وقال البحر.. الحضارة و اغتراب المثقف...
جريدة الوحدة : 23-9-2020
الاغتراب كلمة تحمل معاني شديدة الاتساع والتباين و لعل من بين مجمل تلك المعاني التي قد تنطوي عليها ما يُعبر عن حالة دائمة أو وضع ثابت ومحدد للإنسان بما هو إنسان ولكن هذه الكلمة قد تكون معبرة أيضاً عن وضع سلبي يُميز إنساناً يعيش في ظروف معينة وأوضاع استثنائية، ومن المعروف أن هنالك أنواعاً لا حصر لها من صور وأشكال الاغتراب التي يُعاني منها الكثير من ألمع المفكرين المعاصرين الذين تسري عليهم بديهية القول بأن أقلامهم أصوب سلاح يُعبر عن موقفهم في كل ما يُكتب وشرط أساسي للبقاء والازدهار في العالم اليوم كونه يخدم القضايا الاجتماعية والشجون الحياتية والمشاكل المعيشية.
يتميز كل بلد بتراث قديم يتعلق به الشعب تعلقاً شديداً ويُباهي بملاحمه ويُمثل عند البعض الشيء الوحيد الذي ينبض بالحياة في داخل أعماقهم ومثال ذلك التراث المتأصل بحق الذي يُمثل تزاوج الماضي والحاضر في آن معاً، ولذا فلا بد من أن يُثير زوبعة أزمة فكر حضارية حادة حينما يصطدم بحضارة عصرية ذات طابع علمي وعملي وتنتقل من نجاح إلى نجاح ومن تميز إلى إبداع وتحقق كل يوم مزيداً من الإنجازات وتُكسب أصحابها قوة كبيرة تضمن لهم مكاناً بارزاً في عالم تسوده قيم التنافس الشديد والتصارع القاسي، وهكذا غرق أغلب أهل الفكر في مشكلة المواجهة بين معاني التراث وقيم العصر وهذه المشكلة لم يكن مطلوباً لها أن تنتقل إلى ميدان الممارسة بل أن تبقى حبيسة بين جدران التفاعل النظري وعناوين الوعي الاجتماعي كونه لا يمكن قراءة معاني كل جديد في كل ما هو قديم وإسقاط حروف مفاهيم العصرية على صفحات تراث كانت له مقوماته الخاصة في سير مجرى التاريخ واتجاهاته المحافظة وسط أجواء تقلبات الأحوال الإنسانية.
يُعتبر الاغتراب السياسي نوعاً من أكثر أنواع الاغتراب الذي يعانيه المرء المثقف قبل غيره لأن الوضع الراهن والواقع الحالي لا يعترف أصلاً بقيمة الفكر وحينما تنهار منظومة القيم من أساسها ويسود شبح الإرهاب المعتمد على القوة المادية الغاشمة وتعم الفوضى فعندها يكون المثقف أمام طريقين أحلاهما مُر فإما أن يغترب سياسياً عن كل ما حوله ويشعر بأنه يعيش في وطن ليست له كلمة فيه أو تنتابه حالة من السلبية وعدم الاكتراث فيُفكر ويكتب لنفسه ولأمثاله فقط و يدع جانباً في يأس وإحباط كل ما يتصل بالمجتمع في تفكيره وهذه فئة يزداد عددها في هذه الأيام ويُمثل أصحابها تعبير خيانة المثقفين بأجلى معانيها، وتحول معظم الظروف السلبية والغيوم الملبدة والتي يمر بها كل بلد دون تحقيق المثقف لذاته على نحو حر ومبدع وخلاق.
يتمثل الاغتراب الثقافي في الوضع المتأرجح الذي يعيشه أي مثقف أمين بين الثقافة التراثية والثقافة المعاصرة، فعلى الرغم من كل تلك الروابط التي تجمع بينه وبين تراثه وتشده إليه فلا مفر له من الاعتراف بصدق أن هنالك فجوة زمنية كبيرة تفصله عن هذا التراث وأن لغة الفكر التاريخي التي ينطق بها ماضي أمته لغة كانت تخاطب عصراً ومجتمعاً لهما سماتهما التي اختفى الكثير منها في العصر الراهن والمجتمع الحديث، وهكذا فإنه بقدر ما يستمع بإصغاء من أصحاب الفكر المحافظ إلى تمجيد لهذا التراث وتأكيد قدرته على البقاء ومواجهة مشكلات العصر فهو يُحس داخلياً في قرارة نفسه بقدر غير قليل من عدم الألفة مع هذا التراث رغم أنه يُشكل جذوره العميقة ويستشعر قدراً من التباعد خلقه ذلك الحاجز الزمني والاجتماعي الذي يفصل بين ألوان حياته المعاصرة وتلك الحياة التي كان يخاطبها لسان التراث، ولعل المهم في هذا كله أن الاتجاهات الفكرية المعاصرة تفرض على المثقف شيئاً من الإحساس بالاغتراب إزاءها وتحتم عليه بذل الجهد المضاعف لاستخلاص ما يصلح للتعميم منها و ما لا يُعبر عنه إلا في ظل ظروف مجتمع خاص ومحدد بعينه.
يجد المثقف المعاصر أنه مغترب بمعنى مزدوج فهو مغترب زمنياً عن تراثه ومغترب حضارياً عن الثقافات المختلفة وعليه بذل الجهد المضاعف لكي يصنع لنفسه ذلك المركب الخاص به وحده و الذي يجمع بين هذين المصدرين و سيجد غيره من مثقفي أمته يصنعون لأنفسهم مراكب أخرى قد يغلب عليها هذا العنصر أو ذاك وقد تجمع بينهما في تعايش غير متسق وتكون حصيلة هذا كله اغتراباً ثقافياً بنمط آخر يعانيه حيال المثقفين في محيطه والذين يحملون تركيبتهم الثقافية الفريدة ويسعون لمواجهة كل أصقاع العالم بها.
د. بشار عيسى