الأجوبة الندية بالرد على من قال هذه هي الصوفية


مقدمة:
بعد أن بدأت بالرد على كتاب "قضايا الصوفية" المنسوب للشيخ السلفي الجليل عبد الرحمن الوكيل رحمه الله تعالى، وجدت كتاباً للكاتب ذاته رحمه الله، عنوانه "هذه هي الصوفية" وجده أثرى مادة وأكثر نقاداً، فوجدت أن من الأجدر الواجب الرد عليه ..
وذلك لأن نقد الشيخ الوكيل رحمه الله تعالى، فيه أقوى وأشد، فآثرت الرد على جملة من نقاط النقد فيه علينا من قبل ناقدنا الكريم رحمه الله تعالى وأدخله فسيح جناته، ولم أطرق إليها من قبل في بحث سابق ..
النقطة الأولى:
قول الناقد الوكيل في [ص: 35]: ( واسمع إليه [يعني: ابن عربي] يحكم على ربه بأنه يجب أن يوصف بما يوصف به الخلق، حتى بما فيهم من نقص وعجز وحمق وجهالة، ويحد بما يحد به كل كائن على حدة: (( فما يحد شيء إلا وهو حد الحق "والحد هو أتم أنواع التعريف، فإذا عرفت الصنم مثلا بحد ما، فهذا التعريف صادق على الرب الصوفي، لأنه هو ذلك الصنم نفسه [جملة مدرجة من الوكيل]" فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له، فهو الإنسان الكبير )) ) ورد في "فصوص الحكم" لابن عربي [ص: 111 ] ..


نقول :كتاب الفصوص كتاب مجمع عليه عند محققي الصوفية الأصوليين، أنه محرف ومدسوس فيه من قبل اليهود تخدم عقيدتهم الفاسدة، ووجه الدس في النص أعلاه في المدرج المضاف: (فهو الإنسان الكبير )؛ والسبب أن متن النص أعلاه يكتمل معناه دون هذا المدرج المدسوس، وقد يكون هذا المدرج أصل محرف فإن كان من أصل المتن فإنه يكون وفق السياق: ( فهو الإله الكبير )؛لأن الإدارة تقتضي التسيير والتصريف والتحكم بالشيء وهي صفة الألوهية، ليس لصفة الأنس فيها علاقة أو ارتباط لا من قريب أو بعيد ..
فلفظ الإنسان فلا يصح أن ينسب للحق تعالى، بأي شكل كان سوء كان مادي أو معنوي، فإن قلنا مقصود الإنسان من يأنس الشيء، فنقول لا يصح لأن الله ليس جاهل بوجود شيء حتى يأنس وجوده ويعلم حيثياته فيتفاعل معه، والله صمد بذاته لا يحتاج إلى الأُنس،فلا يصح لله أن يكون فاعل للأُنس، إنما مُفعل له، بأن يوصف بأنه: المُؤْنِس ..
فإن افترضنا أن هذا اللفظ من مدونات ابن عربي فهو تجسيم ظاهر لا تبرير له حتى لو صدر ممن نسميه الشيخ الأكبر، فالحق يعلو ولا يعلا عليه، إلا أننا نستبعد ذلك بالمقارنة لجملة كبيرة مخالفة لهذا التصور وافقت الحق وخالفت هذا المدلول في مكتوبات الشيخ الأكبر ..
أما موضوع الحد الذي همز إليه الناقد بالصنمية فهو ليس حد تجسيمي تحديدي إنما هو حد خلقي بالحق بالإحاطة علماً وتدبيراً وتقديراً، لقوله تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام : 101]، أي الحد بالإحاطة العلمية، الذي يبينه قوله تعالى: { ِلِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [الطلاق : 12]؛ وقوله عز من قائل: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان : 2]؛ أي حده بالتقدير محكم، ويؤكد ذلك كله قوله تعالى الجامع: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }[آل عمران : 191]، أي أنه خلق كل شيء وحده بالحق دون أدنى باطل، فالصوفية أكثر مدلولات ألفظهم معنوية لا مادية ..


النقطة الثانية:
قول الناقد الوكيل في [ص: 36]: ( واسمع إليه يؤكد لك [أي: ابن عربي] أن ربه هو كل ما ترى من صور العالم: (( هي ظاهر الحق؛ إذ هو الظاهر، وهو باطنها؛ إذ هو الباطن، وهو الأول؛ إذ كان، ولا هي، وهو الآخر؛ إذ كان عينها عند ظهورها ))، ورد في "فصوص الحكم" لابن عربي [ج1/ص 112 ]؛ وتدبر تعريف ابن عربي لربه بقوله: (( هو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره "يعني أنك إذا رأيت إنساناً، أو حجراً، فقد رأيت الرب الصوفي، بل الرائي والمرئي هما عين ذلك الرب" ))، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه، باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز "هو أحمد بن عيسى ممن تكلم في الفناء الصوفي نوفي سنة 279"، وغير ذلك من أسماء المرئيات ؛ وفق ما ورد في "فصوص الحكم" لابن عربي [ج1/ص 77 ]؛ والعارف الحق بالله عند ابن عربي هو من يرى "سريان الحق (الله) في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق فيها، وفق ما ورد في "فصوص الحكم" لابن عربي [ج1/ص 181 ] ..


نقول عين الشيء عند الصوفية أي أصل ومصدر وجوده التكويني والخلقي، وليس بمعنى نفسه أو ذاته، فعين الماء أي مصدر ومنبع الماء وأصل وجوده، والعالم المحدث المخلوق منعكس وجود الله ومدلول وجوده، لا أصل وجوده وكنهه، لأن العالم خلق محدث فاني، والله أصل قديم باقي على الدوام ..
وتأويل حقيقة قول الشيخ الأكبر، ما ورد في صحيح السنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (.... أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ... )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج17/ص: 37/ر:6827]، [إسناده متصل، رجاله ثقات، على شرط مسلم]، ورواه أبو داود في "سننه" [ج2/ص: 732/ر:5051]، بإسناد صحيح، بتحقيق الألباني في "صحيح أبي داود" [ر:5051]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج5/ص: 440/ر:3400]، وقال:[حسن صحيح]، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:3400]، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 366/ر:3873]، بإسناد صحيح، بتحقيق الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:3137]، رواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج3/ص: 355/ر:10541]، [إسناده متصل، رجاله ثقات، رجاله رجال البخاري] وصححه الحاكم في "المستدرك" [ج1/ص: 730/ر:2002]، على شرط الشيخين؛ وصححه ابن خزيمة في "صحيحة" [ج2/ص: 267/ر:150]، ورواه البخاري في "الأدب المفرد" [ج1/ص: 324/ر:1247]، بإسناد صحيح، بتحقيق الألباني في "صحيح الأدب" [ر:919]، وصححه السيوطي في " الجامع الصغير" [ر:2293]، ووافقه الألباني في "صحيح الجامع" [ر:4424]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..




النقطة الثالثة:
يقول الناقد الوكيل في [ص: 37]: ( ويحكم ابن عربي على ربه، ويصفه بالعجز الذليل، والنقص المشين، والسفه والحماقة، وبأنه مناط مذمة وتحقير مهانة. فيقول: (( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات،وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم؟!ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها "وكلها حق له" كما هي صفات المحدثات حق للحق )) )؛ ورد في "فصوص الحكم" لابن عربي [ج1/ص: 80] ..
لقد خشي ابن عربي أن يتوهم فيه إنسان أنه يطلق صفات الخلق على الله سبحانه إطلاقاً مجازياً، أو يطلق صفات الله على خلقه كذلك. خشي هذا، فمحا توهم المجاز عن الأولى بقوله: "كما هي صفات المحدثات حق للحق" فلا تتوهم مجازاً ما فيما يحكم به ابن عربي على ربه، أو فيما يصفه به من ذم ونقص وعجز. ومحاه عن الأخرى بقوله: (( وكلها "أي صفات الله من ربوبية وإلهية وخالقية ورازقية، وسواها مما هو من صفات الله وحد" حق له ))، أي للمخلوق، فالخلق يوصف بصفات الله على الحقيقة لا على المجاز!! ذاك دين ابن عربي.


