صراع في الفراغ
كان نبيل في الصف العاشر حين قصد المسجد الشهير القريب من بيته لينخرط في دروسه ومجالسه.
فدفع به القيمون على الأمر إلى مدرّس في أواخر الثلاثينيات من عمره يقال له الشيخ جهاد، فصار يحضر مجالسه الخاصة مع جمع من المراهقين القريبين منه في السن.
وكان نبيل حساسا، رقيقا، متوهّج الذهن، حار النفس، وكان الشيخ جهاد يخط لنفسه منهجا يحاول به كبح جماح الشبان وتهذيبهم وضبط شعورهم وفكرهم وفق مبادئ دينية صارمة.
وجد نبيل نفسه في صراع لا يتناسب وسنه، فإما شخصيته المتفجرة وإما ما يملى عليه على أنه الدين كله، فضاقت نفسه، ثم تشنّجت، ثم بدأ يحسها تتمزق، وتغرق في حرب مريرة.
وما برح الصراع يتعاظم مع تقدم سنه واستمراره في حضور مجالس الشيخ جهاد، حتى تجاوز الضغط طاقته فترك الحضور.
وحاول التحلل من آثاره بحضور مجالس أخرى عند شيوخ آخرين، لكنه لم يهدأ.
وبقي الشيخ جهاد في ذهنه رمزا للتدين بل للدين نفسه، وفي الوقت نفسه تجلى رمزا للرعب والقسوة والقهر، فإن وقعت عينه عليه مصادفة في الشارع أصابته حالة ذعر واضطراب استمرت يومين.
وتقضّت السنون على هذه الحال، وشيء كالمرض النفسي يستولي على أعماق نبيل، شيء مرتبط بالدين وفلسفته وأحكامه.
ثم دارت به الأيام دورتها، فدرس الجامعة وتخرج فيها وأمسى مدرّساً من بعد، وتنقل في السلك التعليمي.
وخلال سني دراسته الجامعية افتتحت مدرسة خاصة كبرى بجانب المسجد الذي قصده في مراهقته، ونما إلى علمه أن الشيخ جهاداً غدا من مدرّسيها.
وسمع من أشخاص كثيرين عن حال المدرسة الحسنة وفضلها وامتيازها، فلم يجل في خاطره إلا الشيخ جهاد ودروسه وأقواله، فيملؤه الخوف والقنوط ومشاعر سلبية شتى باتت تكتنفه كلما مر بجانب المدرسة أو سمع اسمها.
إلى أن حلت به أزمة طاحنة تركته دون عمل.
وعلم صديقه الذي بات ذا شأن في تلك المدرسة بحاله، فما إن واتته الفرصة حتى اتصل به يدعوه إلى ملء فراغ تدريسي فيها.
واضطربت نفسه وجاشت جيشاناً، إنه المكان الأكثر قسوة في نظره، محطّ كوابيسه وآلام نفسه وضغوطها، وهو الآن مخيّر ما بين ولوجه، وبين واقعه الطارئ الذي يبدو فيه كل شيء قاتما فلا بد من الانخراط في عمل.
وبعد تفكير ممضّ، أسلم أمره إلى الموافقة.
ودخل المدرسة، فوجد ترحابا وتعاملا راقيا ومحبة خالصة.
ووقعت عينه على الشيخ جهاد في حجرة المدرسين، فإذا به يبتسم له ابتسامة ملؤها المودة ويسأله بعذوبة: هل تذكرني؟
فبم سيجيبه؟ أيقول إنه لم يغب عن ذهنه يوما بل كان حاضرا دوما في كوابيسه ومعاناته.
ومرت الأيام عليه وهو يداوم في المدرسة ويتجنب ما استطاع لقاء الشيخ جهاد، والخشية تملؤه أن يحاول هذا الرجل ممارسة دوره القديم عليه، لكن ما بدا على الرجل حين يتقابلان مصادفة أنه احترم الهوة الزمنية الفاصلة بين تلك الأيام وهذه الأيام، وقدّر التطورات الحياتية الكبرى التي طرأت على تلميذه القديم، فهو اليوم يعامله معاملة الزميل لا معاملة الطالب في حلقته.
وعلى ذلك فإن موقف نبيل القديم لم يكن ليتغير بسهولة، فما زال الشيخ جهاد يمثّل في ذهنه صورة عملاقة لكل ما هو مخيف ومزعج ومدمر ومنفّر.
وكانت الامتحانات
وفي يوم حضر نبيل للمراقبة متأخرا، فدعي إلى إحدى القاعات دون أن يعرف شريكه فيها، فلما أن دخلها امتقع، فقد كان الشيخ جهاد في وسطها يرمق الطلبة بانتباه.
أحس نبيل بجسده يتيبّس، ولم يدر أتوقفت نبضات قلبه أم تسارعت؟ فهذا كابوسه الراسخ الذي ينغّص عليه حياته منذ أيام المراهقة، سيقف إلى جانبه قرابة الساعتين، فأي موقف هذا؟ وأي شجار في النفس؟
بعد دقائق وقف خلالها نبيل إلى جانب باب القاعة متحفّزاً، لحظ أن الشيخ جهاد يتعامل مع الطلبة بعفوية ولطف جميلين، بل كان يلتفت إليه فيبتسم بمودة مغشاة باحترام.
شيء ما في ذهن نبيل بدأ يتحرك، لكن الموقف ازداد تأثيرا حين اقترب منه الشيخ جهاد وصار يحكي له بدماثة وندّيّة بعض القصص ومواقف الحياة.
لم تكن نفسه تلك النفس المتشددة المتشنجة التي احتفظ بها نبيل في ذاكرته وسببت له ألف ألف عقدة نفسية، ولم يكن حديثه عن الدين يحتوي ذلك القدر الهائل من التشدد والتعصب ورفض الآخر كما في ذهنه.
شعر نبيل أن يداً احتملته فغمسته في بركة ماء عذبة بعدغابة مسحورة، فراحت تلك العقد الراسخة العظيمة التي سيطرت على نفسه وألهبت دماغه طوال عشرين عاما تتفتت وتذوب، حتى غرق من بعد في دوّامة من فقدان التوازن مع تهاوي الصروح الراسخة في ساحة عقله.
لقد بدا الشيخ جهاد إنسانا طيبا، عفويا، دمثا، محبا، ليس في شخصبته شيء مما سكن دماغ نبيل عقدين كاملين من الزمان وسيطر على أعصابه.
وحين لم يتبيّن الناس سبب مشية نبيل المترنّحة ذلك اليوم وهو يعود إلى بيته، كان يجيبهم في سره:
-لقد انهدّ بنيان نفسي الذي لبث قائما عشرين عاما، عشرون عاما تقضّت وبنيان نفسي بنيان أشوه، قائم على صراع فارغ على أفكار خاطئة، والساعة لا أدري أيّ بنيان سأقيم وقد جاوزت الخامسة والثلاثين.
سؤال واحد ما زال يتردد على عقله: أكانت صورة الشيخ جهاد في نفسه قد انبنت على خطأ محض؟ أم إن الرجل قد غيّرته الأيام؟
وكانت الإجابة عنده مهمة وغير مهمة في آن