من آثار ظاهرة النص القصيرِ العَنْونةُ الُمحيِّرة، أي أن يجدَه متلقّوه قد اتخذ عنوانا مدهشا، لا علاقة ظاهرة له به، وإن خطر لبعضهم في تأويلها وَجهٌ، لم يمتنع أن يخطر لغيره وَجهٌ آخر...، وهلم جرا!
هذه نصوص قصيرة ثلاثة، عناوينها على الترتيب: "عُصْفُورٌ"، و"شَجَرَةٌ"، و"دُخَانٌ". يعبر أولها عن "حُلول موعد البَوح بالحقيقة"، وثانيها عن "أمانة البَيان"، وثالثها عن "تَربُّص المظلوم بالظالم":
1
بِاللَّهِ يَا لَيْلُ عَجِّلِ الْفَرَحَا أَشْرَقَ فِيكَ الْهِلَالُ وَانْشَرَحَا
ظَلَّ طَوَالَ النَّهَارِ مُحْتَجِبًا تَحْسَبُهُ الْكَائِنَاتُ مُنْتَزِحَا
فَافْتَحْ لَهُ قَلْبَكَ الْعَتِيقَ يُحَدِّثْكَ حَدِيثَ الْهَوَى وَمَا جَرَحَا
2
لِلصَّمْتِ مِنْ ثِقَلِ الْكَلَامِ صَهِيلُ يَأْوِي إِلَى وَطَنِ النُّهَى وَيَقِيلُ
جَرَّدْتُ مِنْ وَشَبِ الرِّيَاءِ عَقِيرَتِي وَصَرَخْتُ لَوْلَا الْخَوْفُ وَالتَّأْمِيلُ
اَللهُ يَا أَللهُ يَا أَللهُ وَانْفَتَحَتْ وَرَاجَ الْأَمْنُ وَالتَّهْلِيلُ
3
مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ سَالَتْ حُمْرَةُ الخَجَلِ يَا سَاعَةَ الْعَدْلِ طُولِي سَاعَةَ الْأَجَلِ
فَجِّرْ وَقَتِّلْ وَقَهْقِهْ عَاجِلًا فَوَرَاءَ ظَنِّكَ امْتَدَّ عِلْمُ الْمُؤْمِنِ الْبَطَلِ
يَظَلُّ يَفْتِلُ مِنْ بَلْوَاكَ سُلَّمَهُ إِلَى النَّجَاةِ وَيُخْفِي الْقَوْلَ فِي الْعَمَلِ
ربما انتظر متلقو تلك النصوص القصيرة أن يسدوا بعناوينها ما اختل من متونها، فإذا كل عنوان منها كلمة واحدة (اسم عين)، تحتاج هي في نفسها إلى ما يسد خللها! ولا ريب في أن اعتدال ميزان التعبير النصي الأدبي إنما يكون باتزان العنوان في إحدى كفتيه والمتن في الكفة الأخرى؛ فكأن العنوان على حاله هذه، خبر مقدم مبتدؤه المتن المؤخر، توجيها طريفا، لا عهدَ لدارسي أساليب العَنْونة به!
كيف إذن يُحكم على "حُلول موعد البَوح بالحقيقة"، بأنه "عُصفور"! ألأن بعض العصافير معروف بنقل الأخبار، أم لأن طلوع الهلال الوليد مثل تفلُّت العصفور الحبيس؟ ثُمَّ كيف يُحكم على "أَمانة البَيان"، بأنها "شَجرة"! ألأن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة "أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا"، أم لأن شجون الكلام المستفيض كفروع الشجرة المُتَعثكلة، يُقلّمها الصمتُ؟ ثُمَّتَ كيف يُحكم على "تَربُّص المظلوم بالظالم"، بأنه "دخان"! ألأن دخان نار الغضب من دخان نار الظلم، يتصاعد إذ يتصاعد، أم لأن عمود الدخان كان في الحكايات العجيبة مَهرَب بعض المظلومين المسجونين؟