صحيح أن إخوان الصفا أدركوا أن الدولة تبتدئ وترقى وتنتهي حيث قالوا: “إن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي. وإذا بلغت إلى أقصى مدى غاياتها. ومنتهى نهاياتها، أخذت في الانحطاط والنقصان وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط، والظّهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم، ويتمكن الحادث المتأخر…”(77).لكنهم لم يحددوا هذا بعمر مثلما حدده ابن خلدون بمائة وعشرين سنة ولا بأجيال. فقد قالوا كلاماً عاماً يدركه الكل ولا يختلف عن “قانون الدورة” الذي جاء به بوليبيوس (201-120ق.م) الذي قال: “عندما تتوصل دولة ما، بعد أن تكون قد أبعدت الكثير من الأخطار الشديدة لسموّ وقوة لا جدال فيهما، يحدث بالتّأكيد، إذا أقامت الرّفاهية فيها طويلاً، أن يصبح العيش فيها يتم بطريقة باذخة جداً، ويأخذ النّاس فيها بالتّشاجر بشكل مفرط من أجل كل ما يتعلّق بالحصول على مناصب الحكم وكلّ ما تبقى من مشاريع، حينئذ يبدأ الانحطاط”(78).يؤكد ابن خلدون نظريته في أعمار الدولة بنظرية أخرى مشابهة لها وإن اختلفت عنها قليلاً وهي نظرية أطوار الدّولة التي لا تعدو خمسة “يكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطّور لا يكون مثله في الطّور الآخر لأن الخلق تابع بالطّبع لمزاج الحال الذي هو فيه”(79). أمّا الطّور الأول فهو طور الاستيلاء على الملك، تكون العصبية في أوجها، ولا ينفرد صاحب الدّولة دونها في الحكم، فيكون أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة، أما الطور الثاني فهو طور الانفراد بالسلطة والاستبداد وهنا يتحول الملك إلى التنكّر لأهل عصبيته، ويلجأ إلى تكوين عصبية بديلة باصطناع الرّجال واتخاذ الموالى والصنّاع، أما الثالث، فهو طور الفراغ والدّعة، وينصرف فيها الملك إلى تحصيل ثمرات الملك، ويأتي هذا الطّور حين يُشبع الحاكم المستبد شهوته في الحكم، فأول ما تتجه إليه شهوة المستبد هي تنظيم ماليّة الدّولة، وزيادة دخله، فيزداد الصرف على مظاهر المدينة والترف والرخاء، فيزدهر الحكم بازدياد الصّناعات والفنون والعلوم، ويبلغ الرّخاء المادي الذّروة، فيبث الحاكم المعروف على أهله، هذا مع زيادة الأرزاق لصناعه وحاشيته وجنوده، “حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وزيّهم وشكلهم، وهذا الطّور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة، لأنهم في هذه الأطوار ـ التي ذكرت ـ كلّها مستقلّون بآرائهم بانون لعزّتهم موضّحون الطّرق لمن بعدهم
(800). أما الطور الرابع، فهو طور المسالمة والقناعة، وفيه يقنع صاحب الدولة بما ورثه عن آبائه، يكتفي باقتفاء آثارهم وسيرتهم، “فيقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنه أبصر بما بنوا من مجده”(81). أما الطور الخامس فهو طور الإسراف والتبذير يكون صاحب الدولة فيه مبذّراً مسرفاً متلفاً لما جمع أولوه، فتصاب الدّولة بالهرم ويستولي عليها المرض المزمن فتبدأ بالانحلال ثم الفناء والانقراض.
إذن، حينما تضعف العصبية ويزداد البذخ، تضعف الدولة وتغيب قوتها على العصبيات الأخرى التي تبدأ في الانقراض والخروج بدءاً من أطراف الدولة البعيدة عن مركزها “فتأخذ ـ الدولة ـ في التّناقص من جهة الأطراف، ولا زال المركز محفوظاً إلى أن يتأذّن الله بانقراض الأمر جملة، فحينئذ يكون انقراض المركز”(82) فالدولة قَلّ أن تستحكم في رقعة واسعة ومع قبائل وعصبيات كثيرة وهذا ما عبّر عنه أرسطو في أن المركبات السياسية المترامية الأطراف، غير متجانسة ويستحيل عليها تحقيق الغاية من الاجتماع السياسي وهو توفير السّعادة للمواطنين(83).إذن، الدولة عند ابن خلدون تقوم على أربع دعائم وهي: العصبية، والفضيلة، والدين، وضعف دولة سابقة لتقوم الدّولة الجديدة على أنقاضها.هكذا أسهم ابن خلدون في إعطاء الأمثلة الواقعية والحية لكنّها كانت خاصة بالعرب والبربر مما سبب لـه بعض النّقد، مع أنها هي الطّريقة المثلى في دراسة المجتمعات، فيجب أن يقطع مجتمعاً بعينه وتحصر الدّراسة فيه لتخرج بنتائج دقيقة، ثم إن الطريقة نفسها كان قد اتبعها أرسطو في منطقة جغرافية أصغر ومع أناس أقل، حينما أخذ دساتير (158) مدينة يونانية ودرسها وحللها وعلّق عليها(84)، ونال على ذلك كامل الاستحسان والشّرف والتّبجيل، وسمي منهجه بالمنهج العلمي الاستقرائي. ثم صحيح أن ابن خلدون أخذ في استقرائه مجتمعاً معيناً وخاصاً لكن النتائج التي وصل إليها تعمم على كل المجتمعات في كل الأزمنة فـ(فون فسيندنك) ـ الباحث الألماني ـ يذكر أنه “طبق ما كان يشعر به أو يدعو إليه ابن خلدون على أوروبا في القرن التاسع عشر أصح تطبيق وأتمّه”(85)، وذكر ـ متسائلاً ـ أنّ الإمبراطورية الألمانية لم تعمّر طويلاً، فهل يجب أن نبحث لتلك المأساة عن أسباب غير تلك التي أوردها الكاتب العربي ـ ابن خلدون ـ عن سقوط المرابطين والموحّدين؟… كما أن كريمر ـ المستشرق النمساوي ـ ذكر في الرسالة التي قدّمها لأكاديمية العلوم بفيينا سنة (1879م) تحت عنوان “ابن خلدون وتاريخه لحضارة الدّول الإسلامية” أنّه حاول أن يطبق نظريات ابن خلدون على المجتمعات الأوروبية فرأى أن فرنسا التي استعبدها الرّومان فقدت جرأتها وعصبيتها، أما ألمانيا التي لم تغلب قط فقد حافظت عليها، وأن ذلك هو السبب في أن الحرية الحقيقية لا توجد عند الفرنسيين وتوجد عند الألمان(86).jjj