نقول:
حول القول: "وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم؟!" ، هذا مدرج يهودي مدسوس، لأنه موافق لعقيدة اليهود الذين نسبوا الذم والنقص لله تعالى؛ كما في قوله تعالى: { َقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم ... } [المائدة : 64] ..
ومن ناحية أخرى نقول متسائلين إن صح هذا الخبر، فأين أخبر الله بذلك؟!؛ أي في أي نص قرآني منسوب له أو سني مرفوع عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أو حتى موقوف على صحابي أو مقطوع على تابعي أو تابع التابعي ..
فالمدرج المضاف ظاهر الدس في أصل المتن دون أدنى شك ..
أما ظهور صفات الحق بالخلق فهو أمر بديهي فالعالم منعكس كمال التكوين والخلق، ومنعكس جمال الربوبية وجلال الألوهية الحقه، وإلا كيف لنا أن نعرف ونقدر الخالق، لولا هذا المنعكس الدلالي المتجلي في المخلوق ..




النقطة الرابعة:
يقول الناقد الوكيل في [ص: 37 – 38]: ورب الصوفية في دين ابن عربي يستغرق كل نسبة عدمية، أو وجودية: (( فالعي لنفسه، هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها وسواء كانت محمودة عرفاً وعقلاً وشرعاً، أو مذمومة عرفاً وعقلاً وشرعاً، وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة ))؛ ورد في "فصوص الحكم" لابن عربي [ص: 79] ..
يكون مناط الذم من الشرع والعقل والعرف؟ لقد نعت ابن عربي ربه بكل مذمة، فلماذا لا يذمه الشرع والعقل والعرف؟! ..


