شعر وعصر التقنية ــ الجزء الأول/ اجواد دوش
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
الإستاًد جواد دوش
الشعر وعصر التقنية ــ الجزء الأول ــ
by Jawad Doosh on Monday, April 16, 2012 at 1:53am ·
هناك آراء ترى بأن : " الشعر ليس مجرد مرآة للحضارة بل هو مجمَع لها " ، وترفدنا بفهم أعمق عن أهمية ودور الشعر حضارياً ، ومساهمته الفاعلة في التحولات الإنسانية ، أو في عملية التقدم الصناعي والأتمتة وسيطرة الكومبيوتر في عصرنا الجاري هذا . فكما هو معروف وإنطلاقاً من جذور التاريخ القديم إننا إذا ما أردنا معرفة الكثير من التفصيلات عن حضارة الإغريق القديمة فلا بدَّ من الرجوع الى " الألياذة " و " الأوديسا " ل " هومر " اللتي كانتا قد كتبتا شعراً ، وأرَختا للإحداث والوقائع والعادات والثقافة الإغريقية في مرحلة ما قبل التاريخ . كما نرجع بنفس الوقت الى ملحمة " مسخ الكائنات " ل " هسيود " التي تحتوي على تصورات الإغريق للعوالم الحسية وتفسير العديد من الظواهر الطبيعية وعوالم ما وراء الطبيعة مما يصطلح عليه ب " المتافيزيكيا " . ورغم أن الشعر اليوناني إرتبط بالمنطق والفلسفة وصراع الآلهة ، إلاَ أنه لم يكن تابعاً بل رافداً إضافياً بجانب الفلسفة لإستقصاء تلك المفاهيم وتعليل عدد غير قليل من حقولها .ويسري الأمر أيضاً على الشعر العربي بصفته العمود الفقري للثقافة العربية لحقب تاريخية طويلة . إذ أننا لو ألقينا نظرة على الشعر القديم بما فيه " المعلقات " لوجدنا تدويناً تاريخياً لأيام العرب وحروبهم وأنسابهم ورصدهم للنجوم وأوصاف الحيوان بربط الشعر بالبيئة ، ووصف الظواهر الطبيعية من السيل الى البرق والمطر والمناخ وغيرها .. فمثلاً : إن معرفة العرب من خلال من خلال تدوين التاريخ في القرن الثامن لحربي " البسوس " وداعس والغبراء " ووقائع ثورة العبيد وإستبسال بطل " عبس " عنترة بن شداد تطلب الرجوع الى بطون المعلقات ، كذلك الأمر بالنسبة لبعض الأحداث الإسلامية ومواقف الدفاع عن الدين الجديد ضد خصومه .. : كما أن " نقائض " جرير والفرزدق والأخطل كانت مرجعاً إضافياً لفهم طبيعة وحالة العصر الأموي وما فيه من صراع بين الأحزاب والطوائف المذهبية . وتنسحب تلك الظاهرة ولو بحدود متفاوتة نسبياً على عصور الدولة العباسية .إنطلاقاً مما مرَّ وبما أن الشعر هو " وعاء للمعرفة الإنسانية " وتدوين لها فإن تأثيره وأثره يكون قد إمتد لعصور زمنية طويلة آخذاً سلطة السيادة والريادة على الفنون الأخرى ، حتى حدا ذلك ببعض نقاد العصر الفكتوري أن إتجهوا للتسليم بمستقبله الى جانب الفلسفة في التطور الحضاري ... إلا أنه يبدو أن سلطة الشعر التي توارثتها أجيال تاريخية مختلفة شرعت تفقد قاعدتها ومكانتها تدريجياً أمام ولادة ظواهر أخرى جديدة زاملتها ، وبخاصة التقدم السريع للصناعة والتكنلوجيا والتكنيك الذي رافق الثورة الصناعية ، الأمر الذي أثَّر وبشكل عميق على موقع الشعر ، بحيث أن دولته التي سبق وأن كانت وطيدة الأركان بدأت تضعف ، بحيث سلم البعض مبالغاً بأن الشعر فقد دولته تماماً !!ومن جانب آخر فقد حدثت مواجهات ومعارك عديدة في هذا الإطار بين الأدباء والشعراء من جهة ، ومنظري العلم والعلماء من جهة أخرى ، بلغت الذروة في أوائل القرن التاسع عشر بعد التطور الحثيث للعلوم الذي إكتسح الساحة على حساب الشعر . ولكن هذا لايعني أن الشعراء قد سلموا كامل إسلحتهم للعلم ، وفقدوا القدرة على إبراز وتأكيد الدور الحضاري للشعر في عصر العلوم . ولعل نهوض الشعراء الرومانتيكيين للدفاع عنه ، وإستعادة هيبته من خلال تجديد وإثراء المضامين والأفكار التي جاء بها العصر وفجرتها الثورة الرومانتيكية ، كان قد أعاد الإعتبار له بجانب المعارف الإنسانية الأخرى ــ وكما يقول الرومانتيكي المعروف " وردزورث " فإن الشعر لم يكن ولا يكون مجرد وجدان وخواطر بل هو " روح المعرفة " أو هو " مركز المعرفة ومحيطها " كما يؤكد الشاعر " شللي " .. لقد اخذت هذه المواجهة بين الشعر والعلم طابعاً أكثر عنفاً في م نتصف القرن التاسع عشر بين الفلاسفة والعلماء والنقاد والشعراء على السواء . كتلك المعارك بين العالم " توماس هكسلي " والشاعر المفكر " ماثيو آرنولد " وبتطور العصر في القرن العشرين وعصرنا هذا ووصول التكنيك ذروته بالأتمتة وطغيان الآلة والكومبيوتر ، تكون تلك المواجهات قد بلغت منعطفاً جذرياً بي العلوم القائمة على المعارف اليقينية وتهويمات وأخيلة الشعراء .. ثم دفاع الكثير من منظري الأدب عن مكانة الشعر ، كدفاع الناقد الأدبي الإنكليزي " ف . ر . ليفز " في كتابه " لن أضع سيفي " في مواجهة الكومبيوتر ، أو منازلة أفكار وآراء مواطنه العالم " س . ب . سنو " ..
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
الشّعر وعصر التقنية ــ الجزء الثاني ــنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةالإستاًد جواد دوش
by jawad doosh on wednesday, april 18, 2012 at 11:53am ·
صحيح ــ منطقياً ــ أن كثيراً من الفنون الجديدة قد طغت في القرن الماضي على عالم الشعر ، والتي كانت إفرازاً لعصر العلم . هذا العصر الذي هو عصر الإكتشافات والإبداع والقفزات التكنولوجية والفلسفات وسبر أغوار الفضاء وباطن الأرض والمحيطات ، إلا أن هذا لا يعني بإية حال من الأحوال أن الشعر قد أخلى الساحة تماماً للعلوم وأصبح تابعاً ذليلاً أعرج الحركة وواهن النشاط إذ أنه رغم فقدان سلطته التاريخية ــ نسبياً ــ فما يزال فاعلاً ومؤثراً في العملية التاريخية والإجتماعية للتقدم الحالي بعد كفاح مرير للرُواد من شتى المدارس الأدبية والفكرية ، وقدراتهم الهائلة للدفع بهذه الفعالية والحفاظ على ديمومتها وإستمرارها ورفدها بمقومات جديدة ، كما أن للإنفجارات الكبرى في العالم بما فيها الثورات والأحداث والتغيرات العظيمة دوراً كبيراً ضخَّ بروح الشعر وجعله أكثر تجذراً وصلابة بماهية ونوعية وأسسٍ راسخة ، ثم الإرتقاء به للتعبير عن تطلعات الهم الإنساني في الحضارة المعاصرة ..وإذا ما عرفنا أن للعلم والمعرفة حقلهما الخاص ، وللشعر عالمه فسنرى أن مسألة " إنتقاء " دور الشعر في ظل الإبداع المادي الحسي والتقني وما يتصل به من قيم تدخل في الحقل الإفتراضي والنظري تبدو خاوية من التدليل أو فرض " قناعات " ما في هذا الجانب ، إذ أن الوجدان الإنساني يبقى بحاجة قصوى لأفكار وإحساس الشاعر تمثل هذا الوجدان وخلقه أو تفجيره هذا ناهيك عن القيمة غير العادية للشعر بعد ظواهر القلق والعقد والتعقيدات والإضطراب الذي أوجده هذا العصر بتناقضاته وقفزاته الهائلة وجبروت الكومبيوتر . ومن هنا تأتي وظيفة الشاعر للتمثل الأرقى والإستفادة الواعية ــ وتلك مسلّمة ــ من تلك المعارف والأفكار والعلوم الجديدة وتسخيرها في إطار من الحسية والتخيّل والرؤى المعبرة التي تصب في مجرى بناء الإنسان والمستقبل . إن الشعر إذا ما تخلف عن ريادته حضارياً وجماهيريا أمام المعرفة والفنون الأخرى فإنما يأتي لتغيُّب الشاعر العظيم الرائد ، ولكن الدلائل أقوى من الإفتراض لتثبيت الدور الذي لعبه العظام والكلمة الحقيقية الواعية لخوض المعارك المصيرية في حياتنا . إن هؤلاء العظام ــ من الشعراء وكبار الكتاب والنقاد والمفكرين ــ اللذين كانوا وسط هذا التقدم الإنفجاري المتسارع ، والنشطاء اللذين ساهموا في تلك النقلات الإنسانية عززوا بلا شك أو ريبه من قناعات العصر بأهمية الشعر في عملية التطور الجارية ، ولا مكان هنا للإفترض بالتعويض أو المقايضة بل المشاطرة والمشاركة لكل جوانب وأطراف العملية التاريخية والإجتماعية لوضع اللبنات المختلفة على أساس صلدٍ من التبصر والخلق والإبداع والصيرورة المستمرة ..وإذا كان ظهور المباديء الشاملة والتقدم الصناعي الجبّار قد ساعد على إغناء العقل الإنساني والإرتقاء به ، إلا أنه بلا ريب أوجد نوعاً من التحكم والسيطرة للتفكير المادي العلمي على حساب الفكر الغيبي الذي ساد العالم لقرون عديدة ، وعليه لا يبدو غريباً البته أن يعاني الشّعر والأدب عامة من هذا الإضطراب ، وأن يقع الشعراء في حيرة من أمرهم ــ حال كل جديد ــ للتعايش " سلمياً " مع تعقيدات هذه الحضارة . كما أنه ليس ليس من المبالغة أو الغرابة أن يؤدي ذلك الى صعوبة الشعر وتعقيده عند تناول الموضوعات ، و إختلاف المدارس الأدبية والفكرية في الموقف منها ومن طريقة بناء الأشكال الفنية . وكما يرى الشاعر " ت . أس . اليوت " في " أن الشعر في حضارتنا المعاصرة لا بد أن يكون صعباً فهي حضارة معقدة تضم أشتاتاً متناثرة . وعندما يقع هذا التعقيد والتشتت على إحساس الشاعر المرهف لابدّ أن يأتي شعره متراكباً يعبَّر بالكتابة ، حاشداً للمعاني الشاملة في لغة بطبيعتها قاصرة " .
حسين الحمداني