( 7 ) بين تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة:
قراءة في ديوان «النائي ينفجر بوحاً» للشاعر الدكتور حسين علي محمد

بقلم: محمد سليم الدسوقي
................................

ليس كل من أمسك القلم بمستطيع أن يكتب عن الدكتور حسين علي محمد، لأنه شاعر ذو أبعاد عديدة:
فهو عندما يكون شاعراً يصعد فوق قمة الدلالات والمرامي، ويمتلك ناصية الهدف.
وبين هذا وذاك يملك لغة مطواعاً، وجدة فيّاضة يقطفها من أغصانها، ويضعها في سلاله باقتدار وبفن جذاب خلاّب، ويجعلك تراها وتتذوّقها بفطرتها هي لا بشهيتك أنت، وكأنها خلقت هكذا في بهاء وجمال، وتأبِّي هذه السلال اللهم فيما يفوح فيها من قطوف ومن عبير، وفيما يُرى فيها من طيوف ومن حرير، وفيما يُسمع منها من هموم ومن هدير.
وعندما يكون قاصا فإنك تغوص معه في معاني القص ودروبه وأزقته وعذوبته.
وعند اختلاط السبل وتعدد المسارات تقف قليلاً لتسأل أين أنا الآن؟ فتجد لافتة أمامك برقم الهاتف وإشارات الطريق.
وعندما يكون ناقداً فإنك تقرأ له أو تستمع إليه وهو يسوق إليك المنهج والأمثولة، وقد أسلمت إليه القياد لترى وتلمس ما كنتَ تود أن تسمعه وأن تراه.
وأعتقد من واقع تجربتي الشخصية معه، أنه واحد من أولئك الأدباء الكبار الذين لهم طابعهم الخاص، وتميزهم المتفرد الذي يعشق الأدب ويهضمه لحماً وشحماً ويُعايشه بشكل غير عادي قراءةً وكتابةً.
فهو غيطه وهو بيته، وهو حياته، بل كل ثانية من ثواني هذه الحياة الخصيبة قراءةً وكتابةً وحديثاً وتفكيراً.
فهو قد ينسى ماذا طعم وماذا شرب؟ لكنه بالتأكيد لا ينسى فكرةً أو أسلوباً أو تعبيراً قاله منذ سنين، أو زميلاً عايشه هنا أو هناك جمعته به أدنى الصلات، والحديث الذي دار والزمان والمكان وكأنه يقرأ من كتاب.
وأشهد وأنا واحد من هؤلاء أنه دفع بي دفعات قوية إلى الأمام، وأنني إذا كنتُ حققتُ أعمالاً فهو مَن وراء ذلك، وأنه الصاحب الحقيقي لما كتبتُ من «صلوات على زهرة الصبار»، و«طقوس الليلة الممتدة»، و«الحب في زمن الرمادة»، و«من دفتر العشق الإلهي».
فطالما كان يسألني عندما كنا نلتقي زمان اغترابي عن الأدب فترة طويلة هذا السؤال الذي أرجعني سريعاً إلى جادة العمل الأدبي وهو: ماذا عن الإبداع؟
وكنتُ أجلس لأقرأ وأكتب لأجيبه على هذا السؤال الصعب عندما أقابله.
وأعتقد أنه كذلك كان مع الكثير من الزملاء غيري، وتلك لمحة ما كان بالإمكان أن أداريها أو أنكرها عليه أو على نفسي فهو محب لزملائه، محب لأعمالهم، ومشجع لهم، وموجه إلى تصويب العمل وتجويده.
ولستُ أنسى عندما قال لي يوماً: «عليك أن تسلك دروب الجديد وأنت قادر على ذلك»، وقد كان.
***
وبالقراءة المتأنية لهذا الديوان الجديد «النائي ينفجر بوحاً» نجد أنه خطرات جميلة لما يعتمل في نفس الشاعر من لواعج الغربة وتداعياتها من غربة في الوطن، وغربة عن الأهل والسكن، وغربة عن الأصدقاء، وحنين إلى ذكريات الراحلين.
وتلك دلالات ومواقف في الشعر العربي قديمِه وحديثِه، ومنذ عُرف الشعر والشعراء والتعبير الجميل.
لكنه في جذورنا القديمة كان على بكاء الأطلال، وحنيناً إلى الديار الدوارس.
ففي الأدب الجاهلي:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وفي الأدب الأندلسي:
جادك الغيْثُ إذا الغيْثُ همى
يا زمانَ الوصْلِ بالأندلـسِ
لكن لغة العصر وتناولاتها تختلف مع التوحد في الرؤية والهدف: وهذا هو الاستحداث الذي أفرزته العصور المتتالية والمتتابعة تتابع الأيام والليالي.
***
ونستطيع أن نستطلع البوح الذي جاء بهذا الديوان ما بين:
*بوح الأسرة والأولاد وأولاد الأصدقاء,
*بوح للوطن، وتصد بالقلم والوجدان لأعدائه الخارجين من المستعمرين وجنرالاتهم، أو لأعدائه من داخل الوطن نفسه والمتعالين عليه تعاليَ جنرالات الأعداء.
*بوح رثائي لزملاء الغربة وأصدقاء الكلمة ممن دهاهم الدّهر، ولفهم الموت بعباءته السوداء.
*بوح إخواني لأصدقاء فارقوا دار الغربة فقط إلى ديارهم بعد طول غياب عن أرض الوطن يُذكِّره بهم دموع الحاسوب، وكوب الشاي، وفنجان القهوة، ولقمة الخبز.
وذلك كله في إيقاع حداثي رتيب، يمتاز بالصقل والتجويد، ونبض اللغة، وفيض الدلالات.
أو في إيقاع خليلي قشيب يمتاز بالشجو والتطريب والتجديد ودوران الألفية الثالثة بعد القرن الفائت ـ (انظر هذه اللغة: سوحي ـ شيّأني الحاسوب ـ الأوانس ـ ذوات الحجال).
1-فالبوح الأول تجلى في هذه القصائد: «النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة»، و«فراشات زرقاء»، و«أغان صغيرة إلى فاطمة»، و«عرس أمينة» .. وذلك على سبيل المثال لا الحصر، يقول في قصيدة «النائي ينفجر بوحاً»، (ص40):
كانتْ كالوَتَرِ المقطوعِ
تُدنْدِنُ أغنيةً خضراءَ الأحرُفِ
في عيْنيْها حُزْنٌ يَدْفُقُ
في رَهَقِ أُنوثتِها
ويقول:
ـ وأنتَ النِّيلُ المانحُ سرَّ التَّكوينِ
نشيدَ الخلْقِ
ـ دمي طوْعُ بنانِكَ
ـ شيَّأني هذا الدَّرْبُ الصَّامتُ
ـ حاصرني فيْضُ حنينِك
ويقول في قصيدة « فراشات زرقاء» (ص5):
في صُبْحٍ آخَرْ
ـ وصهيلي في الآفاقِ يُردِّدُ أُغنيةَ البدْءِ
أراني قُدَّامَكِ
تتفتَّحُ أزْهارُكِ
ويُمازِجُني عِطْرُكِ
وتُفاجِئُني أطيارُكِ إذْ تخْرُجُ
في كَفَّيَّ لآلئَ خضْراءْ
تنفَتِحُ على القلْبِ
أماكِنَ
ومجالاتٍ
ورُؤى
تتجدَّدُ ، أوْتُخْصِبُ باللذَّةِ
(هذا النَّصُّ يُغايِرُ
ما ألِفتْهُ العيْنُ قديما
في آفاقِ الشُّعراءْ !)
...
فلماذا يقْبَعُ حسْنُكِ
في الطَّلَلِ الباكي
إيقاعاً
خاصًّا
يتَنَزَّى في شريانِ القلْبِ
صباحاً
ومساءْ!
فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ
فوقَ النَّهْدِ
وتحتَ الخَصْرِ
وحوْلَ العيْنيْنِ
وفَوْقَ جبينٍ
كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
حنين كامل إلى رفيقة دربه، وهو يحلم بالضوء والخضرة والعشب والصباح الذي يُبدد تعب الأم الرؤوم بين أبنائها، تُكافح وتُنافح لتبني مُستقبلاً وتُنشئ جيلاً، وهي راضية مبتسمة ابتسامة الصباح الجديد الوليد، رغم الإحساس باغتراب الأب الحاني صاحب الحديقة المونقة الخضراء التي تنتج عطراً وأملاً وارتواء.
ويشتاق للأبناء والبنات وهن تذهبن وتجئن في رعاية الأم وحلم الأب وحنين اللقاء.
وفي « أغان صغيرة إلى فاطمة» ابنة الصديق، يقول:
أهذي العصافيرُ جاءتْ
تُغنِّي بشدوِكِ يا فاطِمَهْ ؟
وهذا غِناؤكِ يقتحِمُ الصَّمْتَ
يلمسُ أحلامَنا القادِمَهْ
ويقول:
أطِلِّي على ضِفَّةِ الغَيْمِ
هاتي ظلالَ النَّخيلِ .. عطاءَ السَّعَفْ
وقولي لعمِّكِ: يا كمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
.. والمَشْيِ في المُنتصَفْ
فهو يُداعب فاطمة الصغيرة، ابنة صديقه ورفيق عمره الدكتور حلمي محمد القاعود، ويبعث لها بتهنئة عيد الميلاد الذي يراه يستحق التهنئة الجميلة في ثوب شعري غنائي، تنمو فيه الفكرة وتشب عن الطوق بنموها هي.
فهو يستقرئ أسماء ثلاث فواطم أثيرة لديه؛ من الرفيقة أم الأبناء، إلى الوليدة ابنة الصديق، إلى صاحبة البيت الأثير والمنزلة السامية لدى المسلمين جميعاً فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
وفي قصيدة « عرس أمينة»، (ص12)، وهي عروس الديوان لجماليتها وغنائيتها يقول:
العُرسُ حان وقتُهُ
فأيْنَ يا صِغارْ ..
الدّفُّ والمزمارْ ؟
لا تُبْعِدوا الصِّغارْ
سناءَ أوْ سميحَهْ
فالدَّارُ عندنا فسيحَهْ
ويقول:
زَغْرِدْنَ يا بناتُ لِلْفَرَحْ
حسيْنُ قدْ نَجَحْ
كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !
جميل جداً أن يخلد الحلم للراحة، ويميل الخاطر إلى هذه الآفاق المبهجة، ويطلب العرس على أوسع نطاق، حيث الدار عندنا فسيحة، وهو تعليل رائع لرحابة الصدر وجيشان الخاطر.
وفي المقطع الثاني هنا يقول:
حسيْنُ قدْ نَجَحْ
كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !
وهو إحساس كبير بنجاح المقصد، واستواء القطاف بعد طول الغربة والسنوات العجاف.
2-والبوح الثاني: في قصيدتيه «الجنرال والوطن المنفى» و«الشاعر والجنرال».
يقول في الأولى، (ص20):
لنْ أُبرئَكَ من الجمْهَرَةِ بسوحي
المُمْتلئةِ بالرُّعْبِ،
وبالأقذاءْ
وببحرِ دماءْ
يتفجَّرُ منْ ظلِّ الجنرالِ الضَّخْمْ
لنْ أُبرئكَ من الوهْمْ
في خِسَّةِ ليْلٍ يتمدَّدُ ،
يبتلِعُ العصفورَ الأخضرَ
في ساحِ الشُّهداءْ
إلى أن يقول:
نمشي فوقَ مناكِبِ قتلانا
كلَّ مساءْ
تصفعُنا ذكراهُمْ
ليلاً ،
فجْراً ،
ظُهْراً ،
عصراً ،
صيفاً ،
وشِتاءْ
فلماذا تُمسِكُ مرآةَ الأيامِ السوداءْ
وتُحدِّقُ في الأُفْقِ المجدولِ بعارِكَ
في خُيَلاءْ ؟
وفي القصيدة الثانية، (ص24):
لا أدري لِمَ تحقِدُ يا إنسانْ ؟!
ولماذا في شعرِكَ ..
تتخصَّبُ تلك الثَّمَرَاتُ المُرَّهْ
بِلقاحِ الحرمانْ؟
لا تسْألْني
هلْ هذا آخرُ شعرِكْ ؟
آخرُ شعري لمْ يُكْتَبْ بعْدْ !
فاكتُبْهُ أنتْ!
القصيدتان تحكيان موقفين يختلفان في الوسيلة، ولكن الغاية واحدة، وهي أن الجنرال المعتدي والجنرال السلطوي كلاهما جنرال، وكلاهما معتدٍ، سواء أجاء غازياً أم جاء نبتاً من شوك الوطن؛ فالعدوانية واحدة، ولذا كانت البكائية والصيحة واحدة، فهي تحمل الشهد المضرّج بالدماء من وسط الميدان مرة، وتحمل الكرامة المضمخة بالتراب فوق أرض الوطن مرة أخرى.
(يتبع)