( 5 ) الانتظار الحزين في ديوان
«أوراق من عام الرمادة» لحسين علي محمد*
بقلم: أحمد زرزور
.......................
نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ
أراهُ يثورُ، يفورُ ،
ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ ،
ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ ،
اندفعتْ منْ شرنقةِ الليلِ نساءُ الفجْرِ ،
هتفْنَ بصوتِ الغضبِ الثورةِ :
هذا النهرُ عنيدْ!
ويفتح لنا الشاعر حسين علي محمد دفاتر أحلامه المسبية في أزمنة الجفاف والزيف والمداهنة مُشيراً إلى مأساة إنسان العصر، وهو يشهد سقوط الكلمات وتهاوي المواسم المعطاء، واندماج المنى وتدحرجها أمام أقدام الموت المثلوج، إنسان يقف وحيداً في مواجهة عوامل الانسحاق والعسف، يتقي الضـربات بالغناء والحلم، متشحاً بثوب الرومانسي، محاولاً ـ في استكـناه حزين ـ أن يكتشف شيئاً متوافقاً مع الومضات الخافقة في حناياه، وسط رُكام العقم والسلبية والإحباط!
وهو شاعر بسيط يعترف بتواجده الدائم في منطقة الحلم، الحلم بعالم سعيد يسكن مدينة فاضلة، يحلم بترنيمة حب خضراء تُضيء الدروب الفقيرة، يحلم بنهر غضب عنيد يثور إذا دنسته الأقدام الهمجية، يُعطي الخير للفقراء حول ضفتيه، يرفض أن يزف إلى عروس الجدب، وهي تتزيَّن للسذج والواهمين.
إنه نهر التاريخ الذي جسّده الشاعر في نجيب سرور.
وهكذا يتوازى نهر الدم ونهر الحياة؛ دم الشاعر الذي رفض المهادنة، وامتشق سيف التبشير بوردة حب لا تركع إلا للظامئين المنسيين في الوطن، ونهر الحياة الذي لايكف عن الحب وهو يشهد الأحداث، لا تعوقه الأحراش أن يأتي يبتسم، يحمل للأطفال المُعدَمين صباحاً رائعاً حلواً:
أقبلَ هذي الليلةَ منْ خلف الأحراشِ ،
ويبسمُ في شوقٍ ،
ويُمنِّينا
أنْ يحملَ فوقَ قِلاعِ الغضبِ
صباحَ العيدْ
ولكن (النهر / نجيب) يغيب، وينطفئ الفجر الأخضرأ يسقط القمر على بساط الرمل. أي حزن فاجع يتولد بين هذا العناق الدّامي: ضوء الفرح وعدمية اليباب، فماذا يستطيع الشاعر فعله، وهو شاهد على الانكسار، إنه يصرخ على طريقة الطيبين، تُباغته فجاءة الرحيل، فيضحك ألم النهر، الصمت مياه راكدة، يتمدّد الغضب جارفاً شعراء البكاء والرطوبة والمزامير، إنها إدانة للكلمة / الموت، والشاعر هنا هو المُعادل للإنسان المسمم بحساباات الحذر، والمسكون بقصائد الرؤوس الطائرة، ولهذا فالشاعر يُواجه ذاته في هذا الموقف الاكتشافي / المحك، يُفتش عن ذاته فلا يجد إلا تصوراً رومانسيا حذراً، يستشهد ـ على أعتابه ـ مع شيء من الاعتذار يُزجيه إلى انطفاء النهر!
سقطَ القمرُ الغاضبُ فوقَ بساطِ الرملِ ،
تخبّطَ ،
لا أقدرُ أنْ أفعلَ شيئاَ ، فصرختُ :
كفى يا نهْرُ ،
وملأَ الغضبُ الحذِرُ مساربَ نفسي ،
ضحكَ النهرُ ،
تمدّدَ ،
ضربَ بقبضةِ صرختهِ جدرانَ الصمتِ ،
وألقاني في اليَمّْ !!
***
والفارس عند حسين علي محمد لا يلوذ بالصمت، ولا يتوارى خلف درع السلبية الخذول وحسب ، بل إنه فارس التساؤلات، إنه ينتظر معجزة تعيد للرؤى سلامتها، وتفتح للاخضرار نوافـذ النضارة المسبية، فالحليب يفسد، والفقراء الصغار يتضورون، والسيادة في هذا العصر للجنون، فلا مجال إذن لكون نبيل، شبه هلوسة تجتاح، فتُفقد الأشياء منطقها، تنهار المرافئ، يُرفرف الرعب فيتشح الفارس بخيبة الرجاء، وندور معه في معظم أغنياته حول حلمه المستحيل الذي لم يتحقق بعد، ولا نضيق معه، كما ضاق مع رفـيقه بالأغاريد القديمة والسعار، فأوان المعجزة ليس تهدجاً مرهفاً يتكئ على أغنيات الفقد والاستلاب، إنه كينونة فرسان لم يقرب الشاعر ساحاتهم بعد!
فَسَدَ الحليبْ
وتقولُ لي :
"هذا أوانُ المعجزهْ"
قدْ ضِقتُ مثلَكَ بالأغاريدِ القديمةِ
والسُّعارْ
والليلُ طالَ ..
الليْلُ طالْ
.. ومتى تجيء المعجزهْ ؟
فلقدْ مللْنا الانتظارْ !
وشاعرنا حسين علي محمد يتسلم بيمينه مفاتيح التوهجات الرومانسية على معكوسات الواقع، فتبدو بصمات الرومانسيين واضحة على شعره: الغنائيات الشديدة الوقع وما يستتبعها من توارد القافية التي كثيراً ما تأتي متعسفة ومفتعلة فتُفسد الصورة الجيدة (والتي يتفوّق الشاعر هنا من خلالها بتمكنه وخبرته الواضحة)، ومن النماذج المؤيدة لما ذكرت من القوافي الدخيلة، والتي كان من الممكن جدا طرحها والاستغناء عنها بدون أن يختل الوزن الشعري:
1-أبتاعُ منْ حانوتِنا الليْليِّ أشعارَ الشفقْ
وأقولُ أنغامَ (المَلَقْ)
(من قصيدة "متى تجيء المعجزة؟"
2-في اليومِ الثاني .. منْ ذاكَ الشهرْ
راجعتُ الكلماتِ المخطوطةَ عندي
في كراساتِ (الشعرْ)
…
قلبي يخشى أن يخفقَ في أحشائي
فالموْتُ أمامي .. وورائي
يستشري في الأوردةِ ..
وفي (أشلائي)
(من قصيدة "عن الخوف والميلاد")
3-وعيونُ الصَّخْرْ
تحلُمُ بالخُضرةِ أنْ تزهرَ ذات صباحْ
وعيونُ التمساحْ
تحلمُ بالجسدِ الرّخْصِ ، وتشتاقُ التفاحْ
(من قصيدة "القاهرة 1975")
إن "الملق، الشعر، أشلائي، التفاح" لم تكن أكثر من تتمات لفظية واستكمالاً شكليا لوحدة القوافي في القصائد المذكورة، وقد كان في إمكان الشاعر حذفها بدون أن يهتز البناء الشعري عنده.
وشاعرنا حسين علي محمد بما يمتلك من تميز الطاقة الشعرية وسيولة النفس الوجداني، وعمق الإدراك المعرفي بقضايا إنسان عصره: يستطيع أن يجد لأقدامه رسوخها الواثق في عالم القصيدة المُفجِّرة والمُغامِرة، والمنطلقة إلى دوائر جرأة الاقتحام الفكري دون انسحاب إلى هامشيات الشكلية!
***
على أن أخطر ما يتهدّد هذا الصوت الشعري الجاد تلك النبرة الخطابية، والمُباشرة السياسية فيه، واعتماد القصيدة على الصوت الواحد، الأمر الذي يُصيب الشعر بالنثرية والتقريرية والوقوع في فخ التعبير المشحون بحماس اللحظة وآنية الظرف، ولا شك أن البناء الشعري القائم على أكثر من صوت واحد يُعتبر ـ من الناحية الموضوعية ـ درجة عليا من درجات الفهم للتجارب الإنسانية. وهذه الدرجـة العالية من الفهم ـ كما يقول الناقد رجاء النقاش ـ تحمي الفنان من رؤية السطوح الخارجية للتجارب، والاكتفاء بها، وتحمي الفنان من التعبير المُباشر عن قضاياه.
ونلمس للشاعر بعض العذر، حيث إن القصائد المُتهمة بالمباشرة والوضوح هي قصائد مبكرة تاريخيا بالنسبة للشاعر، فقد كتبهـا بين عامي 1975و 1977م، وذلك إذا لاحظنا أن قصائده الأحدث بين عامي 1977و1979م تتخلص شيئا فشيئاً من تقريرية الصياغة، فتجده يتعمّق تجربته محاولاً الوصول بها إلى أن تكون تفسيراً أو تأويلاً، وهذا يعني أن الوصف ـ حتى وإن تغيّرت أبعاده في الشعر عمّا هو موجود في الواقع ـ كما يُقرر أرسطو لا يُغنينا شيئاً، ويدخل في الوصف التقرير، أي المُغالاة في التعبير عن الشيء الواقع بأساليب سهلة مُريحة مُسترخية ناعمة، تفرغ منها فور قراءتها.
ومُطالعة نموذجين مختلفين قد تُبيِّن لنا مدى تطور الشاعر وتقدمه وتخلصه من فجاجة الانفعال الشعري وسكونيته إلى عناق درامي واعٍ للحياة من خلال الشعر:
1-من قصيدة "القاهرة 1975م)، وقد كُتبت عام 1975م:
ألِفٌ .. ياءْ
علِّمْنا أنَّ الحبَّ لمصْرْ
أنْ يعقِلَ كلُّ الشعبِ مسيرةَ هذا العصْرْ
فإذا انتقلنا إلى النموذج الثاني وهو يمثل قفزة الشاعر، وتركيزه على التأويل القائم على التأمل العميق، ممّا يُعطيه فرصة الكشف عن وجداناته، إزاء ما يؤثر فيه ويبلـور ـ قبل أو بعد ـ مفهومه للواقع وللحياة كلها، وتلك رسالة الفن الصحيح، ذلك أن الشعر هو الذي يجعل الرؤية عن طريق الحدس تأويلاً عميقاً وذكيا!، وهذا يبدو واضحاً في هذا المقطع:
2-من قصيدة "العصفور وكرة النار"، كُتبت في عام 1978م:
هأنذا في غَضَبي الجامحِ لمْ أُبصِرْ ،
والبصَرُ كليلْ
خلفَ النّافذةِ المُغلقةِ الليْلةَ عصفورٌ
يحلُمُ بالأرضِ الموْعودةِ ،
فجزيرتُهُ ذائبَةٌ فيهِ ،
وتحتَ الجَفْنِ .. حكايا وتراتيلْ
الليْلُ يُدحْرِجُ خطْواتي ،
والعصفورُ يُحاورُني:
ـ خنتَ صباحاً ، وتراجعَ خَطْوُكَ
ـ لم أتراجعْ!
ـ لا تُنْكِرْ
ـ لا أُنْكِرُ .. لكنَّ الفَرَسَ هزيلْ !
وهكذا فإن الشاعر حسين علي محمد، وهو واحد من الشعراء الشبان الذين يُطلق عليهم جيل السبعينيات "جيل الاقتحام الشعري الجسور وطرْق أبواب التجربة الجديدة" يُثبت صوته الخاص والمتميز، وهو بقليل من الإصرار يستطيع أن يأخذنا معه في رحـلة مستثبلية تجوس العوالم الجديدة، وتضع أيدينا على مواطئ ومواطن كل ما هو موجع وسيئ ودميم واستلابي وتصادمي يُجابه حركة الإنسان الباحث عن الحق والخير والعدل والجمال!
أحمد زرزور
.................................................. .......
*أحمد زرزور: الانتظار الحزين في "أوراق من عام الرمادة"، صحيفة "الجزيرة"، العدد (3298)، في 6/9/1981م.
</i>