* قصة البداية *
** الحلقة 27 من السيرة النبوية :


** يهتم محترفو التشكيك بالإسلام ، بمعالجة موضوع الوحي في حياته عليه الصلاة والسلام ، ويبذلون جهدا" فكريا" شاقا" ، من أجل التلبيس في حقيقته ، والخلط بينه وبين الإلهام .. ذلك لعلمهم بأن موضوع الوحي هو منبع يقين المسلمين ، وإيمانهم بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من عند الله .. فلئن أتيح تشكيكهم بحقيقته ، أمكن تكفيرهم بكل مايتفرع عنه من عقائد وأحكام ، وأمكنهم أن يمهدوا لفكرة أن كل مادعا إليه محمد -صلى الله عليه وسلم- من المبادىء والأحكام التشريعية ، ليس إلا من تفكيره الذاتي ..
* ظاهرة الوحي ليست أمرا" ذاتيا" داخليا" ، مرده إلى حديث النفس المجرد ، إنما هي استقبال وتلق لحقيقة خارجية لاعلاقة لها بالنفس وداخل الذات ، وضم الملك إياه ، ثم إرساله ثلاث مرات ، قائلا" في كل مرة : اقرأ ، يعتبر تأكيدا" لهذا التلقي الخارجي ، ومبالغة في نفي ماقد يتصور من أن الأمر لايعدو كونه خيالا" داخليا" فقط ..
* خوفه ورعبه مما سمع ورأى يدل على أنه لم يكن يتصور ، أو يخطر على باله هكذا توقع ، ولاشك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير ، إلى أن تتكون في نفسه -بطريقة الكشف التدريجي المستمر - عقيدة يؤمن بالدعوة إليها ، ثم إن شيئا" من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية لايستدعي الخوف والرعب وامتقاع اللون ، وليس ثمة أي انسجام بين التدرج في التفكير والتأمل من ناحية ، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى ..
* يتجلى مزيد من صورة المفاجأة المخيفة لديه صلى الله عليه وسلم ، في توهمه بأن هذا الذي رآه وغطه وكلمه في الغار قد يكون إتيا" من الجن ، وقد كان تعالى قادرا" على أن يربط على قلبه عليه الصلاة والسلام ، ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلمه ليس إلا جبريل ، لكن الحكمة الإلهية اقتضت إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد عليه الصلاة والسلام قبل البعثة ، وشخصيته بعدها ، وبيان أن شيئا" من أركان العقيدة الإسلامية أو التشريع الإسلامي ، لم يطبخ في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم سابقا" ، ولم يتصور الدعوة إليه سلفا" -كما يدعي البعض- .
* انقطاع الوحي بعد ذلك ، وتلبثه ستة أشهر أو أكثر ، ينطوي على معجزة إلهية رائعة ، إذ في ذلك أبلغ الرد على مايفسر به محترفو الغزو الفكري الوحي النبوي ، من أنه الإشراق النفسي المنبعث لديه من طول التأمل والتكرار ، وأنه أمر داخلي منبعث من ذاته .
* تحول قلقه عليه الصلاة والسلام من احتجاب الملك مدة طويلة ، إلى خوف في نفسه ، أن الله تعالى قد قلاه ، بعد أن أراد أن يشرفه بالوحي والرسالة ، لسوء قد صدر منه ، فضاقت الدنيا عليه ، حتى رأى الملك ، وقد ملأ شكله مابين السماء والأرض ، يقول :"يامحمد أنت رسول الله إلى الناس"،، فعاد مرة أخرى ، وقد استبد به الخوف والرعب إلى البيت ، حيث نزل عليه قوله تعالى :"ياأيها المدثر ، قم فأنذر".
* هذه الحالة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاما" نفسيا" ، ضربا" من الجنون ، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية ، والتأملات الفكرية ، لايمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال ..