جدلية العلاقة بين القومية والدين في التاريخ والتطور الاجتماعي (العروبة والإسلام) نموذجاً (الأخيرة)ويزيد القوميون من تعميق الفجوة بين العروبة الإسلام بإصرارهم على فهم الإسلام كدين بمنهجية تاريخية علمانية عقلانية غربية، وأسقاطهم التجربة الغربية على الإسلام كدين، واستخدام المناهج الغربية التاريخية والاجتماعية وأدواتها في دراسة الإسلام وتجربته التاريخية على الرغم من الاختلاف بين الدينين والتجربتين! فالقوميون وغيرهم طبعاً يعتبرون تمسك المسلم بالإسلام عقيدة وشريعة خلط بين العقيدة كدين والشريعة كعقل! ودعوني أوضح لهم خطأ فهمهم هنا:الإسلام عقيدة وشريعة وعبادة وأخلاقكتب يوماً الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي بول رينكو يقول: "الدين هو استلاب الإيمان". فعلق عليها روجيه جارودي شارحاً: ذلك أن كل دين هو الإيمان المُعَبر عنه في لغة ثقافة ما. وأن ما نُطلق عليه أزمة الدين، هو في الواقع أزمة الثقافة التي يُعبِر الدين عن ذاته من خلالها. وانتهى إلى: "أن العقيدة هي طريقة في التفكير، وأن الإيمان هو طريقة في العمل".أما مالك بن نبي فقال: أن أزمة أي مجتمع هي أزمة ثقافة، وقد عرفت المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة؛ الثقافة: "أنها الإسلام حين يصبح الحياة"!والله تعالى جعل العمل قرين الإيمان بقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. والرسول صلَ الله عليه وآله وسلم قال: "ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل".تلك هي حقيقة العلاقة بين الدين كعقيدة والإيمان كعمل وشريعة! ذلك معناه أنه لا يصح الفصل بين العقيدة والشريعة لا في الإسلام ولا في أي دين أو أيديولوجية لأن الأيديولوجيات تحل محل الدين لدى أتباعها – كما سيأتي- ويُعبر عن نفس المعنى فيها بمصطلح "العلاقة بين النظرية والتطبيق"!وللعلم فقط: أن اليهودية هي التي لا تشترط العمل لصحة الإيمان، لذلك اليهودية لا تُعتبر لا دين ولا أيديولوجيا، وقد عرفتها دائرة المعارف العبرية: "اليهودية ليست عقيدة أو نظاماً من العقائد يتوقف مع قَبولها الفداء أو الخلاص في المستقبل ولكنها نظام للسلوك البشري"! أي أنها كما قالت الكاتبة اليهودية روبرتا ستراوس: مجموعة من الأخلاقيات لا يمكن اعتبارها دين بالمعنى الصحيح للكلمة! وقد كانت هذه النقطة هي جوهر الاختلاف بين مارتن لوثر وجون كالفن اليهودي الأصل وكلاهما من مؤسسي المذهب البروتستانتي، حيث أن لوثر اشترط العمل لصحة الإيمان ودخول الجنة، أما كالفن فقد أسقط العمل واكتفَ من الإيمان النطق باللسان فقط!وعليه فإن القول: أن العقيدة علاقة بين الإنسان وربه وليعبد الإنسان ما يشاء شجرة حجر بقرة أي شيء! وأن الشريعة مجالها العقل لأن وضع القوانين من اختصاص العقل وحده! ذلك فهم خطأ للإسلام!ثم: كيف تكون الشريعة مجالها العقل المطلق المتحرر من ضوابط العقيدة في الوقت الذي حِفظ العقل وسلامته من أي انحراف يخالف الفطرة السوية هو أحد مقاصد الشريعة؟ إن مدح القرآن الكريم للعقل لا يَعني رفع العقل فوق مستوى الشريعة والتشريع الإلهي، لكن حث العقل على عدم تكرار أخطاء السابقين، والاجتهاد في فهم مقاصد الشريعة بحسب الزمان والمكان والحال وليس منح العقل السلطة المطلقة ليشرع ما يشاء!فالمشكلة ليست مع العقل ولكن مع الفكر الذي يعمل العقل في مجاله، لأن العقل أداة والفكر مضمون يحتوي المعتقدات والآراء ورؤية الإنسان لذاته ومحيطه وكونه، ولا يتعدّى عمل العقل حدود ذلك المضمون!الخلاصةإن الأمم تبني نهضتها من خلال خصوصيتها الثقافية لا الخصوصية الثقافية للآخرين، والمؤكد الثابت الذي لا يحتاج إثبات أو تأكيد أن المرجعية الإسلامية هي مرجعية جميع مكونات الأمة، وعلى أساسها يجب أن ننطلق في بناء مشروعنا الحضاري، آخذين في الاعتبار خصائص الإسلام كدين سماوي مختلف عن أديان البشر، وأن العقيدة الإسلامية السماوية، هي عقيدة: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. وكلكم لآدم وآدم من تراب، هي التي وحدت قبائل وشعوب الأمة ومنهم أتباع الأديان الأخرى في وحدة سياسية وجغرافية واحدة، وأكسبتها هويتها الثقافية والحضارية المميزة لها، وليس القومية العربية كما ذكرت الورقة، وأنه متى تخلت الأمة عن الإسلام عادت شعوباً وقبائل وطوائف متناحرة كما هو حالها اليوم! وصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: لقد أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. ألا يكفينا ذل؟!وإن أردنا تقديم دراسة تحليلية ونقدية لجدلية العلاقة بين القومية والدين (العروبة والإسلام)؛ علينا أن ندرك أن المناهج الغربية التاريخية والعقلية وأدواتهما لا تصلح لفهم الإسلام كدين، ولا لدراسة وفهم التطور الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، والأخذ بها يجب أن يكون بحذر وتحفظ، لأن القومية الغربية الحديثة نشأت متلازمة مع العلمانية والنظام الاقتصادي الرأسمالي والمنهج العقلي الغربي، وتلك المتلازمات هي التي شكلت المجتمعات الغربية الحديثة.لذلك يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير: إن مفهوم العقلانية لازم لتحليل المجتمعات الرّأسماليّة لأن الأخذ بالعقلانيّة يصل إلى ذروته في هذه المجتمعات عبر السّيطرة على كلّ شيء بالحساب والتّكميم وعبر وضع أسلوب حياة منتظم يتحكّم في شتّى مجالات النّشاط الإنساني حتى حياته اليومّية!لذلك فإن رأي قوميين العرب وغيرهم من الاتجاهات الفكرية العلمانية في العلاقة بين العقيدة والشريعة والعقل هو رأي المدرسة العقلانية الغربية، التي بدأ فيها العقلانيون متحفظون في موقفهم من الإله وبعد حوالي خمس قرون أعلن نيتشه عن "موت الله"، أي انتصار الإنسان في صراعه مع الإله على الإله نفسه، وأخيراً أعلن العقلانيون أنه لا حاجة للإنسان لإله، فالإنسان في عصر التكنولوجيا والأقمار الصناعية وسفن الفضاء قادر على أن يصنع الإله الذي يريد!ونحن لا نندهش من طغيان العقلانيين في زمن بلغ فيه طغيان الرأٍسمالية وإعلاء شأن المادة وقيمة التملك على أي عقيدة دينية أو قيمة إنسانية وسعيها لعولمة الرأسمالية وقيمها وثقافتها على العالم أجمع!تلك العولمة التي بدأ الدكتور حمود ورقته بالحديث عنها، والتي جعلته يعتبر المشترك الإنساني في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة متغير ثابت، والدين متغير ثانوي كما هو في القومية! في الوقت الذي يُجمع فيه أكثر الباحثين على أن العولمة بأبعادها المختلفة هي (دين) كونها في الواقع تتحكم في كل العلاقات الإنسانية سواء كانت اجتماعية - عالمية أو فردية -! وتحاول الدول الكبرى اقتصادياً وعلى رأسها الولايات المتحدة فرضها ديانة جديدة على العالم، وهي لن تكون فقط نهاية التاريخ بل موت للتاريخ ولفكرة الإله التي توجد فيه!ولا أظن أن مسلماً يقبل أن يكون عقلانياً على الطريقة الغربية في زمن العولمة ويعلن موت الإله أو أن يعبد الإنسان ما يشاء، لأن المشترك الإنساني يستحيل أن يكون متغير ثابت مهما ازداد حجم تأثيره، ولا يعني إلغاء الخصوصية الدينية والتاريخية والتخلي عن المورث الحضاري والتراث الفكري وإلغاء الهوية الثقافية لأي أمة، والدليل على ذلك فشل الغرب وأمريكا خاصة في فرض العولمة كنظام حياتي على العالم، وذلك لأنها اصطدمت بالخصوصية الدينية والثقافية للمجتمعات غير الغربية. وذلك لا يلغي التأثير والتأثر بين الشعوب!ذلك يعني أن العقلانية دين وليست منهج للدراسة والبحث فقط. والإغريق كانوا يؤلهون العقل إلى حد كبير، ومفكري عصر النهضة الأوروبية أخذوا على الكنيسة بُعدها عن الفلسفة والعقل الإغريقي، وطالبوا بالعودة إلى الفلسفة الإغريقية ومنح العقل حرية مطلقة في إدارة شئون الحياة بعيداً عن تدخل الدين، والفلسفات لا تصنع حضارات ولكن تدمر الحضارات، وهذا ما هو حادث في الغرب والعالم على الرغم من التقدم العلمي، لأن الحضارة قيم وأخلاق وآداب وقانون ومعاملة، وهو ما فشلت في تحقيقه فلسفة العقل والعلم!هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته