🕌 [ رَمَضان الوَصْل ]
🌙 الليلةُ الرابعة والعشرون ..
تَصْطَفُّ الحَقائق ؛ مِثل عُصور زاهِية .. تُعلِّمنا في ليلة القدر ؛ أنّ الله أراد لك قَدْراً إذ مَنحك ليلة القدر !
أراد لك مُدن الأفراح في الدّنيا وفي الآخرة .. لذا وهَبك ليلة القدر ؛ حتّى لا تظَلّ على الهامِش !
ليلة القدر .. هي قَفزة الرّوح .. إذْ ما ظنّك بعمر صارَ بعد ليلة القَدر أعماراً !
ليلة .. جاءَت توقِف انهيارك الدَّاخليّ .. وتَحمل لك أعباءَ الطّريق .. تحمِل لك أُمنياتك !
ليلةُ القدر .. هي ليلة السَّفر السّماويّ ؛ الى مقاعِد الأحرار مِن سجنِ الصّلصال الطِّينيِّ !
تنبه .. أنّك كنتَ في ضمير الغيب حيناً { مِن الدَّهر } .. وكنتَ في غبارِ الكون ؛ سَديماً مَجهولاً !
فلماذا اختار ربّك تُرابك أنت تَحديداً ؟!
لماذا أخرَجك مِن حَيِّز الصّمت ؛ إلى { فَجعلناهُ سَميعاً بَصيراً } !
هل تَدري ..
أنّ كلّ شِبرٍ في السّماوات يَئِطُّ من ازدحامِ المَلائكة بالتّسبيح ..
فهل أرادك نغَمة إضافيّة في لحنِ التّرتيل الهادِر !
دعني أسألك مامعنى { نَبتَليه } .. { لِيبلُوكم } .. { ونَبلو أخبارَكم } .. وكلّ اشتقاقاتِها التي تَوالت 33 مرّة في القُرآن ؟!
فماهُو ابتلاؤُك أنت تحديدا ً؟
لماذا لمْ يبقيكَ ذرة تائِهة في غُبار الكَون ؟ّ!
ما المَغزى مِن وجودك ؟!
مِن نَفخة الرّوح في روحِك ؟!
ومما وهبَك في خريطتك الوِراثية ؟!
هل قَبضت بين يَديك على رسالة الله فيك ؟
على حِكمته العليا من خلقك أنت ؟ على سَببِ قُدومك للحياة ؟
وهلْ ستَنهي مَهمّتك ؛ لتَسمع الصّوت الجَليل يقول لك { وكانَ سَعيكُم مَشكوراً } !
يا لضّيعتنا .. إن كانَ الله يعلم أنّ بِيدنا مِفتاحاً للخروج من المَتاهة .. وبِعجزِنا وغَفلتنا عن سرِّ خلقنا ؛ لمْ ننتبّه لِما وُضع فينا !
يا ولدي ..
كُـلُّ معرفة بلا عِرفان ؛ لا يُعوَّل عليها ..
ينكشِف لك غِطاء الليلة ؛ إن توغّلت في المَعنى !
فهل تراك انتبَهت .. لماذا سُمّيت ليلة القدر بمعنى القدر ؟!
ليلة القدر .. هي بَوح السّماء لك .. أن انطَلِق مِن خارج حُدودك ؛ كيْ تبلغ أحلامِك !
فإنّ الله قد رزقك يداً تتّسع .. ليختَبىء فيها قدر جَليل ؛ لو أردت !
خَلقك بطموحٍ ليس له سَاحل ؛ لو سَعَيْت !
يا ولدي ..
كمْ من مَلَك في السّماوات لمْ تغمضْ له عيناً ؛ لم ينَل مرتبة { تَتجافى جُنوبهم عن المَضاجِع } !
كمْ مَلَك مِن حمَلة العَرش يستغفِرون لك .. { الذينَ يَحمِلون العرشَ ومَن حولَه يُسبّحون بحمد ربّهم ويُؤمنون به ويَستغفرون للُّذين آمَنوا } !
فيا لعقلِك لو أدركَ أعدادهم ؛ لطارَ الُّلبّ منك !
فاعرِف قدرك عند ربّك .. ولا تُهِن نفسك بإهدار مَقامها !
اسمَع لحكمةِ السّلف إذ يحدِّثونك عن مراد الله فيك :
أيها العَبد .. ألقِ سَمعك وأنت شَهيد ؛ يأتيك منّي المَزيد !
وأصغِ بِسَمعك ؛ فأَنا لستُ عنكَ ببعيد !
يا لله .. يتودد لك كي يرفعك !
يا ولدي انظُر إلى السلف كيف صنعوا قَدْرهم عند ربهم !
فهاهو أبو أيوب الأنصاريّ ؛ يغزو في جيش فتحِ القُسطنطينيّة .. فيَمرض .. فتكونُ وصيّته ؛ ( إذا مِتّ فاحمِلوني .. فإذا صافَفتم العدّو فارموني تحتَ أقدامِكم ) .. إذْ كان يَبتغي أن يكون عَتبة الفتحِ حتّى وهوَ ميّت ..
فأيّ هِمّة تلك !
وعبدُ الله بن حرام .. يُكلّمه الله كِفاحاً ؛ أيْ مُواجهة ..
وكان ذلك كَرامة لِشَوق روحٍ ؛ ما تلكَّأَت في السّير لله !
واسمَع عن ابن أبي حاتم الرازيّ .. الذي كان يُقال أنه على رأسه قُلنسوة من السّماء .. إذ كان رجلاً لم ينحَرف عن غايته ثمانون عاما .. يرابط على مكانَتِه ، ولا يُفرّط في الشّمس التي بين يديه !
يموتُ القاضي الطّبري عن مئة عام .. لمْ يتوقف فيها عن تَصنيف العِلم .. إذ ْكان يصنعُ للكون إيقاعاً تُحِبّ السّماء لَحنه !
فتَح موسى بن نُصير بلاد المغرب العربي .. وأسلَم على يديه تسع عشرة ألف .. وأعدّ جيش الأندلس..
وكان في أواخرِ السّبعين من عمره .. وكان يقول :
لو انقادت النّاس لي ؛ لقُدّتهم إلى رُوما !
فقد كان رجلا كان يُبادر السؤال يوم الحَشر بجواب العُمر !
قال التلميذ :
فكيف أعْرِف قدْري عند الله ؟
قال الشّيخ :
إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ ؛ فانْظُرْ في ماذا يُقيمَكَ ..
انظر بماذا أشغَل هِمّتك ..
وبماذا حرّك جوارِحك ..
وبماذا تَهمسُ يَداك !
قال التّلميذ :
وكيفَ أبلُغ قدْراً أشتهيه وأتمنّاه ؟!
قال الشّيخ :
《يا ولدي .. ما تَوَقَّفَ مَطْلَبٌ أنْتَ طالِبُهُ بِرَبِّكَ، وَلا تَيَسَّرَ مَطْلَبٌ أَنْتَ طالِبُهُ بنفسك ..
فإن رأيت عينك تمتدّ فوقَ حافَة الحاضِر ؛ فاجثُو على رُكبَتيك في الِمحراب ..
تَطول قامَتك كثيراً .. وتبلُغ بها ما تشاء 》!
في ليلة القدر .. أشْعِل لهيبَ الدّعاء .. واعكف في خَباء نفسِك .. واسأل الله ؛ أن تَبلغ بكَ ليلة القدر قَدْرَك !
د.كفاح أبو هنود ~
______________
[ رَمَضان الوَصْل ]
🌙 الليلةُ الخامسة والعشرون ..
قرأَ الشّيخُ قوله تعالى { سلامٌ هِي } .. ثمّ قال :
تهتزُّ كُروم الجنّةِ بالدّاليات .. دانيةً عُقودها شوقاً لليلةِ السّلام ..
تتنفّس الليلة في أفئِدتنا التي أصبحَت فارغةً إلا من كَفاف الحُبّ لك يا الله !
فأوقِد زيتَ قلوبنا يا ربّنا .. بأبديةِ الشّوق لك ..
واجعل سِراج عمُرنا ليلة القدر ..
يا ربّ ..
امنَحنا اصطفاءك على رغم سَوءاتنا المَكشوفة ..
وامنَحنا قلوباً لا تتَلعثم إذا همَسَت باسمك في عُمق الدّجى !
يا ربّ ..
يَهُزّني الشّوق للسَّلام .. يَهزّني أسىً وتِحناناً .. يَهُزُّني إذْ المح سلامَ الّليلة فينا ؛ سلاماً عابِراً ومُسافرا !
سلام هُنيهةٍ .. سلاماً لا يُمَسّد جِراحات العام كلّه !
يا ربّ ..
هذه ليلة .. لو انفرَط عِقد النّعيم منها ؛ لكان حبّات قَدْرٍ ورديّة مُطرّز عليها { سلام هي حتّى مَطلع الفَجر } !
أرى سلامُها يا رب يَرعى في قَلبي .. يلْتَهم مَعاركي ..
وأشتَهي لو يُبتدأ السّلام فيها .. ثُمّ يكتمل لي في جنّة يَقُول خَزنتها ؛ { سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } !
يا ولديدكان أوّل الحكاية صَوت المَلائكة لإبراهيم ؛ { قَالوا سَلاماً قالَ سَلامٌ } ..
فانتَهت الحكاية له بِبشرى الفَرج ، وقول الله له .. رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} !
فيقولُ ابن عبّاس :
( إنّ السّلام انتَهى هنا الى البَركة ) ! .
للهِ دَرّك يا ابنَ عبّاس !
فهذا فقه عالٍ في الإسناد .. إذْ لمَح المَعنى ؛ حيث انتبه أنّ السَّلام بلَغ بأهلِه دَرجة البَركة ..
والبَركة ؛ ثُبوت الخَير ونَمائه .. فإذا حلّ في بيتٍ ؛ صار مَهبط عطاءٍ مُتوال !
كأنّ الآية تقول لك ؛ إنْ ساقَ البرَكة التي تجري بها هي السّلام فلا تَكسِرها !
قال التّلميذ :
كيفَ تُكْسَر ؟!
قال الشّيخ :
إذا ظَهرت الجنايات ؛ ارتفَعت البَركات !
يَغيبُ السّلام يا وَلدي .. مثلَ نارٍ تُطفىء في شِتاء بيت فَقير ؛ إذا جعَلنا وَقودها حطبَ ذُنوبنا !
هل تعلم ..
أنّ الرُّوح تأخُذ شَكلَ الوِعاء الذي فيه ..
فإنْ كانَ سَالِماً مِن السّوء ؛ تنَفّس السّلام فيه ..
أو سَقط مِن شروخ الروح !
{ سلامٌ هِي } ..
فَيا الله .. اجعَلها سلاماً ينصَبّ في بُيوتنا التي طَفَحت بالّلغْو ؛ كأنّه زبَدٌ وهَذيان !
وابتَعدت عن بهاءِ ؛ { إلّا قيلاً سَلاماً سَلاماً } .. حيثُ { لا لَغواً } يقودُ الى التّأثيم !
اجعلها سَلاماً ..
ينْصَبّ بين أزواجِ تَعلو وتَهْبِط بَينهم حَرائِق وحَرائِق !
اجعلها سلاماً ..
ينْصَبّ بين أرحام تَجوس بينَ أعراقِهم نيرانَ ونيران !
اجعلها سلاماً ..
ينْصَبّ في كلماتِنا فَيرفَعنا مِن دَرْك الغَيبة و البُهتان ؛ إلى طيبِ الكَلِم من الّلؤلؤ والمَرجان !
اجعلها سلاماً ..
يَملأُ كَيان العِباد ؛ حتّى يَكسو الأرواح سَكينة الإيمان !
يا ولَدي ..
ليلة القدر تأتِيك بالسّلام حتّى مَطلع الفَجر .. أفلا تَعرِف كيفَ تغْرِف مِنه ؟!
تأتِيك بالسّلام .. فقدّم لها منك بعض القُربان .. وَزحزح نفسك عن نارِ الحُروب اليَومية !
هذه ليلة ..
جاءَت توحّدك مع زمنِ الجنّة .. مع زمنِ { دارِ السّلام } !
يا ولدي ..
نحنُ نتوب في شَفاهنا .. لكنّ صدقني صُدورنا لمْ تتَب فيها الحَرب عن الإشتعال !
أتُراك لو مِتّ .. وجاءك المَلكان .. فإلى أيّ أرض تراك أقرَب ..
دارُ السّلام ؛ أم عالم الحَرب !!
صدّقني ..
أنّ الحَرب في لُجّة القيعانِ مِنّا .. نَحرُسها .. نُوقِدها .. ونَشدّ حَولها السِّياج ..
الحَرب ولدت مِنّا .. وبايَعناها بكلّ كلمةٍ خرجت منا ؛ مِثل حطَبٍ يستَعرُ لها !
بايَعناها بكلّ تَسامح اطفأناهُ .. ونَفثنا التَّتَبع للعَوارات بيَننا دُخاناً ..
فمتَى سَنَصِل مَرتبة ؛ { وإذَا خاطَبهم الجَاهِلون قالوا سَلاماً } !
لَقد بايعَنا الحَرب بكلّ سرٍّ كشَفناه .. فالتَهبَ الجَحيم بَيننا .. وأوَغر الصُّدور صِراعاً !
ولو رَحلنا إلى ؛ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .. لَنَالنا بعضُ أَمْنِها !
يا وَلدي ..
لِتَكُن مَهمّتنا { أفْشوا السّلام بَينكم } .. حتّى نشمّ براعِم الغُفران ، ويَليق بِنَا ؛ { إنّك عفوٌ تُحِبّ العَفوَ فأعفُ عنّا } !
ظامِئةٌ أوطَانِنا يا رب للسّلام ..
ظامِئةٌ ..
مثل خَيل أجهدتها المَعارك ، وغاَصت في الوَحل خطوتها الأخيرة !
ظامِئةٌ مَراكبنا لسلامِ الشطآن .. فقد هدها المَوت في البحار .. فيا قوم أفشوا السّلام .. عسى الله أن يَهدي به { من اتّبع رِضوانَه سُبُل السّلام } !
قال التّلميذ :
فكيفَ أبْلُغها ؟!
قال الشّيخ :
صِناعة السّلام تحتاجُ صبراً !
أنْ تصبِر على استدراجِ السّفح لك .. على شَهوة القاعِ فيكَ للانتقام .. على رايات الشيّطان في صَوتك ؛ إذْ يهزّها لك حتَى تخرج الغُثاء ..
على روحِ قابيلَ فينا .. إذْ حرّكت يدَه نار الغَضب ..
أما سَمِعت قوله ؛ { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } !
تحتاجُ أن تكسِر سِهام الحَرب مِن جُعبتك ..
سِهام الشّيطان فيك ؛ حتّى يُقال لك { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } !
يا وَلدي ..
إنّ قطَرات هابيلَ هي أقصَى ما تطَاولت إليه مُخيّلة المَلائكة ..
واليوم ..
تَغيب كلّ تَوقعات المَلائكة ؛ أمامَ ما تَلتقطه مِن أرواح الأطفالِ على طُرقات الشّام !
يا ولدي ..
يَكفي أوطَاننا هذا الخَريف الطّويل .. يَكفينا اصفرارِ الأُمنيات ..
ولنكن نحنُ ليلة القَدر في أُمّتنا ..
فيارب هبنا سلاماً لأوجاعٍ أنهكَها النّزيف !
ردِّد الّليلة ..
" الّلهُمّ أنتَ السّلام ، ومِنكَ السّلام ، واليك يعودُ السّلام ، فَحيناً يا ربّنا بِتَحية السّلام ، واجَعلنا مِن أهل ِالسّلام " !
د.كفاح أبو هنود ~