إذن، المهم أن تحكم الدولة قوانين سياسية، وإلا سوف لن تستمر، وقد وضح ذلك في قوله: “… فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة’ وينقضون إلى أحكامها… وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة، لم يستتب أمرها ولا تتم استيلائها(38).ويصنّف هذه السياسات إلى أربعة أنواع:ـ سياسة دينية مستمدة من الشّرع منزلة من عند الله وهي نافعة في الدنيا والآخرة.ـ سياسة عقلية تتمثل في القوانين المفروضة من “العقلاء وأكابر الدولة وبصائرها” وهي حمل الكفة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار(39).ـ سياسة طبيعية، وهي حمل الكفّة على مقتضى الغرض والشهوة.ـ سياسة مدينة “وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عنها على جهة الفرض والتقدير، ويسمّون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمّى من ذلك بالمدينة الفاضلة والقوانين المراعاة في ذلك بسياسة المدينة(40).أما الحكم الذي يفضله ابن خلدون، فهو الخلافة الشرعية، وهي “حمل الكفة على مقتضى النّظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية، وهي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا”(41)، وذلك لأن أحكام الملك “في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم، لحمله إيّاهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته”(42).يقرن ابن خلدون لفظ إمامة بلفظ خليفة أمّا تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصّلاة في اتباعه والاقتداء به، وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبيr في أمته، فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول اللهr(43) وهو على الرغم من أنه ذَكَر أن الخليفة والملك، خلفاء الله في عباده، إلا أنه لم يكن يقصد بذلك الحق الإلهي أو التيوقراطية في الحكم، كغيره من المفكرين الإسلاميين، فالقرآن ينص على أن جميع النّاس خلفاء الله في الأرض وليس أناساً بعينهم وقد تنبه ابن خلدون لذلك وذكر قول أبي بكر القائل: “لست خليفة الله ولكني خليفة رسول اللهr“.ولخّص ابن خلدون شروط الخلافة في الإجماع، وهذا راجع إلى اختيار أهل العقد والحل، علاوة على شروط أربعة وهي العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل، أما النسب القرشي فقد ذكر أنه قد اختلف عليه.وللخليفة مسؤولية حفظ الدين وسياسة الدّنيا، أما حفظ الدين فعن طريق الخطط الدينية المتمثلة في إمامة الصلاة، وإعطاء حق الفتوى إلى أهل العلم وإعانتهم على ذلك وإبعاد من ليس أهلاً لها، ومباشرة القضاء والإشراف على العدالة والحسبة والسكّة(44).أمّا الخطط السلطانية التي تُدرج في مهام سياسة الدنيا فأولها الوزارة وهي أم الخطط السلطانية والرّتب الملوكيّة لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة وهي مأخوذة من المؤازرة وهي المعاونة، أو من الوزر وهو الثقل وقد يصبح الوزير مستبداً بالحكم، ويكون هو القائم بالحكم، وهنا تسمى الوزارة وزارة تفويض، وحينما يكون السلطان قائماً على نفسه تكون الوزارة وزارة تنفيذ، وهذا ما عبر عنه، أيضاً، الماوردي(45) في الأحكام السلطانية. ثم الحجابة، والحاجب هو من يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم، ويفتحه لهم على قدره في مواقيته، وديوان أعمال الجبايات وهو القيام على أعمال الجبايات وحفظ الدولة في الدخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم ثم ديوان الرسائل والكتابة والشرطة وقيادة الأسطول.وأعطى ابن خلدون مقاماً كبيراً للجغرافية في صنع الظواهر الاجتماعية ثم السياسية، فإلى اختلاف الأقاليم الطبيعية يعود ما يميز المجتمعات بعضها من بعض، في ألوانها ونشاطها وشجاعتها وكثرة عددها أو قلته وما فطرت عليه من طبائع باختلاف مساكنها على سطح الأرض من جبل أو سهل أو صحراء ومن منطقة باردة أو حارة أو معتدلة، ومن منزل خصب إلى واد ليس ذي زرع(46) بل وذهب إلى أن النظام الغذائي أيضاً يؤثر على البناء الفيزيولوجي والبناء النفسي وما يترتب على هذه وتلك من الأبعاد السياسية(47).يقسم ابن خلدون الكرة الأرضية إلى سبعة أقاليم، أعدلها الإقليم الرابع وما يحيط به من الإقليم الثالث والخامس،والثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال، أما الأول والسابع فهما أبعد بكثير. ولهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه وجميع ما يتكوّن في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً، حتى النبوّات فإنما توجد ـ في الأكثر ـ فيها ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية… وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم، فتجدهم على غاية من التوسّط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم،… وهؤلاء أهل المغرب والشّام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن قرب منهما من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين(48).يؤيد تاريخ الحضارة فعلاً ما ذهب إليه ابن خلدون، فالحضارات الكبرى، كالحضارة الإسلامية والساسانية واليونانية، والرومانية لم تكن إلا في المناطق المعتدلة.يخصص ابن خلدون بعد ذلك جزءاً للحديث عن أثر الهواء في اختلاف البشر ويذكر أن الحَرّ يُولّد الخفة والطيش وكثرة الطّرب والولع بالرقص والغفلة عن العواقب، على عكس المناطق الباردة التي ترى أهلها يميلون إلى الحزن ومفرطين في النّظر إلى العواقب(49)، ثمّ يتحدث عن اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم ويذكر أن المتقشفين من أهل البادية والحضر ممن يأخذ نفسه بالجوع والتّجافي عن الملاذ أحسن ديناً وإقبالاً على العبادة من أهل التّرف والخصب “ألوانهم أصفى، وأبدانهم أنقى، وأشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف وآذانهم أثقب في المعارف والإدراكات”. كما ذهب إلى أن التحمّل والجلد والصّبر هي من سمات أهل الجوع(50)، ولاشك أنه هنا تأثر بالحديث النّبوي القائل: [المعدة بيت الداء]، ولا يخفى أن ابن خلدون سبق الدراسات الطبيّة الحديثة التي تقوم على الغذاء وتجعله سبباً لكل داء.لقد كان ابن خلدون رائداً لعلماء الغرب في الربط بين الظواهر الجغرافية والظواهر الاجتماعية والسياسية، لقد تأثر به منتيسكيو (1689-1755م) وأعلن أن مجتمعات الطّقس الحر تميل إلى الخمول والكسل، ومجتمعات الطقس البارد تميل إلى النشاط والحيوية، ففي نظره كلّما كان الطقس حاراً ساد الحكم الاستبدادي، وكلّما كان بارداً كان ملائماً لظهور الديمقراطيات، فالاسترخاء والكسل يساعدان الناس على الخضوع للحاكم المستبد والبرودة تساعد الشعوب على الوصول إلى الحرية السياسية، كما أن الأرض السهلة التي لا تمنح مانعاً طبيعياً للمقاومة والدّفاع ينشأ فيها نظام استبدادي طغياني، أما الأرض الجبلية فتمنح النّاس الشجاعة والبطولة، وتساعدهم على المقاومة الطويلة وبدهي أن الديمقراطيات تقوم فيها، بينما تكون السهول مكاناً ملائماً لقيام الحكومات الاستبدادية(51).في الواقع، أن منتسكيو غالى كثيراً في رأيه، وفاته أن ابن خلدون قد أعطى قيمة للمناخ والطبيعة، لكنه أدخل في حسابه عوامل أخرى لتكوين الظاهرة السياسية كالدين والعصبية والظروف الاقتصادية والتربية والتعليم حيث نراه يقول: “إن الإنسان ابن عوائده ومألوفه”(52).يَقسم ابن خلدون سكان الدولة إلى بدو وحضر وسكان الصحارى المتوغلين فيها البعيدين عن الحضارة، وهو يدعوهم بالمتوحشين. غير أنه أشاد كثيراً بسكان البدو، “فهم أصل للمدن والحضر وسابق عليها”، وعرفهم قائلاً: “فهم المنتحلون للمعاش الطّبيعي من الفلاحة والغراسة والزراعة والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروري في الأقوات والملابس والمساكن، وهم يعيشون في القرى والأرياف، لأنها متّسع لما لا تتسع لـه الحواضر من المزارع والمسارح للحيوانات، فأهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيّئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر”. “وأهل البدو إن كانوا مقبلين على الدنيا، إلا أنهم في المقدار الضروري لا في التّرف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها، وهم أقرب إلى الشجاعة من الحضر وأكثر تلاحماً “لأنهم عصبية وأهل نسب واحد” وأكثر حياء ووقاراً يحترمون مشايخهم وكبراءهم الذين يشرفون عليهم ويكونون وازعاً لهم(53).أما أهل الحضر فـ”لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدّنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من الشّرور، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه “كما أنهم يتخاذلون ويتقاعسون” ووكلوا أمرهم والمدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم الحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولّت حراستهم” على المبدأ القائل “إن قوماً يلبسون السراويل المطرزة بالورود الجميلة لن يستطيعوا الدفاع عن مفاخرهم الوطنية في ميدان القتال”(54) ثم إن أهل الحضر ساءت أخلاقهم وابتعد عنهم الحياء ” حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، ولا يصدّهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء والتظاهر بالفواحش قولاً وعملاً… إن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير”.إن هذه الموازنة بين البدو والحضر هي التي انتهى منها ابن خلدون إلى نظرية العصبية التي هي صلب نظرياته السياسية، وأساس وجهة نظره في الحكم والقوة والدولة، لقد ابتكرها ابتكاراً وأيدها بما شاهده من أحوال الأمم التي عاشها وسمع عنها.يعرف ابن خلدون العصبية بـ”نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته… وما جعل الله في قلوب عباده من الشّفعة والنّعرة على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في أتباع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر “ويقول في موضع آخر”… إن صلة الرحم طبيعية في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة… فإذا كان النّسب الواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها وضواحيها… وهذا الباب، الولاء والحلف، إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه وخلفه للأنفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسبها بوجهة من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النّسب أو قريب منها…”(55).