اضافة

سوق المهن اليدوية في دمشق:أنامل ماهرة تعمل بخفة وأناة، لتستعيد تراث الأجداد

دمشق - إبراهيم حاج عبدي:

تكثر في مدينة دمشق الأسواق، ولكل سوق خصوصيته المختلفة عن الأخرى، ولعل السوق الذي حاز شهرة أكثر من غيره، هو سوق الحميدية الذي يشمخ في نهايته الجامع الأموي الكبير، والذي تكثر فيه محال الألبسة، والأحذية، والأزياء التراثية الفلكلورية، فضلاً عن طقوس البيع والشراء الشامية العريقة التي يتمتع بها هذا السوق، وهو مقصد للسائح العربي والأجنبي، وهناك أيضاً أسواق أخرى قديمة مثل سوق ساروجة، وسوق العتيق، وسوق الخجا وغيرها من الأسواق التي لم تستطع الأسواق الحديثة الراقية التقليل من شأنها مثل سوق الحمراء، والصالحية، وأبو رمانة... فلكل سوق رواده ومعجبوه.
بيد أن السوق الذي يلفت النظر، ويثير الانتباه هو سوق المهن اليدوية الذي يدخله الزائر من خلال بوابة واسعة يعلوها قوس حجري، وما ان ينزل درجات قليلة، بعد عبوره البوابة الرئيسة، حتى يجد نفسه بين صفين من المحلات المتقابلة والمتوازية بينهما شارع ضيق بعرض حوالي خمسة أمتار وطول حوالي 200متر يتجه من الشرق إلى الغرب، وثمة باب صغير يقع في منتصف الصف الجنوبي يقود الزائر إلى فناء مربع واسع تحيط به من الجهات الأربع محال أخرى تشكل مع سابقاتها سوق المهن اليدوية الذي لا يخلو من الزوار لا سيما في فصل الصيف حيث تزداد حركة السياحة.
هذا السوق مع المتحف الحربي الذي يقع بقربه، يشغلان معاً البناء الذي هو في الأساس المدرسة السليمانية ذات الطابع المعماري الجميل، التي يعود بناؤها إلى المرحلة العثمانية حيث بناها السلطان العثماني سليمان القانوني سنة 1566م كما تشير اللوحة المعلقة أمام البوابة الرئيسة للسوق، وقال بعض الحرفيين في السوق إن المكان الذي تشغله هذه المحال كان في الماضي عبارة عن غرف لسكنى طالبي علوم الدين والفقه الذين كانوا يتوافدون من جميع الأمصار والأصقاع إلى مدينة دمشق لتلقي العلم والمعرفة في هذه المدرسة، أي أن هذه المحال كانت في الماضي سكنا للطلاب شبيها بالمدن الجامعية بلغة العصر الحديث.
والمعروف أن مدينة دمشق ونظراً لعراقتها تشتهر بكثرة المبدعين من الصناع والمهرة الذين يبرعون في الصناعات اليدوية المختلفة، وهكذا تتوافر في هذا السوق مجموعة من هذه الحرف النادرة: صناعة السيوف الدمشقية، صناعة القش، الحفر على الخشب، المطروقات النحاسية، الصناعات الجلدية بمختلف أنواعها، الموزاييك الدمشقي والصدفيات، الشال والبروكار الدمشقي، صناعة الزجاج.. وسواها.
ورغم الإمكانيات القليلة والأدوات اليدوية البسيطة التي يستخدمها هؤلاء المهرة غير أنهم كثيراً ما يرسمون - بخفة حركاتهم، ودقة صنيعهم - الدهشة على محيا السائح الأجنبي الذي لا بد وأن يقوم بجولة في هذا السوق للتعرف على آلية هذه الصناعات، وللوقوف أمام مهارة الإنسان في صوغ الجمال بعدة بسيطة، فيقتني من الأدوات ما يناسب ذوقه وميوله مشفوعاً بكلمة شكر ويوجهها لتلك الأنامل التي صنعت هذا الجمال، وهي قطع وسلع صغيرة تخبئ في أشكالها، ونقوشها، ورسومها عبق التاريخ الغابر، وتروي للمهتمين بعوالم الشرق وسحره حكايات الزمن الآفل، ففي ردهات هذا السوق تعمل الأنامل بمهارة وأناة لا تستطيع الآلة العصرية، مهما تطورت، أن تضاهيها.
في عمليات البيع والشراء التي تتم في هذا السوق يسمع المراقب لغة ثالثة مختلفة، فالسائح الذي يود الشراء لا يتقن العربية كما أن الحرفي لا يتقن لغة الوافد تماماً (الإنكليزية، الفرنسية الألمانية، الأسبانية، الروسية..) الأمر الذي يدفع الطرفين إلى التفاهم بلغة ركيكة تحمل مفردات من هذه اللغة وتلك غير أن القطعة، المتقنة الصنع، تنقذ الموقف بجمالها الصامت وتخرج البائع والشاري من المأزق، إذ تفصح عن نفسها بسلاسة ومن دون لغة، فمعايير الجمال مهما تباينت بين الشعوب تبقى متقاربة وواحدة.
