بقلم:عبد السلام أجرير المادة كانت بعنوان:
ردا على غلاة الأمازيغية: المغرب الكبير شعب واحد وأكثر من لغة
بين الفينة والأخرى يطل علينا متطرفو الأمازيغية بأفكار غريبة فضفاضة لا علاقة لها بالعلمية ولا حتى بالنظر السليم والتأمل الرصين، فإن كان المغرب قد حسم في الأمازيغية وجعلها لغة رسمية فهذا من باب التنوع اللساني، وهو أمر محمود، ولكن هذا لا يعني تشويه ثقافة سكان المغرب الكبير (وجل سكان المغرب من أصول ما قبل الفتح حتى الذين لا يتكلمون الأمازيغية كما سنرى)، إن اللغة أداة للتواصل ولا علاقة لها بالهوية ولا بالثقافة، بل هي مجرد أداة لنقل الثقافة، فكونك تتكلم هذه اللغة لا يعني أنك تحمل ثقافة رصينة، وكم من متقن للفرنسة لا يعلم شيئا عن الثقافة الفرنسية.
وقد طال بنا الزمان حتى رأينا من يجعل من الأمازيغية دينا يُعبد وثقافة بها يعادي ويوالي ويتبرأ... ونعرف من ألْحَد وطالب بالرجوع إلى عبادة الأوثان البربرية القديمة. وهذا غلو بغيض قد فشل في ترسيخه الاستعمار الفرنسي، وها نحن نراه يتكرر مع الاستعمار الداخلي المتطرف.
وفي هذه السطور محاولة لوضع سكة "الأمازيغية" في موضعها، ورد على هؤلاء المتطرفين الذين يتبرء منهم كل الأمازيغ الأحرار.
1- لا يستطيع أحد إثبات نسبه لزمن طويل جدا:
بداية الكلام أبدأ بهذا التحدي: من أثبت لنا أنه أمازيغي بدليل النسب، وأثبت لنا أنه ينتمي في آخر المطاف إلى "مازغ بن كنعان" (حسب الرواية المشهورة أو إلى غيره لا يهم)، أو من أثبت لي أنه عربي الأصل وينتسب في آخر المطاف إلى "يعرب بن قحطان"، وأنه من نسل خالص لم يختلط بباقي الأقوام على مر الدهور والأعوام، فإنه يستحق أن يدعي ما يشاء من دعاوى، ونحن نعطيه ما يريده بعد ذلك !!!
يا لَقومي ما أبسط تفكيرهم وشدة سذاجة عقولهم !! ليس هناك شعب اسمه الأمازيغ خالص ولا شعب اسمه العرب خالص ولا شعب اسمه الأكراد خالص... إلا في علم الأنساب والتاريخ النسبي، وهل كل مولود يولد في العالم يحمل معه شجرة النسب إلى جده الأعلى حام أو يافث أو سام أبناء نوح عليه السلام !؟
إن كل من عرف العربية فهو عربي وكل من عرف الأمازيغية فهو أمازيغي وكل من عرف الكردية فهو كردي... فأين الفرق بينهم؟ هل الفرق في اللسان الذي يستطيع أن يتعلمه الإنسان في ظرف شهر أو أقل؟ أم في الوطن والتراب الذي قد ينتمي إليه الإنسان بطلب الجنسية في ظرف 15 يوما أو أقل؟ أو في لون البشرة مع أن العرق دساس؛ وقد يخرج من صلب الأبيض الأسود !؟؟...(1)
فكل هذا ليس محددا لهويّة الإنسان في الحقيقة، إن هويّة الإنسان أسمى من أن تحدد في اللغة أو في قطعة من تراب أو في لون بشرة أو في عرق دسّاس...
