القسم الثاني
وفي تسعة أفعال كتبت همزاتها على الوصل لا الوقف


الهمزة الأولى : همزة يُنَبَّؤُا
كتب الفعل ينبأ مرة على أصل الوصل والاستمرار؛
في قوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنسَـاـنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13) القيامة.
ومرة على الوقف والسكون والانقطاع؛
في قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(36) النجم.
أما كتابتها على الوصل والاستمرار في سورة القيامة فيرجع لعدم انقطاع أعمال الإنسان بموته، فقد استنسخ عمله في الحياة الدنيا، ووجده حاضرًا يوم القيامة، فلهذا الاستمرار وعدم الانقطاع والنسيان كتب الفعل على الوصل والاستمرار لا الوقف والانقطاع.
وأما كتابتها في سورة النجم على أصل الوقف والسكون؛ فلأنها هي ساكنة سكونًا دائمًا لجزمها بلم، والحديث فيها كان عن أحد كفار قريش، وأهل مكة لا علم بما في صحف إبراهيم وموسى؛ فهي مقطوعة عنهم، فلم يصلهم من علمها شيء قبل نزول القرآن.






الهمزة الثانية : همزة يَبْدَؤُا

قال تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـاـلِحَـاـتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(4) يونس
وقال تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ(34) يونس
وقال تعالى : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـاـنَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَـاـدِقِينَ(64)
النمل
وقال تعالى : (اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(11) الروم
وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَـاـوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27) الروم
يبدأ الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان من نطفة، ولا يدعه بل يستمر في خلقه له، ليمر فيها في أطوار عديدة؛ من سلالة من طين، إلى نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم يكسوا العظام لحمًا، ثم ينفخ فيه الروح ليكون جنينًا، ثم يخرج صبيًا، ثم طفلاً، ثم يشب إلى أن يشيخ، ومنهم من يصل إلى أرذل العمر. فالله تعالى يبدأ الخلق، ويستمر فعل الله تعالى فيه إلى أن يموت، خلايا فيه تتجدد؛ خلايا تموت وأخرى تولد، فلذلك كتبت الكلمة على الاستمرار لا على التوقف؛ لأنه لا توقف في خلق الإنسان، وأكثر التغيرات فيه هي داخلية، لتظهر عليه وتشاهد فيه، فكانت صورة الواو معبرة عن ذلك أيضًا.
ولم يذكر في القرآن غير الأمثلة السابقة.






الهمزة الثالثة : همزة يُنَشَّؤُا

قال تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(18) الزخرف.
تربى الأنثى وتنشأ على الحلية من صغرها؛ بالحلق في أذنيها في أول أيامها، والأساور في يديها، ويهتم بشعرها ولباسها بما يميزها عن الذكور، وتبقى على هذا الحال إلى أن تصبح من القواعد في آخر عمرها. فهي تنشأ في الحلية معظم عمرها، فلذلك كتب الفعل على الوصل لا الوقف والانقطاع، ليبين مدى لزوم الحلية لها من قدميها إلى رأسها ومن صغرها إلى كبرها، والحلية تحيط إما بالإصبع أو العنق أو الساق أو الخصر أو جانبًا من الأذن؛ فكانت الواو بإشارتها إلى الباطن والداخل صورة تؤدي معنى مع ما أفادته الكتابة على الاستمرار.



الهمزة الرابعة : همزة يَعْبَؤُا

قال تعالى : (قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(77) الفرقان
ما يعبأ تعالى بالناس؛ أي لا يكترث ولا يبالي بمن وقعوا في عقابه جزاء تكذيبهم وكفرهم. وحسن رسم يعبأ في النفي على الاستمرار لا الوقف والانقطاع؛ لأن ذلك أبين للنفي الدائم المستمر مع كثرة الواقعين في التكذيب، والهالكين في كل زمان، وصورة الواو تظهر مدة حاجة من وقع في مصيبته بسبب تكذيبه وكفره للخروج منها.
وعلى الرغم من عدم عبادتهم له سبحانه وتعالى وتكذيبهم له، إلا أنه إذا دعوه استجاب لهم، وذلك من رحمته سبحانه وتعالى بهم؛ لعلهم يرجعون عن كفرهم وتكذيبهم.






الهمزة الخامسة : همزة تَفْتَؤا

قال تعالى : (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَـاـلِكِينَ(85) يوسف
قولهم "تَفْتَؤا" أي لم تزل تذكر يوسف، ولم تنس ذكره، ولم تتوقف عن ذلك؛ حتى تضعف قوتك أو تهلك من حزنك عليه، لهذا الاستمرار من يعقوب في ذكر يوسف عليهما السلام، وحزنه عليه، ولهذه الديمومة في ذكره؛ كتبت الهمزة على الوصل لا الوقف والانقطاع، وصورت الواو التي تشير للباطن والداخل شدة الحزن في نفس يعقوب على يوسف عليهما السلام، إلا أن ابيضت عيناه.
الهمزة السادسة : همزة يَتَفَيَّؤا

قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤا ظِلَـاـلُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ(48) النحل.
الظلال تكون من شروق الشمس إلى الزوال، وبعدها تسمى بالفيء إلى المغيب؛ لأن الظل عاد لما نسخته الشمس في الصباح، لذلك سمي بالفيء، أما الظل فسمي بذلك لأنه استمر بعد خروج الشمس، والفعل ظل يفيد الاستمرار، والليل كل ظل؛ فلهذا الاستمرار في تفيء الظلال مرة عن اليمين ومرة عن الشمال؛ ما دامت الشمس تطلع وتغيب على الأرض كل يوم؛ كتبت الكلمة على الوصل والاستمرار، وليس على الوقف والانقطاع، وصورت الواو المشيرة للباطن والدخل وقوع الشيء بين الفيء والظلال وكل منهما يقع على جانب منه.


الهمزة السابعة : همزة يَدْرَؤُا

قال تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَـاـدَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَـاـذِبِينَ(8) النور.
هذه الشهادات الخمس التي تشهدها الزوجة التي اتهمها زوجها بالزنا هي درء دائم لها، ولو اعترفت بذنبها بعد أن تشهد لما أقيم عليها الحد، وقد قالت بما يفيد أنها قد فعلت ذلك؛ "والله لا أفضح قومي"، فعلى ذلك كتب الفعل على الوصل والاستمرار، وليس على السكون الدال على الوقف والانقطاع، والواو صورت ما دخلت فيه لتحمي نفسها من إقامة الحد عليها.



الهمزة الثامنة : همزة تَظْمَؤُا

قال تعالى : (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَى(119) طه
هذه واحدة مما طمأن الله تعالى بها آدم عليه السلام في الجنة، فبعد طمأنته بأنه لا يجوع فيها ولا يعرى، طمأنه بأنه لا يظمأ فيها ولا يضحى، وهي طمأنة له دائمة ما دام هو في الجنة، لذلك كتبت تظمأ على الوصل والاستمرار، لا السكون المبين للتوقف والانقطاع، وصورت الواو المشيرة للداخل والباطن أن الظمأ المنفي هو الظمأ الذي يغلب الإنسان وكأنه محيط به فيشتد في طلب الماء ليطفئه، أما طلب الماء أو الشراب فيكون عن الحاجة التي يحس بها الظامئ، فيجد في تناوله طعمًا ولذة له.
والطمأنة الدائمة هي في الجميع، ولكن ذلك لا يظهر في الرسم إلا على الهمزة كونها متعددة الصورة، وأن استعمالها للامتداد المتصل، وأنها وقعت آخر حرف؛ والحرف الأخير له صفة الدوام والاستمرار بالإضافة لمعناه.




الهمزة التاسعة : همزة أَتَوَكَّؤُا

قال تعالى : (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18) طه
بين موسى عليه السلام في رده على سؤال رب العالمين عز وجل له: (وما تلك بيمينك يـاـموسى)؛ أهمية العصا لديه؛ مخبرًا بما يفيد استعمالها له، وأن حاجته إليها قائمة، وممتدة في المستقبل، فكتب الفعل المضارع على المواصلة والاستمرار، وليس على الوقف والسكون والانقطاع، وصورت الواو وضع العصا في التوكؤ حيث تكون بين صاحبها والأرض.

همزتان أخريان كتبتا على الوصل


الأولى في قوله تعالى : (إِنَّ قَـاـرُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَـاـهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76) القصص
همزة "
لَتَنُوأُ" مضمومة؛ ولا تكون الألف صورة للهمزة في أي الحالين؛ إن كتبت على الوقف والانقطاع، أو كتبت على الوصل والاستمرار.
والالتباس في ضبط كتابتها راجع إلى أمرين:
الأول: أن كل الهمزات التي كتبت على الوصل في الأسماء والأفعال؛ قد زيدت فيها ألف التفصيل بعدها.
والثاني: أن ما قبل الهمزتين حرف الواو، والقاعدة ألا تجتمع واوان ليس بينهما فاصل، وكانت الأولى منهما مضمومة.
فهذه الألف هي ألف التفصيل لما زاد عن الواحد، والتي تزاد بعد واو الجمع، أو بعد واو الفعل المضارع المتكرر فعله وتكون لامه واوًا، كما في؛ "
يرجُوا" و "يدعُوا" وغيرهما.
والالتباس جاء من وجود واو أصلية في الفعل لأنه من ناء ينوء ، وأن الهمزة لها صوت منطوق .. ووجد في الرسم ألفًا ... فجعلت الهمزة على الألف.
وأرى الواجب ضبطها على هذه الصورة "
لتَنـ وـؤُا". فتكتب واوًا صغيرة تشير إلى الواو المحذوفة فوق اتصال النون بالواو،(تعذر رسمها على الوورد)، وتوضع الهمزة فوق الواو، وتبقى الألف حرفًا للتفصيل.
فإن رسمها يدل على كتابتها على الوصل والاستمرار، وليس على الوقف والانقطاع؛ فاقتضى الأمر تصوير الهمزة واوًا لضمتها، وزيادة ألف التفصيل بعد الواو كما فعل بكل الهمزات التي كتبت على الوصل في الأمثلة التي درسناها.
ولما اجتمع واوان في كلمة واحدة ليس بينهما فاصل؛ وجب حذف أحدهما، وحذف واو المد منهما أرجح. فجاءت الصورة على هذا الوضع في الرسم القرآني (
لتنوا) قبل إضافة الحركات والتنقيط والهمزات والعلامات.
وكيفما ضبطت الكلمة لتعبر عن النطق الصحيح لها؛ إلا أن صورة حروفها تبقى على حال واحد لا يتغير بتغير الضبط لها.

أما الثانية ففي قوله تعالى :
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـاـبِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّـاـلِمِينَ(29) المائدة
فقد كتب الفعل "
تَبُوأَ" على الوصل والاستمرار، وكانت الهمزة مفتوحة وما قبلها ساكن، فحقها في الوصل أن تكتب على ألف؛ لتدل على حمل إثمين؛ إثم القاتل والمقتول، كما بينته الآية بعد ذكر الفعل.
وبهذا انتهت الكلمات التي كتب همزتها واوًا على الوصل والاستمرار لا الوقف والابتداء.
ولم يجعل هذا الباب بابًا منفصلا في الكتب والمتون التي تناولت الرسم القرآني، وإنما جعلت أمثلته في قاعدة الإبدال للحروف؛ لأن هذه الكتب لم تنظم على تعليل الرسم.
والله تعالى أعلم.
وللموضوع بقية فيما كتب على الوصل (على الياء)، سنكمل بها الموضوع إن شاء الله تعالى، أو نجعل لها بابًا منفردًا بها..
أبُو مُسْلِم/ عبْدُ المَجِيد العَرَابْلِي