نقول:
هذا الكلام لا ذم مطلقاً فيه، فهو وصف للإحاطة المطلقة لله بكل شيء أياً كانت جزئيته أو صفته، لقوله تعالى: { وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } [النساء : 126] ..
وقوله: (( وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة ))؛ نقول هذا صحيح، فمعنى لفظ الجلالة الله: هو الذي آله له كل شيء أو كل مآل، فكل شيء مرجعة للحق سبحانه، لقوله تعالى: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [البقرة : 156]، فكل شيء أياً كان مرجعة وملكيته إلى الله .
النقطة الخامسة:
يقول الناقد الوكيل في [ص: 43]: ( الله سبحانه يقول: (35:15 يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد ) غير أن الصوفية تؤمن بإله هو الفقير إلى الخلق. فقير إليهم في وجوده فقير إليهم في علمه، فقير غليهم في بقائه، فقير إليهم في طعامه وشرابه، فقير إليهم في كل شئ يهب له الظهور بعد الخلفاء، والوجود بعد العدم، ويحول بينه، وبين الفناء.
يقول ابن عربي: (( فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه ))، ويقول: (( فأنت غذاؤه بالأحكام "أي: أسماؤك أسماؤه، وصفاتك صفاته، وأفعالك أفعاله، فلولاك ما سمى ولا وصف، ولا حكم عليه بحكم لأنك عينه وذاته" وهو غذاؤك بالوجود، فتعين عليه ما تعين عليك، والأمر منه إليك، ومنك إليه، غير أنك تسمي: مكلفاً، وما كلفك إلا بما قلت له: كلفني بحالك، وبما أنت عليه "ولا يسمي مكلفاً"، فيحمدني، وأحمده ويعبدني وأعبده ))؛ ورد في "فصوص الحكم" لابن عربي [ج1/ص: 83] ..
ذلك هو رب الصوفية الذي افتراه لها ابن عربي، وبه يدين أقطابها، وله يسجدون!! )
نقول:
الأحكام ليس ما تصوره ناقدنا الوكيل بقوله: "أي: أسماؤك أسماؤه، وصفاتك صفاته، وأفعالك أفعاله، فلولاك ما سمى ولا وصف، ولا حكم عليه بحكم لأنك عينه وذاته"
إنما الأحكام وفق العرف العام والاصطلاح الديني هي أحكام الشريعة، ومقصود الشيخ الأكبر هنا أن ما يبتغيه الله تعالى ويرضيه ولنقل مجازاً يفتقره من العبد، هو الاستقامة على أحكام الشرع وحدوده، فالوقوف على حدود الله واجتناب نواهيه غذاء لرضا الله عنك ..
أما قول ابن عربي: (( فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه )) ..
أي مفتقر لإظهار ذاته وتمام جلاله وجماله، ذلك ووفق ما ورد بالصحيح المرفوع، أنه لو كشف سبحات نور جلال وجهة لاحترق كل شيء أي فني فناء تام وهلك وباقي وجه جلاله: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص : 88]؛ وقول عز من قائل: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [26] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن : 27] ..
أما شعره: فيحمدني وأحمده... ويعبدني وأعبده ..
نقول الحمد ثناء في القلب يعبر عنه باللسان ..
فالله يحمد عبده بالثناء عليه، كما أثنا على المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة في كتابه الكريم، ويقاس ذلك كل من اقتضى به صلى الله عليه وآله سلم وتأسى به وانتهج نهجه الكريم، لقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب : 21] ..
وأما العبادة هنا فهي على وجهين الأول: المعرفة حيث فسر حبر الأمة وتابعة مجاهد العبادة بالمعرفة: أي: يعرفني وأعرفه
والوجه الثاني: العبودية وهي أعلا درجات المحبة: { يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة : 54]
النقطة السادسة:
يقول الناقد الوكيل في [ص: 47 – 50] ناقداً لحجة الإسلام الإمام الأصولي الفقيه أبو حامد الغزالي النقشبندي رحمه الله تعالى: ( ولعل ما يقلق دهشتك، ويثير ثائرتك أن يقرن بأولئك هذا الذي افترى له الصوفية أضخم لقب في التاريخ، وهو "حجة الإسلام" ليفتكوا بهذا اللقب الخادع بما بقي من ومضات النور الشاحبة في قلوب المسلمين. فاسمع إلى كاهن الصوفية "لا حجة الإسلام" يتحدث عن التوحيد ومراتبه: (( للتوحيد أربع مراتب ... والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام!! "تدبر وصفه لعموم المسلمين بأنهم عوام في الاعتقاد!!". والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار "في هذه المرتبة يقرر وحدة الفاعل، بدليل ما سيقرره بعد، وهو أنه لا يشاهد إلا فاعلاً واحداً، فيلزمه نسبة فعل المجرم إلى ذلك الفاعل الواحد". والرابعة: ألا يرى في الوجود إلا واحداً "قرر فيما سبق وحدة الفاعل ولكنه لم ينف وجود غيره، أما في هذه، فيقرر وحدة الموجود أي وحدة الوجود، يقرر أن الذوات على كثرتها هي في الحقيقة ذات واحدة" وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية: الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً، فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه؛ لكونه مستغرقاً بالتوحيد، كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والخلق ))
ثم يحدثنا الغزالي عن مقامات الموحدين في كل مرتبة، فيصف صاحب المرتبة الرابعة من التوحيد بقوله: (( والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد )). فإن قلت. كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحداً، يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات (يكل المعرفة بأسمى مراتب التوحيد إلى علوم المكاشفات، فما تلك العلوم؟ إنها قطعاً شيء آخر غي الكتاب والسنة، إنها أساطير الصوفية التي استمدوها من "أذواقهم ومواجيدهم" ثم سجلوها في كتبهم، فكأن القرآن وسنة الرسول ليس فيهما ما يصل بالقلب إلى قدس الحق من التوحيد الخالص، فتدبر تجد الغزالي يهدف إلى صرف المسلمين عن هدي ربهم إلى خرافات الصوفية وضلالاتهم)، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب (اقرأ بعد هذا قول الله تعالى "ما فرطنا في الكتب من شئ" وأهم شئ هو توحيد الله في ربوبيته وإلهيته، ولكن الغزالي يزعم أن حقيقة التوحيد الحق لا يجوز أن تسطر في كتاب، وهذا معناه أنها ليست في كتاب الله، وأنه لا يعرفها أحد إلا الصوفية أرباب الكشف!!) فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبية كفر (هذا معناه أنه هو وأمثاله من الصوفية يعرفون أسرار الربوبية، غير أنهم يضنون بها على الكتب، وأن المسلمين جميعاً لا يعرفون حقيقة التوحيد!! ومعناه مرة أخرى: أن كتاب الله ليس فيه الحق من التوحيد) ثم يضرب لنا مثلاً عن شهوة الوحدة في الكثرة بقوله: "كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد .. فكذلك كل مافي الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة فهو باعتبار من الاعتبارات واحد، وباعتبار أخر سواه كثير ومثاله الإنسان، وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً، ويستبين بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه، وتؤمن إيمان تصديق (بهذا الهراء يستدل الغزالي على الوحدة بين الخلق والخالق، ويحتم علينا الإيمان به!! كنا نحب أن يأتينا بآية من كتاب الله، أو أثارة من فكر صحيح وبرهان عقلي. بيد أنه لجأ إلى الخيال السقيم يشبه الوحدة بين الله وعباده بالوحدة بين الإنسان وأعضائه!!)، وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج (صلب سنة 309هـ لثبوت زندقته) حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: في ماذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفار؛ لأصحح حالتي في التوكل، فقال الحسين: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟! فكأن الخواص (هو إبراهيم بن إسماعيل أبو اسحق الخواص مات 291هـ) كان في تصحيح المقام الثالث، فطالبه بالمقام الرابع (كل النصوص التي ذكرتها من كتاب الإحياء للغزالي جـ4 من ص 212 وما بعدها ط دار الكتب العربية.


نقول:
بالرد عن الفقرة الأولى من النقطة السادسة:
نص القول للإمام الحجة الغزالي رحمه الله في كتابه "إحياء علوم الدين" متكلماً عن مراتب التوحيد: ( فالرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين؛ والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام؛ والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار؛ والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه، والخلق فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف والسنان )؛ ورد في "الإحياء" للغزالي [ج4/ص: 245] ..
نعم كلام حجة الإسلام الإمام الغزالي صحيح ..
فقد قرر الله تعالى في كتابه الكريم أن الإيمان على مراتب، وفق قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة : 93] ..
فالإيمان الأول هو الإيمان الظني الذي تفعله استقامة الجوارح وهي التقوى الأولى، والذي يبنى به التوحيد القولي بوحدانية الله بالظن الحسن دون تحقق أو بعض من يقين، وبحسن الظن بالله يكون العمل الصالح الذي يصلح به القلب ويدخل بالإيمان الشهودي حيث يبدأ الإيمان الثاني وهو الإيمان القلبي فيعقل المؤمن مفاعيل التوحيد ومعرفة حقيقته بالشهود العلمي عندما يستقيم قلبه وهي التقوى الثانية، ثم يبدأ الإيمان الثالث، وهو الإيمان الإحساني الذي يبدأ بالقين وهو الإيمان كله، وينتهي بالشهود المطلق أو فناء الشهود أو مقام التفريد بعد تحقيق تقوى الفرقان وهي نور يقذفه الله بالقلب يفرق به بين الحق والباطل، وهذا مقام من وصفهم الله في سورة الواقعة بالسابقون السابقون؛ ووصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصحيح حديثه، بالمفردين ..
ومشكلة الشيخ الوكيل رحمه الله تعالى، أنه لم يتعدى إيمان الظن، ولو تعداه ما جهلة وما عادى وجوده وأجحف في أهله، لأن المرء عدو ما يجهل، ولا يعرف أهل الفضل إلا أهل الفضل، فأهل الدرجات العلى كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صحيح سنته، يراهم من هم أدنى منهم بالفضل كرؤية الكوكب الطالع أو القمر ليلة البدر في كبد السماء، وفي رواية أقل صحة يراهم من فوقهم بالفضل أيضاً ..