-
دراسة نقدية لقصة نوار
الشكر الكبير للناقد والكاتب حسين خليل على هذه الدراسة النقدية.
* قراءة في قصة (نُوّار) للكاتب جيكر خورشيد، رسوم د. فارس قرة بيت، الصادرة عن دار أكاديميا إنترناشيونال
تعرفتُ على الكاتب القدير جيكر خورشيد مؤخرًا، ومن أجل التعرف على أسلوبه قرأت له ست قصص، وأول انطباع شعرت به هو "كيف لم أتعرف على كاتب مهم مثل هذا الكاتب من قبل؟! كاتب له حوالي مائتين كتاب وما زال أمامه الكثير ليُمتعنا به".
وأحببت أن أقدم في هذه القراءة مراجعة لإحدى قصصه التي صدرت مؤخرًا وعنوانها (نُوَّار).
(نُوّار) هو بطل القصة، واسمه على اسم زهرة جميلة تنبت في فصل الربيع لونها أصفر، وخلال القصة سيبرز الاندماج الكامل بين البيئة من جانب، والقصة والشخصيات من جانب آخر؛ فمسرح القصة هي بيئة قروية جبلية، أبدع الكاتب أيما إبداع في وصفها، حتى لو قرأها أحدنا لاشتاق إلى أن يرمي الأجهزة التي بين يديه ليعيش ولو يومًا واحدًا في بيئة جميلة كتلك، وأتوقع أنّ الكاتب نفسه عاش في بيئة مماثلة، لأن الوصف حميمي جدًا، ويحمل بعدًا ذاتيًا، كما يقول الجد وهو أحد شخصيات القصة: "السماء في قريتي أكثر اتساعًا، والشمس أجمل إشراقًا، والقمر أبهى طلة، والقمح ألذّ طعمًا من كل قمح الدنيا."
القصة هي مغامرة خمسة فتيان وفتيات هم البطل نُوّار، وأربعة من أصدقائه: أمين وفريد وياسمين وسهام. نّوار يتيم الأبوين، لم يذكر الكاتب كلمة "يتيم" بتاتًا، لكنه أشار إلى مواقف تدل على ذلك، فعندما يرى البطل أصدقاءه وكل واحد منهم يمسك بيد أبيه، يعود إلى بيته وعيناه مغرورقتان بالدموع.."، وهنا أبدع الكاتب في إيصال مثل هذه المسميات الحسّاسة والمؤثرة إلى القراء بلطف شديد، ومن مسافة قريبة ولكن من دون تماس، بحيث تتضح الصورة من دون لمسها مباشرة.
الجدّ هو الذي يرعى نوّار، وإدراج شخصية كبيرة في قصة للأطفال له تقنيات خاصة، على خلاف القصص التراثية التي يكون فيها الأبطال من الكبار رغم أن القصص موجهة للأطفال، من التقنيات في القصص الحديثة تقنيتان هما: أن لا تكون هذه الشخصية هي المحرّك الأساسي للأحداث، وأن تصطبغ بصبغة طفولية شيئًا ما، وهي بالضبط ما استخدمه الكاتب، فالجد ورغم مساعدته لحفيده وأصدقائه إلا أنّ مساعدته كانت في الظل، بينما يقف الأصدقاء في مقدمة الركب، وكذلك إعطاء الجد صبغة طفولية من خلال صفتي (سرعة الغضب وسرعة الضحك)، ما يجعلها شخصية محببة للأطفال.
هؤلاء الأصدقاء يعيشون في بيئة تجعل ألعابهم مختلفة، فهم يركضون بين السهول لاصطياد الجراد، ومن يصطاد عددًا أكبر منها له جائزة، والجائزة هي كمية من الفواكه التي تُسرق من بساتين قريبة.
إضافة إلى ذلك، صيد الطيور بالفخاخ، وهي لعبة استطاع الكاتب أن يبرز من خلالها بعض الجوانب الإنسانية في بطل القصة، الذي يذهب في الخفاء، ويقوم بإطباق الفخاخ التي وضعها هو وأصدقاؤه، وعندما يُكتشف أمره يقول أنه يخاف أن تصطاد هذه الفخاخ أمًا لها صغار ينتظرونها!
الحبكة الرئيسية للقصة هي عندما يعزم الأصدقاء على البحث عن الكنز الذي تتحدث عنه الأساطير التي يتناقلها الأهالي، والموجود في المغارة، تلك المغارة التي يستخدمها والد أمين كمكان لعيش الماشية.
كان أهالي القرية قد بحثوا طويلًا عن الكنز مسبقًا ولم يجدوه، فهل ينجح الصغار في ما عجز عنه الكبار؟ نعم هذه هي المقولة المهمة التي أراد الكاتب إيصالها.
من التقنيات المهمة التي أبدع الكاتب في استخدامها هي تقنية (التصوير السينمائي)، ولا أعرف ما هي علاقة الكاتب بالسينما، لكني وجدت جمالًا في اختيار اللقطات وتنوّعها، فتجد:
اللقطة الواسعة: "رحنا نركض عبر الحقول والسهول".
اللقطة المتوسطة: "كنت أزحف بهدوء كسلحفاة، وكانت ياسمين تضع على غصنها غصنًا أخضر وقد بدت كغزال بقرون متشابكة، أما أمين فكان يقفز كالأرنب البري قفزات طويلة كلما شعر بالأمان. وكانت سهام تراقب الوضع العام من فوق شجرة سرو عالية.. " وهو مشهد سأعود له بعد قليل.
اللقطة القريبة (كلوز شوت): "راحت ياسمين تتلمس الحجارة وكأنها تبحث عن شيء ما".
اللقطة القريبة جدًا "شعرتُ بأنفاس غريبة متلاحقة تقترب منا".
هذا التنوع في اللقطات بحيث يكون لكل لقطة هدف محدد تريد إيصاله، ولا يجعل للقارئ مجالًا للملل أو إغماض العين، هو قمة الإبداع. على العكس من بعض النصوص التي تجد أغلبها لمشاهد ذات (لقطة متوسطة) من دون الاقتراب من العين لرؤية الدموع، ومن دون الارتفاع للأعلى لرؤية المسرح بشكل كامل، وهو ما يُضعف العمل.
بالنسبة للمشهد الذي قلت أني سأعود له، ترى الطريقة التي عمل بها الكاتب، من خلال الاهتمام بكل مشهد على حدة، ورسمه ضمن إطار واحد، من منظور ذي بُعد جمالي، فوصف خمسة أصدقاء يمشون فقط، أو يجلسون على الكراسي ويتحدثون فقط هو من أكثر الطرق فقرًا في الإبداع، بينما نجد الكاتب في هذه القصة يعطي لكل فرد طريقة مشي خاصة ووضعية خاصة تساهم في ثلاثة أمور هي وظائف الوصف (أن تدفع بالحدث وأن تكشف عن الشخصية وأن تؤثث المشهد)، فالبنت الجالسة على غصن شجرة السرو، تدفع بالأحداث نحو مزيد من الترقب، وتكشف عن شخصية جريئة وإن كانت حذرة، وتؤثث المشهد من خلال أغصان شجرة تؤطر الصورة وفتاة على الغصن ترفع يديها لتُراقب.. مشهدية رائعة.
من جوانب الإبداع هو الحوار الذي يساهم في الكشف عن الشخصيات بشكل كبير، فعندما تقول سهام: "رأيت غيمة في السماء على شكل ديناصور هارب من العصور الغابرة، فخفت ونزلت عن الشجرة حتى لا يراني فيأكلني" هنا يصفها الكاتب بأنها (حالمة) من دون أن يقول ذلك بطريقة مباشرة.
وكتوضيح للنقطة التي ذكرتها في البداية، وهي الاندماج بين كل عناصر القصة مع البيئة، أذكر هنا بعض الأمثلة:
- الأمثلة والتشبيهات كلها من ضمن البيئة "أعرفك قردًا تقفز بين أغصان الأشجار!! لكن منذ متى تحولت إلى سحلية تزحف وتتسلق جذوع الأشجار" أو عبارة "جدي على باب المغارة كالأسد الرابض"، فتشبيه الأشخاص بعناصر من البيئة الريفية أو بيئة الغابة يزيد الاندماج بين العناصر والبيئة، كما أنه يكشف عن الشخصية بشكل أكثر صدقًا.
- التوقيتات كلها من وحي البيئة، فلا توجد عبارة مثل السادسة صباحًا وإنما "كل يوم وقبل شروق الشمس، يخرج أهل قريتي إلى حقولهم.."، أو عبارة "قبل أن تغيب الشمس"، فحتى الساعة ريفية وتقليدية.
- التماهي مع البيئة لدرجة الحديث مع الحيوانات على نحو الحقيقية وليس الاستعارة، مثل الحديث مع البغل "هيا يا بغلي العزيز دلنا على مكان الكنز.." ثم ينطلق البغل متمهلًا بعد أن شعر بحاجتهم إليه!
- نمط الحياة، بل وحتى الأثاث كلها مرسومة بشكل تقليدي للغاية، فحتى الكراسي التي يضعونها في الهواء الطلق هي حجارة كبيرة يجلسون عليها.
مع كل هذا الجمال، فإنّ هناك أمرين كنت أود أن أعرفهما ولم أجدهما وهما:
كيف مات أبوا نوار؟ هذا السؤال طفولي جدًا، فأي قارئ طفل سيسأل: أين هم أبواه؟ وكيف ماتا؟ كان بالإمكان إضافة سبب موتهما بحدث يخدم حبكة القصة، ولا يكون حدثًا زائدًا.
الأمر الآخر، كنت أود أن أعرف ما هي قصة الكنز وكيف سرت الشائعات حوله؟ سيكون الموضوع أكثر إقناعًا لو كان هناك إشارة حول كيفية وصول الكنز إلى المغارة، ولو من خلال أسطورة.
أمر آخر كنت أود أن أعرفه من البداية وليس في النهاية، فالجد حينما اقترح أن يستفيدوا من الكنز في بناء مدرسة نموذجية، من اللطيف أن يكون الكلام عن المدرسة القديمة التي هي كالفرن في الصيف وكالثلاجة في الشتاء من البداية وقبل أن تتصاعد الأحداث، ليكون اقتراح الجد في النهاية أكثر إقناعًا، ويجعل القارئ يشعر بالرضا بشكل أكبر، بعد أن تمّ (التمهيد) للفكرة من البداية.
نفس هذه التقنية استخدمها الكاتب عندما وصف الجدُّ في الفصل الأول حفيدَه بأنه كالقرد في حركته، وذات التشبيه تمّ استخدامه في الفصل الأخير عندما اختير نوار للنزول لحفرة الكنز لأنه مرن في الحركة مثل القرد.
ملاحظات أخرى أذكرها سريعًا:
1. واضح أن الكاتب اعتمد على عنصر (الإمتاع) في النص، بحيث كثيرًا ما تجد كلمات مثل "ضحك، ضحكت ضحكة مجلجلة.."، وبالفعل كانت الأحداث ممتعة، وكذلك الحوار، والأهم من كل ذلك اللغة المستخدمة كانت لغة خفيفة وفيها الكثير من المتعة.
2. الأجداد الذين هم رمز للحكمة ولكن للضعف أيضًا، نجد أنه تمّ توظيفهم في القصة على نحو إيجابي جدًا، فليسوا هم أشخاص مملين، دائمي المرض، يعيشون في عالمهم الخاص ولا يدركون هموم أحفادهم.. على العكس من ذلك فقد تمّ عرضهم على أنهم أناس إيجابيين ومنتجين.
فالجد هو صاحب فكرة أن صوت وقع الحوافر هو الدليل على أنّ المكان فارغ أو ممتلئ تحت الأرض.
بل أنه ساعدهم في الكشف عن الكنز ونزل معهم لحمله للأعلى.
3. هناك اهتمام فائق بالحياة الاجتماعية، والجماعية، والتي نفتقدها اليوم، حيث أفراد القرية المتآلفون والمتعاونون، الذين يكوّنون بيئة خصبة لحكي القصص والأساطير "منذ وعيت على الدنيا وأنا أسمع أهل القرية يروون حكايات عن ذلك المكان الغامض".
4. وصف بساطة الحياة في هذه القرية كان لافتًا، حيث الأولاد يشاركون في المهام اليومية في البيت من تنظيف وترتيب، ويشاهدون المسلسلات الكرتونية من التلفاز في بيت واحد في القرية، ويجلس الآباء في العصر كل يوم في بيت والد فريد.. كلها أمور باتت مفقودة لدى الأبناء اليوم.
5. اعتمدت القصة على عنصر (التشويق) بشكل كبير، من خلال الغموض، مثل موقف أنّ نوار يشعر أن عيونًا تلاحقه في المغارة واعتبار أنها أشباح، ليتضح بعد ذلك أنها عيون العنزات.
أسلوب آخر لزيادة التشويق هو نهايات الفصول، إذ أنّ الكثير منها ينتهي بعنصر يجعلنا متحمسين لقلب الصفحة والمتابعة مثل هذه العبارة "حتى رأينا صخرة منحوتة بشكل غريب، فتعاونا جميعًا على إزاحتها"، وهنا نريد أن نعرف ماذا وجدوا تحت هذه الصخرة؟!
6. هناك جوانب ثقافية عديدة في القصة، منها أنّ الأصدقاء ليس من الضرورة أن يكونوا متماثلين، فكل صديق له شخصيته المختلفة، ورغم ذلك هم أصدقاء ومتعاونون. وهنا يتضح الدور الثقافي لقصص الأطفال التي تركز على احترام اختلافاتنا وإدارتها على أكمل وجه.
7. التقنية التي أريد أن أختم بها هذه القراءة، وهي من التقنيات الرائعة التي استخدمها الكاتب هي تقنية "وضع العملات الذهبية على طول الطريق" كما يسميها الكاتب (روي بيتر كلارك)، فبين كل عدد من الصفحات يجعلك النص تُحني ظهرك لتلقط قطعة ذهبية. قد تظهر العملة الذهبية على هيئة (مشهد صغير أو حكاية)، وقد تظهر على هيئة (حقيقة مفاجئة)، أو قد تظهر (كاقتباس معبّر)، وعندما تجد القطعة الذهبية وتشعر بمتعة الإمساك بها تقول لنفسك تلقائيًا: "لن أتوقف عن القراءة إذ توجد قطعة ذهبية بعد عدد قليل من الصفحات"، فالقطعة الذهبية في البداية هي مكافأة للقارئ لأنه اختار هذه القصة، وفي النهاية تجعله يفكر بقراءة القصة مرة أخرى أو قراءة قصص أخرى لنفس الكاتب، والقطع الذهبية في وسط الطريق تجعل القارئ يستمر في القراءة ولا يترك الكتاب.
في نهاية قراءتي للنص، أشعر أنّ الكاتب جيكر خورشيد، هو بحدّ ذاته، قطعة ذهبية ألقيت في طريقنا.
حسين خليل
Jikar Khurshid
Academia International
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى