(3) الأسود والأبيض في شعر حسين علي محمد (1)
بقلم: مصطفى النجار
..........................
حسين علي محمد شاعر من القطر المصري الشقيق، يمتاز بنشاطه الأدبي المتعدِّد، فمثلما يكتب الشعر يكتب الدراسة الأدبية والنقدية، وقد فاز بالجائزة الأولى في المسابقة التي أجرتها دار البحوث العلمية في الكويت 1976م عن بحثه القيِّم "نظرة إيمانية للصراع الدرامي والشخصية في الأدب المسرحي". وله نشاط في المسرح الشعري، فقد أعدَّ مسرحية للطبع بعنوان "الرجل الذي قال"، كما أنه يُسهم كمحرر بارز في مجلة "صوت الشرق" القاهرية.
وفي هذا المقال عنه سأكتفي بجانب واحد، إذ سأعرض على القارئ مجموعة من قصائده التي طالعتها عدة مرات. وفي كل مرة أشعر بمتعة جمالية، فالشعر من النوع البسيط العميق، والغنائي الشفاف رغم ما يحمله من معاناة جماعية هي هموم كل إنسان يعيش الواقع اليومي.
وإن الحديث المُجزَّأ عن شاعر هو غبن له، فالصورة الكاملة تُعطي أبعاداً كاملةً، وبخاصة عن شاعر شاب لم تكتمل عنده ألوان تلك الصورة، ولعل مجموعة شعرية كاملة لحسين علي محمد تساعدنا يوماً في إحاطة تجربته على مدى سنوات العطاء.
والقصائد التي بين يديَّ وليدة الزمن الأخير (ما بين 1975-1976م)، وهي منشورة في مجلات مصرية (الكاتب ـ الزهور) وفي مجلات سورية (الثقافة ـ الفداء).
إن قصائد حسين علي محمد وليدة الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر إذ أن بعضها يمتاز بالبساطة والوضوح والآخر يمتاز بالغموض. والنفس كالبحر بين مدِّ الحزن وجزر الأفراح! وهذا عائد إلى الصدق عند حسين.
فمضامين قصائده تأملية واقعية. يُحاول خلق معادل موضوعي لمشاعره، فيبني من خياله الثر أحلاماً تتجاوز هذا الواقع، ورغم ذلك فإن شعره لا يخلو من نبرات اللوعة والأسى، وحتى الخيبة والخوف من الغد. وقصيدته "نهاية الرحلة" تجسِّد المرارة والفراغ النفسي. يقول فيها:
.. وحينما رحلْتُ في عيونِكِ البُحيْرَهْ
(أكنتُ راكِباً بساطَ الموْجةِ المُنطفِئهْ ؟
أكنتُ مُمْسِكاً زِمامَ الماءِ والأعشابِ ..
والطَّحالبِ المُلوَّنَهْ ؟)
كانتْ عناكِبُ الخريفِ في انتِظاري !
تُراقِبُ انكِسارَ ضَوْئها الهتونِ ..
في مدامِعِ النهارِ !
هي تصوير دقيق لحالة الإحباط النفسي؛ فالعيون بحيرة، والموجة منطفئة، والطحالب ملونة، والخريف، والانكسار.
وتزداد الموجة حدة حينما يقول في القسم الثاني من القصيدة:
ومركبي في الوحلِ ياصديق
أخافُ منْ عوائقِ الطريقْ
أخافُ من غدي المجهولْ
وفي قصيدة "السقوط في الليل" وللعنوان دلالة نفسية مركّبة تُعمِّق من تلك الحالة النفسية التي أتيْنا على ذكرها .. إنه يُخاطبها ـ تلك التي ينتظرها ـ فتطلع عليه في الصباح فيقول:
والعاشقُ الذي ألقتْهُ في الطريقْ
عواصفُ الحنينِ والأشواقْ
يظلُّ مُغمضَ العيْنيْن
حالماً بقطرةٍ من مائكِ اللُّجيْن
هي بين يديه ويحلم بقطرةٍ من ماء! وعندما يرى أميرته غمامةً ساعة الظهيرة، يشعر بالطمأنينة والسلام هنيْهات، فلا يُصدِّق هذا الانسجام الشاعري، يقول:
تُرى كمْ يستمرُّ ذلك الأمانُ
في أحضانكِ المُظِلَّهْ ؟
وصحَّ ما توقَّعه، فالنهاية واحدة مهما أخذت أشكالا، وفي أي الأوقات:
أراكِ في المساءِ تخرجينَ منْ يدي
وتفلتينَ منْ أصابعي
يا فُلَّتي البيضاءُ أين تذهبينْ؟
وتحتدم المأساة حين يراها:
أراكِ تسقطين
فراشةً محروقةً في الليْلْ
أراكِ تسقطينْ
والليلُ يستمر
ولعلَّ القارئ يتساءل: ومن السبب؟ فيأتي الجواب من الشاعر:
والخاطفون
أنوارُهم مثيرهْ
أموالهم كثيرهْ
عيونهمْ ضريرهْ
لا يُبصرونَ العاشقَ المسكينَ في الظلامْ
بهذه اللفتة الذكية استطاع أن يُعمِّق من مسار القصيدة فكريا وأن يخلق عنصراً دراميا يُثير فينا الحركة والانفعال.
الشاعر يسأل دائماً، ولا يرضى السكينة، أو هي التي تفر منه، إن في أعماقه الحركة والمشاعر المنطلقة، لذا عندما كتب قصيدته "تأملات" التي تتألف من ثلاثة مقاطع أخذ الأول شكل القصة المكثفة والمرمزة قد شابها بعض التشويش في مضمونها، مثلاً: كيف المارد يُصبح قزما؟ ثم يصبح القزم فارساً ثم يموت؟ الحقيقة لم أستطع الولوج في تكوين هذا المقطع، وذلك بخلاف المقطع الثالث الجميل المنساب شكلا ومضموناً:
افتحُ بيتي للآتْ
وهي جملة تلخص أفكاراً وحالات، فهو يسمع ويشهد ويبحث ـ وهذا ديدن كل المفكرين في العالم ـ، إنه لا ييأس كما لمحنا ذلك في نبرات الخيبة الحزينة، بل يقول:
أسمعُ موَّالَ البحرِ، وموَّالَ الليلِ
.. وموَّالَ الأحياءِ / الأمواتْ
أبحثُ في الصَّدَفاتْ:
عنْ سرِّ الحسرةِ في الضَّحِكاتْ
عن سرِّ الدُّودةِ في قلبِ الصَّخْرهْ
والأوعيةُ المثقوبَهْ
لا تحتفظُ بقطرةِ ماءْ
أمشي في طرقاتٍ الليلْ
أسمعُ وشوشةَ الأغصانِ المنكسرهْ
في ليلِ الصًّيفِ .. وفي ليلِ البرْدْ
أنتظِرُ الشمسَ تعودْ
أنتظرُ عصافيرَ الفجرِ تُوشوِشٌ شجرَ الصبرِ
بأحلى الهمساتْ
وحبذا لو توقف هنا ولم يشرح هذا الموقف! إذن ماذا تُضيف على القصيدة تلك الكلمات:
أنتظرُ الغَدْ
ما أحلى شمسَ الغدْ
تقتلُ ميكروبَ الخوفِ،
وميكروبَ الحَسَراتْ!
والشاعر حسين علي محمد يُجرِّب تشكيلات مختلفة لقصيدة "الشعر الحديث"، منها ما يحتفظ بالقوافي وتنويعها مما يُضفي جوا موسيقيا محببا يقترب بها من معمار الشعر العربي وما يسميه بعض المتطرفين الجدد بـ "الجديد الكلاسيكي"، ومنها ما يأخذ شكل "الرباعيات"، ولهذا النوع نكهة تنتسب إلى الشعر الفارسي والعربي شكلا.
وأمامي الآن قصيدة "لماذا تظل العصافير تشدو؟" تتألَّف من خمسة مقاطع، كل مقطع: طريقة كتابته ككتابة النثر وينتهي بروي الميم، مع أن المقاطع غالباً لا تأبه بالقوافي من داخلها. وهذه كتابة مارسها بعض الشعراء عندنا كصلاح عبد الصبور في قصيدة "توافقات" التي نُشرت في مجلة "الشعر" القاهرية عام 1972م، ومارسها غيره تقليداً لبعض الشعراء الأجانب أمثال سان جون برس، ويمكن أن أنسبها إلى العربية إذا ما قورنت بالشكل الكتابي الذي قام به الشاعر أبو العلاء المعري في "الفصول والغايات".
فالتشكيل نفس التشكيل سوى أن كلامه من غير إيقاع عروضي، وألفت نظر الباحثين والدارسين لهذه النقطة بالذات مما يفتح النوافذ المضيئة على كنوز تراثنا الخالد وارتباطه بالعصر الراهن.
وشاعرنا حسين علي محمد قام يجرب، ووراء تجريبه ذخيرة من الموهبة والمعاناة، وهذا ما يُميِّز تجريب الأصلاء عن تجريب الدخلاء وأصحاب الألعاب الشكلية والألفاظ الخلبية الذين ابتُلي بهم شعرنا العربي، وكأنما شاعرنا حسين عناهم حين قال:
قدْ كرِهْتُ الشعرَ والعِشقَ وإني
راحلٌ يا نفْسُ للأرضِ البعيدَهْ!
لنْ تراني هائماً أمضي أُغَـنِّي
فالأغاني كلُّهـا أضْحَتْ بليدَهْ !
أو في قوله:
لا تقُلْ نثْراً ولا شعراً كهــذا
لا تقُلْ شيئاً ففي الصمتِ النجاةْ
قدْ قضيْنا العُمرَ تغريداً فمـاذا
قــدْ جَنَيْنا غيْرَ تنكيلِ الطُّغاةْ ؟
وفي قصيدة "لماذا تظل العصافير تشدو؟" روح تساؤلية قلقة، وشاهدة ومنتظرة، ويمكن أن نفرد لها مقالة خاصة لدراستها وتحليلها، ولعلي أفعل ذلك تحت عنوان "شاعر وقصيدة" إن شاء الله.
أما رباعياته فهو يحاول فيها أن يُفلسف الوجود من حوله فينقل شرائح مختزلة ناقدة للمجتمع وللحياة، ومصورة لحيثيات الواقع وأسرار الطبيعة الإنسانية.
وأقتصر على ذكر بعضها، فإن بعضها يغني:
هذهِ الأرضُ سعـيرٌ في دِمــانا
ولظاها في حنايانا حــــرائقْ
قدْ كرهْــنا العيْشَ فيها ونهـانا
أنَّنا منذُ وُلِــدْنا في الخنــادِقْ
ولا أجد ما يبعث على استمرارية التغريد على أفنان هذا العمر بكل جسارة إلا ترديد المقطع الأول من قصيدة "الظل والموت" للشاعر حسين علي محمد المنشورة في مجلة "الكاتب" المصرية (عدد نيسان 1976م)، ما يُعطي القارئ مفتاحاً من مفاتيح شخصية هذا الشاعر، وما يدل على اللون الأبيض في اللوحة الرمادية:
حين تلاقيْنا
واستلْقى ظلُّكِ في وادي الصَّمْتْ
كانتْ أُغنيَةُ الحُبِّ السَّكْرى النَّشْوانهْ
تضْحكُ في عيْنيْنا
تزرعُ في صحراءِ النَّفْسِ
ورودَ الأملِ ، وفُلَّ الأحلامِ الرَّيَّانَهْ
كانتْ تقْتُلُ في داخِلِنا الموْتْ !
مصطفى النجار
..................................
(1) نشر في مجلة "الأديب"، مايو 1979، ص28-30.