَ الصمتِ / الثرْثارِ
وتُسْرِجُ في قفْرِ هزائمِنا
خيْلَ النار ؟
ويقول في قصيدة «ونام في سلام»:
تعودُ للترابْ
يا أيُّها المسافرُ الحبيبْ
تعودُ .. في العينيْنِ أُغنيهْ
وفي الدروبْ:
مقاطعُ الغيابْ /
مدى كيانِكَ الرَّحيبْ /
ونبْضُ أُمسيَهْ
.. ملأتَها بالشعرِ والسَّمَرْ
يا أيُّها الغريبْ !
متى يعودُ صوتُكَ المليءُ بالبروقِ والضِّياءْ
يقصُّ لي حكايةً خضراءْ
عنِ الفراشةِ الزرقاءِ،
والغيوبِ،
والأحلامْ
وطفلةٍ كفلْقةِ القمرْ
تدعو .. بأنْ تعيشَ ألفَ عامْ
ويقول في قصيدة «مكان بالقلب» الخليلية:
لئنُ غالنـا عاصِفٌ في شتـاءٍ
ومزّقتِ القلبَ ريـحُ الشمالْ
فإنكَ بالقلبِ نبضُ اشتيــاقٍ
وذكرى وجــودٍ عصيِّ المنالْ
***
وفي مكــةَ الحـلمُ كمْ ضمّنا
خيــالٌ لـهُ في الفيافي جلالْ
وقُلتَ: أنـا في القـصائدِ نبْضٌ
وفي الشعرِ عاطفةٌ لا تُنـــالْ
كذلكَ أنتَ صديقـــي هنا
مكــانُكَ بالقلبِ أغلى اللآلْ!
دلالات واضحات على مدى حبه لرفاق دربه وغربته، وقصيدة عبد الله السيد شرف، وكمال النجمي، وكذلك أحمد الذي لم يعرفنا به، ويبدو أنه رمز لعزيمة يونيو وشهدائها.
وتتداعى الأحلام والرؤى فيذكر قريته الجريحة بالشوق، ويتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء، فتعود أغنيات الحصاد واللهو البريء، فيقاوم الهزيمة بلعبه وخيوله.
أما رثاؤه الكبير في قصيدتيه إلى صديقه الراحل الدكتور محمد علي داود، فيذكر بالتفصيل لمسات اللقيا، وطفلته الغريرة الجميلة كفلقة القمر التي تدعو لأبيها أن يعيش ألف عام.
ولكنني هنا أسأل: وماذا بعد الألف عام؟
ويودع صديقه الوداع الأخير، ثم يستدرك: ولكن وداعك إلى مكانك الأثير بالقلب يا أجمل الكنوز وأحلى اللآلئ.
4-والبوح الإخواني لصديقه الشاعر أحمد فضل شبلول، وقد تركه وعاد إلى وطنه وبلده الإسكندرية. فيقول في قصيدة «دموع الحاسوب» (ص37):
هذا شايٌ باردْ
لنْ التفِتَ إليْهْ
لنْ أُبعِدَهُ عنْ طاوِلَتي
في هذا الصُّبْحْ
فالحاسوبُ يُراقِبُ بادِرتي
هلْ يُمليني شيئا من حكْمتِهِ
ويُداوي الجُرْحْ ؟
تجارب إنسانية، كلها تشير إلى نفس صافية محبة عاشقة، عشق الروح للروح، مستقاة من وحي الغربة، فليس ثمة ما يبعد خواطر الاغتراب وأحلام العودة صباح مساء عن المغترب القابع في أقصى الباحة سوى أوراقه وقلمه، وجلسة وديعة، ودمعة شجية يسكبها يراعه الحالم، والذي يحس إحساسه وينبض نبضه.
وتلك خلجات حزن وبارقات أمل، وأغنيات عشق نزجيها إلى أصدقائه وأحبابه وأهل بيته ورموز فكره علها تخفف لوعة البُعد ولواعج الفراق.
بقيت قصيدتان هما «أحزان صباحية» و«القاهرة 1968م» وهما من قصائد النثر، وقد أضافهما الشاعر إلى بكائياته وهمومه في شكلهما النثري القصصي، فهو قد عبّر عن خلجاته بشتى فنون الشعر وأشكاله العمودي منها والحداثي والنثري وحتى العامي؛ فقد سمعته يقرأ قصيدة من هذا النوع العامي، ولكنها جميلة بكل المقاييس، ورامزة [يقصد قصيدة «جواب من بقرة إلى ساقية»]، وإن كان يعدها ذكرياتٍ درستْ من تراجم الماضي السحيق.
وأنا هنا أسأله: وما الذي يعيب شعراً عامياً بهذا الجمال؟!
وهنا أستأذن من يسمعون ومن يقرأون فأنا لستُ ناقداً ولا كاتباً له منهجه وفعالياته .. إنما هي فقط مشاركة إيجابية في المُدارسة والحكْي، فقد سمعتُ أخي وصديقي الدكتور حسين علي محمد صاحب هذا الديوان يقول:
«إذا لم نكتب نحن عن أنفسنا فلن يكتب عنا أحد».
ولذا رأيتُ أن أستجيب لهذه الوصية!
وأعتقد أنني هنا ألوي عنان القلم مخافة أن يستطرد أكثر وأن يبوح أكثر سيما والحديقة أمامه تزخر بالطيوب والأزاهير.
والبوح لا مدى ولا غاية له إلا إذا أوقفنا نحن دموعه ولواعجه، وأغلقنا فيوض النبع وقطوفه، ولكن إلى حين.
وأشكركم، وتفضلوا بقبول تحياتي.
محمد سليم الدسوقي
ديرب نجم 12/8/2000م.
</i>