- عظماء كلية الحقوق بجامعة دمشق:

قرار جريء و موقف رجل

قاضي الشرعية(لم نعرف من هو صاحب النص/لكن نقلناه لنسأل عن المصدر)

في مستهل العام 1973 تمّ وبشكل تعسفي نقل الدكتور الكبير في كلية الحقوق "محمد الفاضل" إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية (تخيلوا فقيه وأستاذ لقانون العقوبات ينقل لوزارة الإدارة المحلية !!)،
فرفع الدكتور "الفاضل" دعوى أمام محكمة القضاء الإداري على وزير التربية (لم تكن وزارة التعليم العالي قد استحدثت بعد)، طالباً إلغاء قرار نقله (التعسفي) وقد ألغته المحكمة الحصيفة فعلاً،

ويذكر الدكتور "عبد الإله الخاني" رئيس مجلس الدولة والأستاذ في كلية الحقوق بجامعة دمشق، في مؤلفه القيّم، "موسوعة القانون الإداري"، حيثيات هذا الحكم المتميز الذي صدر في العام 1976 عن محكمة الإدارية العليا:

((الأستاذ الجامعي مثال للإنسان الذي يتمتع بحقوق الإنسان المعنوية التي تعادل الكرامة الإنسانية، وهو حق مزدوج يضمن حق المُعلم والمتعلم على السواء،
فحق الأستاذ في أن يقول كلمة العلم في الجامعة وهي منبر علمي، مساوٍ تماماً لحق طالب الجامعة في أن يستمر في استقاء هذا العلم لا تقطعه عليه قوة))
[موسوعة القانون الإداري، ج1، طبعة 2، ص 108]

في الواقع استبد بي الفضول لمعرفة السبب الذي حدا بالوزير لنقل أحد كبار العلماء في القانون بهذا الشكل التعسفي وإقصائه عن المكان الذي يمكن لطلاب العلم الاستفادة به من علمه وعطائه، مما حدا بي على هامش إحدى الفعاليات القانونية لانتهاز فرصة الاجتماع بأحد كبار الأساتذة في كلية الحقوق ممن عاصروا الحادثة، وهو عميد سابق لكلية الحقوق في دمشق، وسألته عن الموضوع، فاستحضر ذاكرته البعيدة قائلاً:

في مستهل العام 1973 حينما كان الدكتور "كمال غالي" أستاذ القانون الدستوري عميداً لكلية الحقوق، تأخر بعض الأساتذة في تسليم نتائج امتحانات الطلاب، ومن بينهم الدكتور "محمد الفاضل" رحمه الله، فقام العميد بتوجيه كتب رسمية لكافة الأساتذة المتأخرين يحثهم فيه على الإسراع بتسليم النتائج،
وعلى ما يبدو أن الدكتور الفاضل شعر بالانزعاج الشديد من هذا الإجراء واعتبره لا يليق به وبمكانته العلمية كفقيه، والسياسية كوزير سابق، فقام بتدوين جواب قاس في متن الكتاب يقول:

((يردُّ إلى من وقّعه، وإلى من فوقه، وإلى من فوق فوقه))

استاء الدكتور "غالي" رحمه الله كثيراً من هذا الجواب، فرفع الموضوع إلى رئيس الجامعة، الذي رفعه بدوره إلى وزير التربية وكان حينها الدكتور "شاكر الفحام" فرفعه بدوره إلى رئيس الوزراء وكان وقتها اللواء "عبد الرحمن خليفاوي".
ولما كانت الشدّة من طبع العسكر، والانضباط بالنسبة لهم أهم من المكانة العلمية، فأمر رئيس الوزراء بعقوبة النقل المذكورة.

ومن الجدير بالذكر أنه حينما صدر الحكم بإلغاء قرار النقل التعسفي، كان الدكتور "عبود السراج" رئيساً لقسم القانون الجزائي في كلية الحقوق، وفي سابقة تحتسب له استقال فوراً من المنصب ليفسح المجال للدكتور "الفاضل" ليعود ويترأس القسم ثانية كونه أستاذ الدكتور "السراج".

قرار المحكمة هذا يعيد إلى الأذهان ما يقوله كثير من الفقهاء من أن القاضي الإداري هو "قاضي الشرعية"، حيث أن:

((مبدأ الشرعية هو سيادة القانون ومعناه أن القاعدة القانونية فوق إرادات الأفراد جميعاً حكام ومحكومين، فهو بذلك يشكل سياج ينبغي عدم خرقه واحترامه من الكافة واجب.....
ومن بين شروط تحقيق الحماية الأكيدة والفعالة لمبدأ الشرعية هو وجود رقابة قضائية إدارية فعالة وهذا من خلال الوسيلة القانونية والقضائية المتمثلة في الدعوى القضائية الإدارية))
{د. فواز الجلط - "الضمانات الدستورية لحماية مبدأ الشرعية" - أطروحة دكتوراه - جامعة الجزائر}

ويغرد الدكتور "الجلط" أيضاً بنفس المرجع، وبكلمات لا تخلو من السحر في واجب القاضي الإداري قائلاً:
((كثيرا من الفقهاء يطلقون على القاضي الإداري صفة قاضي الشرعية، فهو المؤتمن على ضمان خضوع الإدارة للقانون وهو ما يعبر عنه بمبدأ سيادة القانون أو الشرعيّة الذي يعني أن جميع التصرفات التي تصدر عن سلطات الدولة وأجهزتها الإدارية يجب أن تتوافق مع كافة القواعد القانونية الموضوعة من قَبل، بحيث تكون التصرفات الإيجابية والسلبية في دائرة حدود النظام القانوني المقرر في الدولة، الأمر الذي يجعل دور القاضي الإداري كقاض للشرعية له دوره البارز في ضمان تدرج القواعد القانونية وعلويتها على القرارات الإدارية من خلال الآليات القانونية المتمثلة في الدعاوى الإدارية الموضوعة خصيصا لمخاصمة تلك القرارات المخالفة للقانون والمطالبة بإلغائها، من خلال أهم دعوى والمتمثلة أساسا في دعوى الإلغاء))

ومن نافلة القول أنه تمت فيما بعد المصالحة بين الدكتورين "محمد الفاضل وكمال غالي" حيث جرت مأدبة لهذه الغاية على شرفهما في أحد مطاعم دمشق الفخمة، وعلى الأرجح كانت هذه الوليمة بمبادرة وعلى نفقة الدكتور "عزيز شكري" رحمهم الله جميعاً.

وأخيراً نختم بالقول:
ليس القاضي الإداري وحده هو "قاضي الشرعية" حيث يسبغها على نظام الحكم، وإنما كل قاض يجلس على منصة الحكم بين الناس باسم الشعب، هو "قاضٍ للشرعية".

«منقولة.....»