اليوم الحادي والسبعون : رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم
***** جعفر بن أبي طالب - أشبهت خلقي ، وخلقي -
تحدثنا عن صفاته النبيلة وعرفنا أنه كان على رأس المهاجرين للحبشة ...
ولحقهم وفد من قريش لاستردادهم من ملك الحبشة النجاشي
نتابع .....
وفي وقار مهيب ، وتواضع جليل ، جلس النجاشي على كرسيه العالي ، تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية ، وجلس أمامه في البهو الفسيح ، المسلمون المهاجرون ، تغشاهم سكينة الله ، وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير :
" أيها الملك.. انه قد ضوى لك إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، بل جاؤوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم ، أعمامهم ، وعشائرهم ، لتردّهم اليهم"...
وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين ، ملقيا عليهم سؤاله :
" ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟
ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم ، وقبل مجيئهم إلى هذا الاجتماع..
نهض جعفر في تؤدة وجلال ، وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال:
" يا أيها الملك..
كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..
وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء..
ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به ، واتبعناه على ما جاءه من ربه ، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا ، وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا ، فغدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردّونا إلى عبادة الأوثان ، وإلى ما كنّا عليه من الخبائث..
فلما قهرونا ، وظلمونا ، وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك"...
ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر ، فملأت نفس النجاشي إحساسا وروعة، والتفت الى جعفر وساله :
" هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟
قال جعفر : نعم..
قال النجاشي : فاقرأه علي..
ومضى حعفر يتلو لآيات من سورة مريم ، في أداء عذب ، وخشوع
كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * إلى الآيات : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا
فبكى النجاشي ، وبكى معه أساقفته جميعا..
ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة ، التفت الى مبعوثي قريش ، وقال :
" ان هذا ، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..
انطلقا فلا والله ، لا أسلمهم إليكما"..!!
انفضّ الجميع ، وقد نصر الله عباده وآرهم ، في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة..
لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة ، لا يتجرّع الهزيمة ، ولا يذعن لليأس..
وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه إلى نزلهما ، حتى ذهب يفكّر ويدبّر ، وقال لزميله :
" والله لأرجعنّ للنجاشي غدا ، ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم"..
وأجابه صاحبه : " لا تفعل، فان لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا"..
قال عمرو : " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد ، كبقية العباد"..
هذه اذن هي المكيدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم الى الزاوية الحادة ، ويضعهم بين شقّي الرحى ، فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله ، حرّكوا ضدهم أضان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!!
وللموضوع تتمة إن شاء الله