2- المغرب الكبير استقرت به أكثر من عشيرة (أو قومية عرقية) عبر التاريخ:
المغرب الكبير به حوالي 10 قوميات عرقية قديمة استقرت فيه منذ آلاف السنين، والأمازيع من آخرهم حسب الترتيب التاريخي النِّسْبي، (والتاريخ دائما نسبي الحقائق، فلا تُبنى عليه مسلمات بل ظنون واجتهادات)، وأهم هذه الشعوب هي: الأفارقة القدامى سكان الصحراء، والكنعانيون (=الفنيقيون والقرطاجيون) والمصريون القدامى، والإغريق، والرومان، والوندال، والقوط، والعرب، وأجناس أخرى.كل هؤلاء رحلوا إلى المغرب واستقروا فيه وبعضهم كانت لهم سلطة زمانية في أجزاء كبيرة من المغرب كالقرطاجيين والرومان والوندال...
إن بلاد المغرب مثلها مثل باقي بلاد الله تعالى الأخرى كبلاد الإنجليز وبلاد الإفرنج (=الفرنسيين) وبلاد الصينيين... فلماذا المغرب وحده يُبحث فيه عن أصول سكانه بهذا الهوس دون غيره من البلدان؟ فهل تجدون هذا السؤال بريئا؟ فهل الإفرنج –مقلا- وُلدوا وخلقوا مباشرة في فرنسا الحالية؟ ألم يهاجروا من الشمال الأقصى لأوروبا حيث "البرابرة"إلى بلاد الغال (=فرنسا الحالية) بعد عصر الجليد القاسي؟ وقبلها، ألم يهاجروا من بلاد أخرى مماثلة إلى بلاد الجرمان الشمالية تلك !؟؟...
كل الشعوب عرفت هجرات واختلاط وامتزاج.. . وليس هناك شيء أفسد على الناس اجتماعهم وتعاونهم مثل مسألة القومية؛ هذا الفهوم الخبيث الذي ما دخل إلى جسم أمة ما إلا نخرها وشتت شملها وفرقها وأذكى نار الحروب فيها.
لا حق لطائفة معينة بهذا البلد دون غيرها، فالأرض أرض الله، والشعوب عباد الله تهاجر وترتحل من أرضه إلى أرضه، والاختلاف في اللون واللسان آية من آيات الله، وقوام الأمة وميزانها العدل والحق، وأفضل الناس أتقاهم لله تعالى وأكثرهم خدمة لعباده. ومن زاد على هذا فعليه اثم ما زاد.
3- جل المغاربة من أصول ما قبل الفتح الإسلامي، وجلهم قد تعرب:
يذكر ابن خلدون في تاريخه وغيره من الباحثين أن هناك قبائل بربرية (أي: أمازيغية) (2) تعرّبت. وهذا واقع ولا يحتاج إلى تدليل: فهل يتكلم أحد من قبائل وسط المغرب الأقصى من مصمودة أو غمارة أو صنهاجة الآن الأمازيغية؟ إلا نتفا هنا وهناك؛ مع أنها كلها من أصول أمازيغية أو بتعليق أدق: من أصول ما قبل مجيئ العرب في المرة الثانية إلى االمغرب مع الفتح الإسلامي.
وهذه قبيلة غمارة إحدى أهم قبائل المغرب الأقصى قبل مجيء الفتح، وأهم قبيلة أمازيغية في شماله لم يعد أحد فيها يتكلم بالأمازيغية إلى مدشرا (دوّارا) واحدا من مجموع 13 قبيلة مكونة لقبيلة غمارة الكبيرة. فأين ذهب الباقي؟ مع العلم أنهم لم يفارقوا ديارهم إلى اليوم؟ فهل هم أمازيغ أو عرب أو إسبان أو فرنسيين...؟ أين ستصنفهم المنظمة الأمازيغية ؟!
وهناك أُسَر في وسط سوس ووسط الريف من أصول عربية ما بعد الفتح وهي الآن لا تعرف العربية أو قُلْ لسانها الأمي غير عربي 100 بالمائة، مثل قبائل بني سعيد بالريف وأسر الأدارسة في جميع مناطق المغرب بسوس والأطلس، وأظن أن جلّ المغاربة الأمازيغ لا بد وأن يعرفوا أحدا في منطقتهم يحمل لقب "الإدريسي" او "مولاي كذا" أو "سيدي كذا" وغيرها من الألقاب التي كانت تميز الشرفاء النبويين عن غيرهم في جميع مناطق المغرب؛ عن عربهم وأمازيغيهم.
والمسألة لا تحتاج إلى كثير نظر، فيكفي أن نحسبها بحساب رياضي لننظر كم عدد العرب الفاتحين الذين دخلوا إل المغرب إبّان الفتح وقبله وبعده؟ وكيفما كان الرقم فلا بد أن يكون أقل بكثير من عدد الذين آووهم وكانوا موجودين بالمغرب، وعليه، واستنادا إلى المتوالية الهندسية المعتمدة في حساب النمو الديموغرافي، فإن أي نمو يطرأ على الأقلية يتضاعف رقمه على الأغلبية، وهكذا نخلص إلى أن 70 في المائة أو أكثر من سكان المغرب الكبير اليوم هم من أصول ما قبل الفتح الإسلامي، ولكن نجد هذا الرقم (70 في المائة) من سكان المغرب الكبير لا يعرفون إلا العربية بلهجاتها المختلفة، والباقي لهم لسان مزدوج: عربي-أمازيغي، فهل اللغة حقا هي المقياس في تصنيف الأمازيغي من غيره؟ قطعا لا؛ لأن جل الأمازيغ تعربوا من حيث اللغة، ومن بقي منهم محافظا على الأمازيغية جلهم يعرف أيضا العربية، فهم عرب من حيث اللغة شاءوا أم أبوا.
وأظن أنه لو بحث الأستاذ أحمد عصيد نفسه عن نسبه لوجده يرجع إلى العرب الفاتحين؛ ولفظ "عصيد" على وزن "فعيل" دال على هذا الزعم، فليس موافقا للأوزان الأمازيغية التي تبدأ في الغالب بحرف الأف أو التاء. وقلْ نفس الشيء عن "الشامي"... وغيره من رواد الأمازيغية في المغرب.
فاللغة إذن ليست مقياسا في التصنيف والهوية، ولا الأرض أيضا مقياسا... وإنما ذلك من كماليات الهوية والتصنيف وليس من أساسياتها، وإنما المقياس الحقيقي هو الدين والفكر والثقافة؛ فالمسلم المستقيم الذي احتُلت أراضيه في سيبيريا أو في القوقاز من قبل روسيا الظالمة أحسبه وأعتبره أخا لي أكثر من الذي ولدته أمي ولا يعطي قيمة للدين أو يطالب بالنظر في قواطعه كالذي دعى مؤخرا إلى مراجعة الإرث المجمع عليه بين الأمة على أنه قطعي لا يتغير إلى قيام الساعة. فأيهم أخي ومشارك لي في هويتي على الحقيقية؟ هل ذلك المسلم الأعجمي المستقيم المظلوم في روسيا أم هذا المشارك لي في اللغة والبلد، الظالم الجاني على أهم ما في الهوية وهو الدين؟
4- أي بحث في الجذور القديمة جدا لأي شعب هو ضرب من العبث:
الذي نتفق عليه ولا نشك فيه ونقطع به أن المعلموات التاريخية كيفما كانت: كتابة أو نقيشة... فهي نسبية وقابلة للتأويل، فالوثائق التاريخية ليست وحيا مقدسا. والمقطوع به أيضا بدون شك أن المغرب كباقي البلدان العالمة كان ولا يزال مفتوحا وملاذا لكل شعب، وخاصة المضطهد من الظلم والفار من الجبروت؛ فقد كان المغرب أفضل بلد للأمن والاحتماء على مر التاريخ (كان ملاذا للأفارقة سكان الصحراء القدامى بعد تصحر أراضيهم هروبا من قساوة الطبيعة، وكان ملاذا للمصريين والليبين، وأيضا لأتباع موسى عند خراب مسجد إبراهيم الذي جدده سليمان عليهما السلام (الهيكل عند اليهود) بفلسطين، وكان ملاذا أيضا لأتباع عيسى عند اضطهاد الرومان لهم، وكان ملاذا للعرب المضطهدين من سلطة الزمان بالمشرق كالمولى إدريس الفار من بني أمية، وعبد الرحمن الداخل الفار من بني العباس...)، فالمغرب دائما كان مستقبلا للمظلوم وناصرا له، وكان أفضل بلاد آمنة لهم، ولا يزال.
أما ما عدا هذه القطعيات فالعاقل من يأخذها بنوع من الاجتهاد والترجيح دون القطع، والذي لا نحبه أن يُبنى على غير اليقين أمور يقينية حاسمة مصيرية قطعية يعادي بها الإنسان غيره، ولو تعمق فيها وجدها غير ذلك أو على الأقل ظنية، ولا نكير ولا عداوة في الظنيات كما هو مجمع عليه بين العقلاء.
ولا أنسى أننا كنا نحمل معلومات خاطئة قبل التخصص في تاريخ المغرب بالجامعة، وكان حماس القومية الأمازيغية يدفعنا إلى تخيل أشاء كبيرة ، ولكن سرعان ما تصادم كل ذالك بالواقع عند الدراسة والتخصص، وعلمنا أن الأمور الظنية لا ينبغي فيها التنازع والعداوة أبدا. ولذلك أهل التخصص في التاريخ أكثر الناس فهما للقضية الأمازيغية من غيرهم.
بعض المتعصبينن بالقضية الأمازيغية يرد بقوة على مسألة انتساب الأمازيغ إلى مازغ بن كنعان، والحقيقة أن ذلك لا يُمكن الحسم، ولا يُمكن اعتبار هذا الانتساب ضرب من الأسطورة كما يزعم، وحتى الكثير من الأساطير لها أصل، وليس هناك دخان بدون نار.
على كل حال، هناك تداخل بين الكنعانيين (الفنيقيين وأحفادهم القرطاجيين) المهاجرين إلى مغرب الشمس قبل 12.000 سنة قبل الميلاد، وبين غيرهم من القبائل المهاجرة من مصر واليمن وجنوب إفريقيا... ولذلك قلت إن هناك حوالي 10 قوميات تاريخية استقرت بالمغرب قبل مجيء الإسلام، أهمها الأمازيغ (وهم حسب نظري ورأي الخاص جزء من سكان المغرب القديم وليس كلهم).
والذي أعلمه أن من أرجع نسب الأمازيغ إلى مازغ بن كنعان جعلهم من أحفاد الكنعانيين؛ وهذا إذا نظرنا إليه بالتدقيق نجده يصدق على بعض سكان المغرب القديم دون كلهم، فهؤلاء الكنعانيون (=الفنيقيون والقرطاجيون) الذين جاءوا إلى مغرب الشمس في رحلات متواصلة كرحلة "حانون" ورحلة "حاميلقون" ورحلة "عليشا" وغيرها من الرحلات، قد شيدوا مدنا واستوطنوا المغرب فبنوا فيه حواضر مهمة مثل "ليكسوس" بالمغرب و"قادش" و"قرطاجنة" بإسبانيا و"قرطاجة" بتونس... ورحلوا إلى مصادر القصدير في إنجلترا... فلا بد أنهم لما استقروا في المغرب توالدوا وتكاثروا مثلهم مثل غيرهم فيما بعد كالرومان والوندال والعرب...
فعلى هذا يكون جزء من شعب المغرب راجع إلى الكنعانيين ولا شك، وهم المقصودون ببني مازغ بن كنعان في قول من قال بذلك، ومن قال العكس فإنه يقصد غيرهم من الأفارقة سكان الصحراء وغيرهم من الشعوب، وهذا أعدل الأقوال وأحسنها في نظري.
أما تعميم نسب ما على جميع سكان المغرب قبل الفتح الإسلامي فهو نوع من العبث؛ لأنه كما قلنا: إن المغرب كان مفتوحا على مصراعيه وجاء إليه جميع الشعوب من كل اتجاه.
ومما يحسن التنبيه عليه أن الفينيقيين (والإسم الحقيقي لهم والذي ارتضوه هم لأنفسهم هو "الكنعانيون" وليس الفنيقيين؛ لأن الفنيقيين اسم أطلقه عليهم خصومهم من الرومان والإغريق، وأصله من "فينيك" أو "Finicus " وهو نوع من الأصباغ الأرجوانية التي اشتهر الكنعانيون بالتجارة فيها، كما اشتهروا أيضا بتصبيرهم للحوت بالأملاح وتصديره لأروبا)، قلت: إن علاقة الفنيقيين بسكان مغرب الشمس كانت علاقة تجارية بالأساس، ولم تحفظ لنا الوثائق أي علاقة حرب أو عدوان مع سكان المغرب إلا مناوشات خفيفة بعد بناء قرطاجة من قبل القرطاجيين أحفاد الفنييقيين (الكنعانيين)، وبناء قرطاجة متأخر قليلا عن احتكاك الكنعانيين بهذه المناطق. أما ما عدا قرطاجة فقد بقيت العلاقة بين الشعبين ودية وسلمية وتجارية، وليس لنا ما يثبت العكس.
5- الأمازيغ وحرف "التيفيناغ":
أما حرف "التيفيناغ" الذي أصبح الآن حرفا رسميا في المغرب، ففيه كلام طويل، ولا أحب الخوض في أمور هي الآن من قبيل العبث بعدما أصبح رسميا ودستوريا، وكما نقول بالدارجة المغربية "للي عْطاه الله عطاه"، ولكن لا بد من كلام خفيف حوله.
إن حرف "تيفيناغ" ليس هو الأقدم في شمال إفريقيا حسب ما يظن البعض، بل الأقدم منه هو الحرف الليبي الأمازيغي الذي اصطلح على تسميته ب: "Libyco-Berber scrip"، ولا زال العلماء لحد الساعة لم يفكوا كل رموزه ومنقوشاته التي عثر عليها في نواحي ليبيا الحالية، لتداخل الحروف وتمازج اللغة بأكثر من حرف؛ وقد قال عنه أحد كبار العلماء الأمركيين إنه متأثر بالفنيقية كثيرا. وهو يختلف عن "التيفيناغ" على كل حال.
وأفترض أن هذه المنطقة الممتدة من مصر إلى البحر الأطلسي كانت لها أكثر من حرف، وليس حرفا واحدا، وبالتأكيد كانت لها كتابة؛ لأنها كانت مجاورة لأعرق الحضارات الإنسانية وهي الحضارة المصرية والحضارة الفنيقية-الكنعانية قبل ظهور نجم الإغريق وبعدهما الرومان فالعرب الجدد، فتأثير الجوار ولا شك حاصل.
ولا يبعد أن يكون تأثير اللغة الفينيقية على اللغة المغربية القديمة؛ وهذا أمر قوي جدا إذا ما علمنا أن أول شعب اكتشف تدوين اللغة كحروف هجائية وأعطى للحروف قيمة صوتية وكتب باللغة الصوتية الألف-بائية هم الفنيقيون، وكان الناس قبلهم يكتبون بالمقاطع والرسوم والعلامات والرموز كاللغة السومرية واللغة المصرية الهيروغليفية المقطعيّة واللغة الصينية القديمة...
فكان من الطبيعي أن يأخذ الأمازيغ هذا الاكتشاف العالمي الكوني ويتبنوه ويطلقون على لغتهم اسما يظهر فيه تأثير الفنيقية؛ (تيفيناغ=تيفيناق=اسم مؤنث من الفينيقية). فهذا أمر وارد وقريب جدا، فحرف التيفيناغ (أو التيفيناق) في نظرنا أكثر دلالة على علاقة الأمازيغ بالفنيقيين الكنعانيين.
وقد يستغرب البعض هذا الترابط، فأقول له مهلا؛ فتأثير الفنيقية دخل جميع اللغات حتى الأوربية وليس الأمازيغية وحدها، فالإغريقي ينطق هذا الحرف (A) "ألْفَا" وهذا (B) "بِيتا" وهي التي تعني "ألف" في العربـية، وأليف" في العبـرية، وهي التي تعني أيضا "بِيْت" بالعبـرية، و"باء" بالعربية"، ولا نجد معنى ل"ألْفا" ولا "بِيتا" في اللغة الإغريقية، بل هي ألفاظ كما أخذت كُتبت بدون معنى؛ لأن معانيها كنعانية-سامية؛ وهما يعنيان: ألف= القرن، والباء أو البِيْت= البيت المعروف.
فتأثير النطق الكنعاني السامي (الفنيقي) دخل جيمع اللغات العالمية لأنهم هم من اخترعوا الكتابة الصوتية حسب ما وصلنا. كما نجد اليوم تأثير لفظ "television" على جميع اللغات؛ فمنذ طوره الألماني "Paul Nipkow" أجمع سكان الأرض على تسميته بهذا الإسم مع التغيير الطفيف في نطقه ليتوافق مع قواعد أي لغة، وهذا دأب كل اكتشاف جديد(3).
إن البحث عن الجذور الأولى لسكان المغرب أحسبها مرضا نفسيا وضعفا ذاتيا عند المغاربة، فليس هناك شعب بقي في أرضه مدة 5 ملايين سنة (هي عمر الإنسان على الأرض حسب آخر التقديرات)؛ إذا كان البشر كلهم من آدم عليه السلام فكيف وُجد أبناؤه في القارات الخمس رغم تباعدها؟ هل هاجر آدم إلى أمريكا وولد هناك ثم رجع إلى الهند فولد هناك ثم سافر إلى الجزيرة العربية ثم إلى المغرب ثم إلى أوربا ثم إلى أستراليا...؟! أليس في هذا دليل على حركة الشعوب منذ آلاف السنين؟ فالبحث إذن عن الجذور القديمة جدا لكل شعب ضرب من العبث وهو أقرب إلى الخيال.
نعم نستطيع الكلام عن مرحلة ما تُحسب بعشرات السنوات أو القرون؛ لأنه نستطيع ضبطها، أما عندما نتحدث عن عشرات الآلاف من السنين أو الملايين فإننا نحلم حقا.
والحمد لله تعالى أن جعلنا كلنا من آدم، وآدم من تراب، وأن أفضلنا أتقانا وأكثرنا منفعة للناس وخدمة لهم. قال تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. صدق الله العظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ الهامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
(1) جاء في "شعب الإيمان" للبيهقي وفي "مسند القضاعي" واللفظ للبيهقي: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ يُوصِي رَجُلًا: «يَا فُلَانُ أَقِلَّ مِنَ الدَّيْنِ تَكُنْ حُرًّا، وَأَقِلَّ مِنَ الذُّنُوبِ يَهُنْ عَلَيْكَ الْمَوْتُ، وَانْظُرْ فِي أَيِّ نِصَابٍ تَضَعُ وَلَدَكَ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ».
(2) ، والبربر هو الوصف القديم الذي لن نجد غيره في الكتب القديمة، لذلك هو أصبح علما على سكان هذه الربوع، وقد نسي الناس أصل التسمية، فلا حرج في ذكره، كما نصف قبائل الشمال الأوربي بالبرابرة مع العلم أن الجرمان والفرنسيين جزء منهم، ولا أحد يُنكر هذه التسمية في سياقها التاريخي.
(3) الحديث عن الأمازيغ وتاريخ المغرب عموما لا يمكن استفاء حقه في مثل هذه السطور القليلة، والمشكلة أنه لا يوجد كتاب أخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات والاختلافات والروايات ووازنها بمنطق رصين دون أن يسقط في الاستلاب "الأديولوجي"، حسب علمي. وعموما أظن أن الأستاذ الخبير عبد الله العروي أهم من كتب بنوع من الرصانة في هذا الباب، فيُمكن الرجوع إليه في كتابه الشهير: "مجمل تاريخ المغرب" وهو ترجمة عن كتابه : L'histoire du Maghreb: un essai de synthese