-
كاتب
الخروج الأخير
حيدر محمد الوائلي
كان آخر ما قاله لزوجته قبل خروجه عند مغرب الشمس، أن ضاق عليه النفس. هذا ليس بيت هذا حبس.
يبغي الخروج ليتمشى في الهواء الطلق طليقا. هذا الطريق الطويل الذي طالما مشى فيه وشاهد معالمه تتغير إيذاناً بتغير الزمان. كل ما يريده الان أن يمشي وحسب دونما وجهة متجه إليها.
يا قَدَماي سيرا بي بعيداً لأي مكانٍ.
كان وقع الخبر عليه أليماً كضربة غادرة على أم رأسه من حاقدٍ لئيم.
من حينها لم يسمع به أحد.
لم يره بعدها أحد.
رغم مرور سنينٍ طوالٍ بساعاتها وايامها والشهور، إلا أنه لم يُعثر له أي أثر.
عندما بُشّر بولادة ابنه البِكر أحس أن لحياته مغزى اخر، وملأ قلبه سعادة جديدة لم يألفها من قبل. أنعش قلبه حب اخر، ورأى حياته بطريقة أخرى. حنان لم يحنه لأحدٍ من قبل وحب مختلف نال من قلبه ما ناله.
بدت الحياة تتجمل بكل كركرة من فاه طفل صغير. يحضنه لقلبه الموجع. يداعبه ليعيد كرّة الكركرة من جديد ليضحك فتكسح سحاب الغم المتلبد في صدره. يمطر من فمه ضَحكاتٍ لدى رؤياه كركرة صغيرٍ يرى الحياة ضَحِكات.
يكبر الأبن فيلتحق بالمدرسة. يشتري له لوازمها وملابسها وحقيبة زرقاء لكتبه. يواظب معه على إنجاز واجباته البيتية ويصحح له أخطائه الاملائية، وكلما يتقادم عمره يواظب معه أيضاً على تصحيح اخطاء حياته اليومية. في كلا المدرستين أخطاء فادحة وساذجة فالمواظبة على تصحيحها مبكراً بأسلوبٍ مبتكر مرضي ومقنع للطرفين (تربية). هكذا أقنع نفسه بنفسه.
يغضب عليه أحياناً لدى رعونة تصرفه او قلة أدبه وأحياناً يربت على كتفه وينهال عليه مادحاً لدى تصرفٍ جيدٍ وقولٍ حَسَن، وبجميع الأحوال يحبه حباً جماً كتمه بقلبه دون الافصاح عنه بالقول كثيراً.
صفاء الروح حبٌ مكتوم.
كلما كبر ابنه احسه يستقل عنه كثيراً، فلقاءه معه اقل ومع أصدقاءه أكثر. همومه يكتمها بقلبه أكثر ولا يبثها علانية بكل براءة وعفوية (وفهاوة) مثل ذي قبل.
هكذا هي الحياة تعيشها لتكبر فتستقل بها لتنشأ حياة جديدة مثلما نشأ اباك ومن قبله جدك واجيال سبقت واخرى ستلحق وهكذا الحياة تدور شئت أم أبيت أحببت ذلك أو كرهت.
طلب من ابيه ان يستريح فالحمد لله رزقه من شغله الجديد جيداً. لكن نظر الاب لابنه انه لازال ذلك الصغير، بالله عليك هلا تكركر ضاحكا مرة أخرى ولو على نكتة أعرف أنها (بايخة)، يحدث الاب بالكتمان قلبه.
عشق ابنه لرائحة البيض المقلي بالدهن و(المحموس) بكوم بصل. يحبه كثيراً لدرجة أن يستنشق رائحة القلي. كيف تُغري هكذا روح بسيطة قانعة بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من خيرات الله في جنة عرضها السماوات والأرض أو كيف تُغريه بعوائد فساد السلطة والمنصب والصفقات وهو كل حبه بدنياه بضع بيضاتٍ وكوم بصل.
ما عاد يحرق دمه مثل ذي قبل بتصرفاتٍ غير مهذبة تثير الحنق والعصبية، فها هو اليوم رجلاً محترماً. سَرَحَ الاب محدثاً قلبه: (كم هم مساكين معاشر الاباء والامهات، يحرقون قلبهم ويكدرون مشاعرهم واخر الامر يتعلم الابن من اخطائه ومن تجارب الحياة ربما أكثر مما تعلمه من حرص ونصح وغليان دم والديه). ابتسم في داخله، فلم تطاوعه عضلات وجهه لترسم ما يبدو أنه ملامح ابتسامة.
كيف تَسوَّد الدنيا في عينيك فجاءة؟
كيف فجاءة يصبح الهواء خانقاً؟
كيف تنسى الكلام؟
كيف يصبح الدمع وسيلة الكلام؟
كيف لا تعرف كيف؟
ذات مساء طرق الباب عابر سبيل.
هل أنت ابو (فلان)؟
نعم يا ولدي انا ابا (فلان)!
يا والدي لقد قتلوا ابنك بكمينٍ لمسلحين على الطريق العام. أوقفوا سيارتهم التي تقلهم بعد انقضاء عملهم ومن ثم أخذوهم في عمق الجنب الترابي الخالي للطريق وأردوهم صرعى واختفى القتلة. كل الذي أعرفه أن كانت طلقة واحدة في الرأس. ستجدون جثته في ثلاجات حفظ الموتى في المستشفى العام. عذراً يا والدي فلا عزاء لي إلا أن أعزيك وأنا عارفٌ أن مهما عزيت لا ينفع العزاء، لكني أروم الذهاب لبيوتات ضحايا اخرين أبلغهم ذات الخبر للبقية ممن قُتِلوا. في أمان الله.
ذهب ساعي بريد الموت لحاله دونما بالتفاصيل سؤاله.
من وكيل عزرائيل هذا؟!
أمان الله؟!
أي أمان الله هذا؟!
دخل الاب مذهولا ساكتاً ليرى نظرات زوجته المقطبة الحاجبين كأنها عليمة. منذ الصباح وهي متوترة مضطربة. يا رب هل أوحيت لها كأم موسى من لدنك شيئا، فلا شك ان عرفت بالخبر منك؟!
ها هي فقط تنتظر النطق لتأكيد الحُكم لا أكثر.
قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
(قتلوا إبنك).
قالها بصوتٍ مكسور وعيناه تثبتتا بمحجريهما يابِسَتان لم ترمشا البتة، ومن ثم سَكَت.
غص بماء ريقه.
فجأة نَسِيَ كيف يبلع ريقه.
نَسِيَ كيف يتكلم أو يتقيأ.
وفار التنور.
تتفجر من غياهب صدره صيحة (اه) أحرقت يابس قلبه والأخضر وزرع السنين.
صيحة ملأت فضاء البيت الخالي ضجة.
صيحة كبرى قطّعَت الأنفاس، ليتفجر من يابس المَحجرَين ينابيع الدموع.
صاحت زوجته صيحة أعلى، وزادتها صيحات وصيحات أكثر، مرددة اذان قدوم الموت (الله أكبر).
تلطم على رأسها وتخمش خديها. فتحت حجابها واخذت تجر بعنفٍ شعرها.
صيحات جذبن نسوة الحي. انضممن لها بالنحيب دون الصياح.
ما هذا الضجيج المزعج؟
في مجلس الفاتحة لبس قناع الصابر. قناعاً من جلدٍ دقيقٍ لستر المشاعر. قناعٌ سرعان ما ترهل وهَزُل ليعريه أمام الملأ مفضوحاً. ها هو عريان لا يعرف كيف يستر نفسه.
في عزلة الليل الطويل وسكون الظلام، أن يا رب الصباح ما هذا الموت الطويل؟
أبكل ليلٍ تقبضني ببطء وفي النهار تبث في خراب الجسد روحاً مملة مهملة.
بعد بضعة ايام، رحل المعزون وبقي الساهرون.
أم وحدها في المطبخ وزوجة شابة في عش زوجية خَرِبَة وأب في غرفة استقبال وحده.
لم يطق سماع بكاء البنت البِكر لأبنه البِكر ذات الشهرين وذهول أمها التي نسيت أن ثديها الصغير يدر الحليب على خد ابنتها لا فمها مذهولة شاردة. لم تنتبه لا لبكاء طفلتها ولا نقوع ثوبها من درها ولا لطلوع صدرها، بل لم تنتبه لتواجد شبح الاب الناظر من عَتَبَة الباب المفتوح متفقداً حالها.
طرق الباب فانتبهت.
نظرت إليه فأحنت رأسها وهزته ثم طأطأت.
طأطأ رأسه هو الاخر وأشاح بنظره وهمَّ منصرفاً.
تكلمت العيون بما لا طاقة للألسن من نطقه.
لا تدفع الكلمات الضيم. لا يخفف الكرب الكلام. لا يحيق الوجع الا بأهله.
مضى مختنقاً بعبرته وحيداً.
لا يعرف البكاء إلا وحيداً.
تعثرت رجله بطرف سجادة حجرة الاستقبال فوقع للأرض وحيداً.
من أثر الوقعة سالت من عينه دمعة، مسحها وأعان نفسه بنفسه فوقف. ضاق عليه النَفَس. طفحت رائحة الليل في الكون من جديد. نظر للسماء يرقب مغرب الشمس.
خرج ليتمشى تلقاء الأفق الأحمر البعيد نهاية الطريق.
من يومها لم يعد ولليوم..
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى