( 6 ) قراءة في ديوان «السقوط في الليل» للشاعر حسين علي محمد *
بقلم: عزت الطيري
.......................
هذا الديوان الصغير الرشيق الذي يأخذ شكل الكراسة يطرح العديد من الأسئلة الهامة قبل أن نبدأ في رحلة القراءة الممتعة:
ـ هل لكي يصل الشاعر إلى جماهير القراء لا بد وأن تصحبه تضحيات كثيرة؟
ـ وهل وجود هذه الأعمال الشعرية بين أيدي القراء مرتبط أساسا بوجود المادة بين أيدي أصحاب هذه الأعمال من الشعراء والأدباء؟
ـ وإلى متى سيظل هذا الحال على ما هو عليه؟
وإذا قارنا بين الأعمال التي يُصدرها الأدباء الشبان على نفقتهم الخاصة والأعمال التي تتولّى إصدارها الهيئات الحكومية لهؤلاء الأدباء لوجدنا البون شاسعاً، فظهور عشرة أعمال «قطاع خاص» ـ إن جاز لنا هذا التعبير هنا ـ يُقابله عمل واحد لقطاع الحكومة.
وبالرغم من طبع هذا الديوان على نفقة صاحبه الخاصة فإنه خرج لنا بصورة مرضية، تزينه رسوم معبرة لفنان شاب يشق طريقه في دنيا الفن والتصوير (هو الفنان يوسف غراب). ولا أكون مُغالياً إذا قلتُ: إن هذا الديوان عمل فني مشترك لفنانيْن واعدين أحدهما يُشارك بالكلمة، والآخر باللوحة.
ويهمنا هنا أن نناقش العمل الشعري، تاركين مناقشة الرسوم لمن هو أقدر منا في معرفة أسرار الرسم والتلوين.
ولنبدأ بالشاعر أولاً: فشاعرنا شاب دون الثلاثين يعمل بالتدريس في محافظة الشرقية: موطنه وحبه وهواه، وهو يقف بشعره على أرض صلبة تُساعده موهبته الأصيلة ودراسته لأسرار اللغة وفنونها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وهو متعدد المواهب، فهو زجال بارع بلغ شوطاً كبيراً في هذا الفن، وفاز بجوائز عديدة، وطبع قصائده المكتوبة بالعامية في كتيبات صغيرة. ويبدو أنه ترك الزجل ليجرب حظه في الشعر الفصيح بعد أن أدرك بفطنته وذكائه أن لغتنا الجميلة هي الأصلح للتعبير، وهي الأكثر انتشاراً بين ربوع الوطن الكبير مهما تعدّدت اللهجات، وإلى جانب ذلك فهو باحث خصب وناقد جاد. ويهمنا هنا ـ أيضاً ـ ـن نستعرض الجانب الشعري من مواهبه.
وكما قلنا مسبقاً فإن الشاعر ذو ثقافة عربية أصيلة، فهو يستفيد من هذه الثقافة ومن مختلف الثقافات والفلسفات في أشعاره في هذه المجموعة الشعرية. وقد ساعده ذلك على خلق موضوعات جديدة مبتكرة، وبالتالي فهو يُشارك في زملاءه المحدثين في تبني قضايا العصر وطرحها في مختلف أعماله. وهو لا ينغلق على ذاته وهمومها وهواجسها، بل ينفعل بكل ما يُحيط به وبقضايا وطنه وما يمر به من أحداث.
فحينما يعيش لحظات الضياع عقب هزيمة الخامس من يونيو / حزيران نجده يتخذ موقفه الخاص به؛ فهو لا يُطنطن بالكلمات الرنانة، ولا يؤلف أغنيات الأمل الزائف ليذيعها المذياع، ولا يُبشِّر بنصر يُلقي بالمحتل في أعماق البحر، بل يقف مذهولاً حائراً متأملاً، مُحاولاً معرفة موقعه ومكانه، ويتغلغل بتفكيره كشاعر، ليعرف الحقيقة، طارحاً أسئلة يود لها جواباً شافياً:
*لماذا تظلُّ العصافيرُ تشدو ؟ وصوْتُ البنادِقِ يعلو ، ويشتعلُ الدَّمُ ، يُشعِلُ فينا الحرائقُ قهْرا ، وأنتِ تموتينَ غدْرا ، وصوْتُ البلابلِ ينسابُ بيْنَ الخلايا ، فتصرُخُ فينا الحنايا بكلِّ حنينِ الشموعِ القديمةِ، تشتعلين فيهدرُ فينا الشبابُ غناءً قديماً عرفناهُ منذُ سنين ، حلمنا بشمسٍ تجيءُ وتُشرِقُ فوقَ جبينِ الربيعِ ، وأشواقنا المستحيلةُ تملؤُ نهرَ الطفولةِ طُهراً ، وتشدو البلابلُ فوق الرؤوسِ ، وتحلمُ بالصُّبحِ يأتي ، ويذهبُ عنَّا الألمْ .
* لماذا تظلُّ العصافيرُ تشدو ..ونبكي ؟ وجرحُكِ هذا صلاتي ونُسكي ، وجُرحك هذا ربيعي .. وخوفي من القادِمِ الهمجيِّ يُحطِّمُ كالثورِ حانةَ بللورنا المستباحِ ، ودمعُكِ كانَ لآلئ حزنٍ بجِيدِ الزمانِ ، وأنتِ أراكِ مع الليلِ تنتفضينَ .. فيقْمعُكِ اللصُّ ، صوتُ الرصاصِ بأُذني ، وأنتِ تعودين حُلماً قديماً يُشوِّقُنا للخلاصِ ، أراكِ تثورينَ .. تنتفضينَ ، فتسقُطُ كلُّ التَّشابيهِ والمُفرداتِ القديمةِ خوفاً من السَّحْلِ تحْتَ القدَمْ .
وقبل أن نكمل الحديث يهمني أن أوضح إعجابي الشديد بهذه الصورة الجميلة الرائعة «يُحطِّمُ كالثورِ حانةَ بللورنا المستباحِ».
وبعد أن يطرح الشاعر أسئلته، يضع النهاية لقصيدته:
*تظلُّ العصافيرُ تشدو ، وتحلمُ بالفجرِ يأتي ، وتذهبُ مملكةُ الليلِ والأقْبيهْ .
*وأحلامُنا مُجهضاتٌ على الرَّملِ ، تحتَ السنابكِ والأحذيهْ .
إذن فشاعرنا يحلم بفجر جديد، جميل المحيا، يزيح عن كاهله الحزن، وحين يلمح تباشير هذا الفجر أو يكاد، يُطالعنا الشاعر بقصيدته «ترنيمة إلى سيناء»:
وجهُكِ الغالي الذي قدْ غابَ عنا
تحتَ أثقالِ العذابْ
وجهُكِ المملوءُ حزناً وصلابهْ
يرجعُ اليومَ فتيًّا في مهابَهْ
ولكن هل يظل الشاعر هكذا منفعلاً بكل ما حوله دون أن يُعطي نفسه وروحه بعضاً من التأمل ليُراقب عن كثب همومه وعذاباته؟! إنه سرعان ما يعود إلى نفسه الشاعرة مُحاولاً إفراغ جرعات الحزن الكامن في قلبه:
هأنذا مُلقىً في الطرقاتْ
يذبحُني سكِّينُ الوحدهْ
يُطفئُ فيَّ الخوفُ البسماتْ
والحزن هو السمة المميزة لهذه المجموعة، فنحن نلمح في معظم القصائد كل مسببات الحزن:
الخوف مثلاً:
ومرْكبي في الوحْلِ يا صَدِيقْ
أخافُ منْ عوائقِ الطَّريقْ
أخافُ منْ غَدي المجْهولْ ..
الخَوْفُ في خُطايْ ..
والموْتُ فيكِ يا سهولْ
فهذه المقاطع الصغيرة اللاهثة تبين لنا مدى ما يُعانيه شاعرنا من الهواجس والظنون، وبالتالي فإن كل هذا يُكبله ويقيده، ويحرمه من متعة التجوال بين دروب الحياة.
وإلى جانب الخوف كسبب أساسي لأحزان الشاعر نجد أسباباً أخرى، مثل: القلق، والغدر بشتى صوره: غدر الأصدقاء، وغدر الأحباب، وغدر الزمن والأيام.
ويجرنا ذلك إلى شيء هام في حياة الشاعر، إنه يُبصرنا بنشأته الريفية وأثر القرية بكل قيمها وأخلاقها ومعتقداتها وموروثاتها وحكاياتها وأساطيرها وأهازيجها وأغانيها. وحين يُهاجر شاعرنا إلى المدينة بكل حضارتها وتحضرها وزيفها تظل كل هذه الأشياء عالقة بذهنه وذاكرته وسط هذا الخضم الكثيف، وحين يحزن شاعرنا يُحاول بينه وبين نفسه أن بتشبّث بأي شيء ليُساعده، ويخفف عنه هذا الحمل الثقيل الملقى على عاتقه وعاتق قلبه مع علمه التام بأن أي شيء من هذه الأشياء التي يلجأ إليها لن يجدي معه شيئاً بأي حال من الأحوال، فهي بعيدة عنه تماماً.
وهو تارة يلجأ إلى محبوبته:
انتظريني
فالشمسُ القاسيةُ صباحا
فوقَ شبابيكِ مدينتنا المسكينهْ
تُدنيني
منْ أهوالٍ تملؤني رُعباُ وجراحا
تُفزعُ روحي التوّاقةَ لاستقرارٍ وطمأنينهْ
وتارة يلجأ إلى أمه يسترجع ذكريات الماضي الذي ولّى، حالما بأبسط الأشياء التي كانت تملأه، وتملأ قلبه الصغير سعادة وراحة ودعة: فنجان القهوة، الابتسامة الحنون، الكلمة الطيبة، الدعاء الصالح:
أحنُّ يا أُمي لقهوةِ الصباحِ من يديْكْ
أُحسُّ أنني غريبْ
مُسافرً بلا رفيقْ
تقطَّعتْ من دونِهِ الأسبابْ
فَدَقَّ كلَّ بابْ
ولم يفُزْ بما أرادْ
وحينما أراد أن يعودَ ثانيا
لم يُبصرِ الطريقْ
*
أحنُّ يا أُمي .. أحنُّ لابتسامهْ
فمنذُ أنْ رحلتُ من حضنيْكِ
لمْ أجدْ سوى القتامهْ
ومنذُ أنْ خَلعْتُ جذريَ العميقْ
منْ تربتي الطينيهْ
ونمتُ في العراءِ .. في القواقعِ الصَّدفيَّهْ
ذبلتُ في مُستنقعِ البلاهةِ الملحيَّهْ
وجفَّ عودي
ولأنه حزين فهو يتعلّق بكل المحزونين، يعشقهم، يُناديهم، يرثيهم، يحل طلاسم أحزانهم، فهو يتحدث عن علي بن أبي طالب، وابن الرومي، وبدر شاكر السياب، حتى يصل إلى ياسين وبهية.
وحزن شاعرنا ليس هو الحزن السلبي الذي يودي بصاحبه إلى هوة التقوقع والتخاذل والانهزامية، بل هو حزن ثائر يُولِّد في النفس طاقات مجتاحة تحطم كل العوائق في عزيمة ومُثابرة، وهو حزن نبيل شفاف يُطهِّر النفس ويوصلها إلى درجة عالية من الشفافية والصفاء، وفي هذه العجالة السريعة لن أتعرّض إلى قضايا الشكل والمضمون لقناعتي أن هذه التقسيمات تهم الدّارسين أكثر مما تهم القارئ العادي، ولقناعتي أن القصيدة أو العمل الجيد هو الذي يترك أثره فينا إلى ما بعد الفترة الزمنية اللازمة لقراءته، وبحث يغرينا دائماً بالعودة إليه، وفي كل مرة يُشعرنا بنكهة أفضل، ورؤية أعمق وأشمل من تلك التي كانت لدينا قبل آخر قراءة.
لكن لا بأس من إيراد بعض الملاحظات:
1-نُلاحظ انفلات الموسيقى من الشاعر أحياناً في بعض القصائد، وجنوح العديد من هذه القصائد إلى النثرية الواضحة، مما يُفقدها طعم الشعر ونكهته.
2-أهمل الشاعر تأريخ القصائد، وهذا ضروري للدارسين الذين يهمهم معرفة مدى التطور الذي حدث لإبداعات الشاعر في فترة زمنية معينة أو بين فترات متقطعة.
3-الكثير من قصائد الديوان كانت تحتاج إلى مُراجعة قبل أن تُدرج في هذا الديوان الجيد.
وبالرغم من ذلك فإنه يهمنا في النهاية أن نقول: إن حسين علي محمد في رحلته الشاقة مع الحرف يُحاول بشكل جاد أن يشق طريقه، وأن يبني لنفسه منهجاً معيَّناً يسير عليه.
وهو كما قلنا في البداية موهبة أصيلة يجب أن يُنظَر إليها بعين العناية والاهتمام، وألا تُترك هكذا سدى، تعتمد على مجهود فردي يقوم به صاحبها!، وأجدني في النهاية أقول كما قال الشاعر:
هذا الصقرُ الغائبُ عادَ يدُقُّ علينا بابَ البيتِ،
ولكنْ .. من يفتحُ للطارقِ
من يفتح للطارق؟ تلك هي المشكلة، وهذا محور السؤال!
................................................
* نشر في مجلة «الثقافة الأسبوعية» الدمشقية، العدد (39) في 7/10/1978م.
</i>