من سار جابراً للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر ..
أحبك ربي 💚💚💚
"على الإسفلت..."
عندما تقدّمتُ لأدفع ثمن الصّور الشعاعية التي أجريتها لرأسي وصدري… قال لي طبيب الأشعة( ع.الح) كلمتين فقط:
- الصندوق أغلق....
وهي كناية لطيفة عن أنّه لن يأخذ مني أجور التصوير الذي أجريته عنده… ثم أضاف:
- سلامتك أيها الطبيب الأديب ...!!!
نزلتُ من عنده بعد أن شكرته وشعرت بالفخر أني طبيب… وشعرت بالفخر مرة ثانية لأنه وصفني بالأديب ولا أدري هل أنا أم هو الطبيب الأديب…
وشعرت بالفخر مرة ثالثة لأنني مريض محظوظ وثَمّةَ من يتعاطف معي، فكثير من المرضى في بلادنا غير محظوظين…
المهم....
نزلت ومشيت على الرصيف...
كانت وِجهتي من الأطفائية الى باب سريجة ثم إلى الفحّامة حيث وضعت سيارتي...
وأنا أمشي في الطريق انتابني شعورٌ مريحٌ ... فأنا معي نقود زائدة كنت خصّصتها للصّور الشعاعية فقلت لنفسي لِأَبذَخَ وأصرفَ ....
مررتُ أمام محلّ لبيع الفطائر، اشتريت لأولادي كثيراً من فطائر الزعتر والجبنة والمحمّرة ومشيت ببطء على الرصيف وأنا أتذوقها..
بعد أمتار قليلة تقف سيدة متقدّمة بالعمر...ترتدي المانطو الكُحلي وغطاء الرأس الأبيض... هي فاجأَتْني بقولها:
- هل عندك شيءٌ لله ؟!..
تجاوزتها وأنا أنهش بعض فطائري اللذيذة، مشيت عدّة أمتار...قدماي خطوةٌ للأمام وخطوةٌ للوراء، فكلماتُها لاتزال تلطم عظيمات السمع الصغيرة عندي بشدّة ... "هل عندك شيء لله....هل عندك شيء لله.. هل عندك ؟! ..."
كانت جيوبي تقول لي أعْطِها شيئا ...فقد ترك لك طبيب الأشعة مبلغاً جيدًا من المال، ولكنّ حرصي يقول لي دعك منها ربما هي ليست بحاجة...ربما أنت وأولادك أحوج منها للمال ....
لم أستطع تحمّل ذلك الصراع المسلّح الذي نشب بيني وبين نفسي... ولذلك عدت إليها... ووضعت كيس الفطائر الذي اشتريته أمامها.. ونَزْراً يسيرًا من المال ...ومشيتُ بينما كان لسانها يلْهجُ لي بالدُّعاء ....
مِنْ ثمَن الصورة بقي معي شيء من المال يثير شهيتي للشراء.. فهذا مال كان يفترض أن لا يكون معي الآن...لذلك عدت واشتريت به فطائر مَرّةً أخرى...حملتها في كيسها الأبيض ومشيت...
........
في الحقيقة أنا لا أؤمن أن الذي يفعل خيراً يجب أن يرى نتيجة عمله في الحال، فقد يراه بعد وقت طويل وقد لا يراه أبداً....
المهم...
مشيت حتى وصلت إلى الفحّامة حيث رَكَنْتُ السيارة ....
أنا لا أزال جائعاً وكيس الفطائر الأبيض الذي أحمله في يدي يدغدغ شهيّتي فأنا لم أتذوقه بعد....
تقدمت بالمفتاح لأفتح السيارة؛ السيارة لا تفتح! وبدلاً عن ذلك أطلقتْ صوت الإنذار وأشعلتْ ومضات أضوائها. وجمعتْ حولي الناس...
صاحب محل بيع البطاريات القريب هرع إلي واثنان من عماله...
- هيه أنت ماذا تفعل...تريد أن تسرق السيارة ؟!
- لا هذه سيارتي ولا أدري لماذا لا تفتح .؟!
- هذه سيارتي أنا...اذهب من هنا قبل أن أحضر لك الشرطة ؟!!
أنا رجعت خطوتين للوراء أنظرُ للسيارة جيّداًً… ما هذا إنها ليست سيارتي...أين سيارتي ؟!
في هذه الأثناء حضر شرطي المرور
وقال لي وهو يبتسم ويشير بأُصبعه إلى سيارة شرطة المرور...
- تلك هي سيارتك فوق الرافعة انظر ما أجملها !!!
- ما هذا! أرجوك انتظرْ ...أنزٍلْها...خذ ما تشاء وأنزلها....
- أبدًا لقد كُتب الضبط وانتهى الأمر… ستستلمها من المرور !!!
ولكن اذهب إلى الضابط عسى ولعلّ.....
ذهبت إلى الضابط ....
ها هو الضابط يقف بعيدًا مزهوّاًً بالنجوم الثلاث التي على كتفيه....
اقتربت منه وسلّمت عليه وعرّفته على نفسي...
- أنا الدكتور...فلان ....
- أهلا وسهلا...؟!
- سيارتي وضعوها على الرافعة أرجوك أنا طبيب وعندي عمل....
- اذهب غدًا واستلمها من المرور...هذا إذا عرفتَها ....
- إذا عرفتُها ؟! أنا أعرف سيارتي… تلكُ هيَ ( وأشرت إليها )
- غداً لن تعرفَها… أؤكد لك ذلك...
- أرجوك سيادة الضابط أنا ليس لدي وقت وأحتاج السيارة وأنا اليوم مريض الٱن كنتُ عند مخبر الأشعة وهذه صُوَر المخبر....
- لا تحرج نفسك يا دكتور السيارة كُتب بها ضبط..
همست له أعرض عليه مالاً ليفرج عن السيارة، فزجرني وقال لي
إياك أن تعرض على ضابطٍ رشوةً، الضابط خرّيج جامعة مثلُه مثلُك تماماً.
اعتذرت له....
ولكن كل محاولاتي فشلت لثَنْيه عن جبروته حتى شعرت أني قد وضعتُ من نفسي كثيراً
فوقفت حائراً صامتاً…
يا له من يوم عسير كيف سأعود للبلد وكيف سأذهب غدا للمرور وأنا مريض… رأسي يؤلمني وصدري..
لا أدري ماذا أفعل...
السيارة على الرافعة والرافعة سائقها يجلس بها ويدخّن، ربما ينتظر أن تنتهي سيجارته لينطلق وأنا تكاد تدمع عيناي...
ويكاد آخر رمق من كرامتي أن يخرج...
أنا تماسكت وعادت قدماي بي إلى الضابط:
- لو سمحت، عندي أوراق في السيارة وأغراض شخصية أريد أن ٱخذها....
قال سيادته وهو يحرك أصبعي السبابة والوسطى
- دقيقتان… معك دقيقتان....
صعدتُ إلى الرافعة وأنا مقهور لكرامتي التي أهرقتُها على الاسفلت، أخذت بعض الأوراق وكان عندي مبلغ من المال أضعه في السيارة لوقت حاجة، أخذته ووضعته في كيس أسود...
ثم نزلت واتجهت مرّة أخيرة الى الضابط، ولا أدري ما الذي جعلني أقول له....
- هل عندك شيء لله ؟!
أدار الضابط وجهه عني وابتعد عني ثلاث خطوات ثم عاد اليّ متغيّر الوجه وعيناه غائمتان.. قال...لي:
- ماذا قلت لي يا دكتور ؟!
- قلت لك ...هل عندك شيء لله ؟!
- من أين جئت بهذه الكلمات ؟!!
- من سيدة في الإطفائية سألتني بعفاف...هل عندك شيء لله ؟!
قال لي وهو يبتعد عني بوجهه..
- وهل أعطيتها ؟!
-لم أُعْطِها في البداية ولكني عدتُ وأعطيتُها.....
أعاد الضابط الشاب وجهه نحوي .... وهو يبتسم ....ثم رفع جهاز إرسالٍ كان في يده إلى فمه ...وتكلّم به:
- أَنْزِلوا سيّارة الدكتور بِلُطْف ... واعتذروا منه....
دنوت منه وشكرتُه....ثم خطر لي شيء....
- سيادة الضابط....أرى كأنك تعرف تلك السيدة ؟!
- نعم ...هي جارتي أم أكرم...!!! وهذه كلماتها...
تقولها للذين تتوسّم فيهم الخير....اذهبْ كُرْمى لها....مع السلامة ...
......
ركبتُ سيارتي ومضيت في طريقي....
دُرْتُ دورةً كاملةً بالسيارة إلى المجتهد ثم شارع خالد بن الوليد إلى الإطفائية...
لأتوقفَ عندَ ....أمّ أكرم....
وأشكرَها وأتركَ عندها الكيس الأبيض وشيئا من الكيس الأسود...
أمّا في طريق العودة إلى البلد... في سيّارتي ....فقد كنت لا أرى أمامي جيّدا.... من دموع السعادة .!!!!
د. جهاد السالم