لعل الوجه الأبرز في هذا السوق هو الحرفي حسام الدين ترجمان الذي يعمل منذ أكثر من نصف قرن في مهنة الحفر على الخشب ونحت المجسمات الخشبية يقول عن مهنته "يعود تاريخ هذه المهنة إلى مئات السنين، فهي من أقدم المهن التي عرفها الإنسان إلى جانب صناعة الفخار والزجاج". يقوم ترجمان بصناعة أشكال مختلفة وكثيرة امتلأ بها محله الصغير فهو يصنع كراسي صغيرة لقراءة القرآن الكريم، ومهابيج للقهوة العربية، ومناقل، وأجرانا للثوم، وينحت من الخشب الغزلان، والنسور، والأفاعي، والجمال، واللقالق، وكذلك ميداليات ودمى متنوعة، ويزين صناعته بأشكال ورسومات تعبر عن التراث العربي والإسلامي. يأتي ترجمان - كما يروي - بالمادة الأولية لمهنته، أي الخشب، من جذوع الأشجار وأغصانها مراعياً في ذلك الفروق بين الحفر، والنحت فهو يستخدم للأول خشب الجوز، والزان، فيما يستخدم للثاني خشب الزيتون معللا ذلك "أن لخشب الزيتون تموجات تناسب عمل النحت".
وبرع ترجمان في صناعة المسابح وقد سجلت مسبحته الضخمة، المؤلفة من 33قطعة خشبية والتي تزن 50كيلوغراماً، في موسوعة (غينيس) للأرقام القياسية، حسب قوله.
ومن الصناعات التي تشتهر بها مدينة دمشق صناعة البروكار الدمشقي، و"البروكار" كلمة كردية تعني "صناعة إبراهيم" لكن تعريف البروكار عالمياً هو "قماش مصنوع من الخيوط الحريرية الطبيعية تدخل فيه المادة الذهبية والفضية لتزيد من جماله وبهائه"، ويقول أحمد شكاكي، أحمد معلمي هذه الصناعة، بأنها "صناعة متوارثة، مأخوذة عن الأجداد، تناقلها الأجيال حتى وقتنا الحالي"، وتعتمد هذه الصناعة على النول الخشبي القديم الذي لم يبق منه سوى ثلاثة في دمشق، بحسب ما يروي شكاكي الذي يضيف بان البروكار هو علم بحد ذاته "يعتمد على الرياضيات في حسابات الخيوط في التصميم المعطى، وعلى الميكانيك في صيانة وضبط النول اليدوي المستخدم".
ويوضح شكاكي، الذي شارك في معارض دولية كثيرة، بان "البروكار الخفيف يستخدم للألبسة، في حين يستخدم الوسط لعمل جاكيت أو "لامبادير" أو أعمال الديكور، بينما يستخدم الثقيل منه للمفروشات وورق الجدران"، وهو يفتخر بانه قام بتصنيع قماش أرائك مجلس الشعب بدمشق، وكذلك أرائك غرفة استقبال الرئيس بشار الأسد في كل من الجامع الأموي، وفي مطار دمشق الدولي.
ويعد أبناء القزاز من الحرفيين القدامى في هذا السوق والذين اشتهروا بصناعة الزجاج اليدوي فهم يعملون أيضاً منذ أكثر من نصف قرن في هذه المهنة، ويقول أحدهم "إن هذه الصناعة قديمة جداً ومرت في مراحل كثيرة حتى وصلت إلى رحلة الآلة، غير أن بصمة الإنسان الماهرة ظلت السمة الأساسية في هذه الصناعة"، وتشمل صناعة الزجاج أدوات الزينة المختلفة، والأدوات المنزلية كالثريات، والمزهريات، والشمعدانات، والكؤوس، إضافة إلى أدوات لتجهيز بعض الديكورات للفنادق والسفارات والمكاتب والمنازل.
ومن المهن الأخرى التي حازت الشهرة في هذا السوق مهنة الموزاييك والصدفيات، ويقول يحيى ناعمة عن صناعة الموزاييك "انها تمر في مراحل عدة وتبدأ بعملية قطع الأخشاب: الجوز، الحوار، الكينا، الورد.. ثم تنظف من الشوائب بآلة تسمى "الرابوت" فتصبح القطعة الخشبية ذات ملمس ناعم ثم تجمع هذه القطع وفق شكل معين: علبة، طاولة، إطار صورة..
وثمة مهنة مكملة للموزاييك هي مهنة "تنزيل الصدف على الموزاييك" ويتم ذلك - كما يقول ناعمة - بحفر بعض الأماكن في القطعة المصنوعة، وتفريغه بواسطة الأزاميل ثم يوضع الصدف في ذلك الفراغ، وتلي ذلك عملية وضع المعجون على القطعة المصنوعة لسد الفراغ، ثم تبدأ عملية التنعيم والتزيين لنحصل أخيراً على القطعة المطلوبة المزينة بصدف من مختلف الألوان كالأصفر، الزهري، الأسود. ويضيف ناعمة "يحصل الحرفي على الصدف من أماكن مختلفة بعضها من سورية، وخصوصاً من نهر الفرات، وبعضها الآخر يستورد من اليابان أو أمريكا إذ لا يوجد هذا النوع الأخير إلا في المحيطات، وهو باهظ الثمن، فسعر الكيلوغرام الواحد منه يصل أحياناً إلى 5000ليرة سورية (ما يعادل 100دولار أمريكي).
تلك هي الصورة المقروءة المصغرة التي يمكن التقاطها للسوق الذي تكثر في جنباته مهن كثيرة لا يمكن الإحاطة بها في تحقيق صحافي واحد، وتبقى الملاحظة الجلية والمهمة هي أن أطياف الماضي تتراقص في عيني السائح، وهو يتحسس بلطف ودهشة الأشكال المصنوعة فكأنما بذلك يقدم الشكر لحرفيي دمشق على منحهم إياه لحظات جميلة سوف يذكرها طويلاً هناك في منزله البعيد، وهو يراقب باعجاب القطع الجميلة التي جلبها معه من سوق يتوسط مدينة دمشق يسمى سوق المهن اليدوية.. يستعيد بأشكاله وزخارفه جانباً منسياً من تاريخ الأجداد في هذه المدينة التي تغنى بجمالها الشعراء والرحالة.أ


جريدة الرياض-الخميس 06 جمادى الأولى 1425العدد 13152 السنة 40

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي