--------------------------------------------------------------------------------
أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ضوء أساليب الكتابة
إذا كانت السيرة الذاتية تنفرد بمرونة سردية نادرة، تتجاوب وتتفاعل بها مع مختلف الأجناس الأدبية، فذلك لأن طبيعة جنسها قابلة لاستيعاب أي أسلوب أدبي، ومن ثم فإن درجة مرونتها البالغة، تسمح للكاتب أن ينحت لتاريخه الخاص جسدا مركبا من السمات المميزة لمجموع أجناس وألوان التعبير الأدبي المتنوعة.
ولا شك أن الأساليب المعتمدة في كتابة السير الذاتية الإسلامية الحديثة، تستجيب بمجموع مكوناتها لعملية التشكيل، التي تقوم على ما يرتضيه المؤلف من تنسيق لمواد سيرته، ثم بنائها على أساس الإحاطة بمسيرة حياته الخاصة، مع اعتبار نموه الداخلي وصراعه النفسي، والاهتمام بالملامح الخارجية وتحولها، علما بأن قيمة أي سيرة ذاتية من الوجهة الفنية تقاس بما فيها من الذاتية، وما تعكسه من قوة في استرجاع مختلف المشاهد، والمواقف، والأحداث ذات التأثير البالغ، و من معالم ولحظات التحول البارزة.
إن ثمة أساليب متنوعة لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، وهي أساليب مشاعة بين جميع كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي، إذ منهم من ينهج في تأليف سيرته أسلوب السرد القصصي، أو أسلوب السرد الروائي، كما أن منهم من يسلك في تأليف تاريخه الشخصي أسلوب السرد المقالي، ومنهم من يمزج بين أسلوبين أو أكثر في الكتابة، على أن مختلف هذه الخيارات الأسلوبية لا تعفي المؤلف من شرط الاستقراء الذاتي، والغوص في أعماق النفس، والقدرة على التعبير و الصدق فيه.
فالأساليب: المقالية، والقصصية، والروائية حاضرة بنسب متفاوتة في نتاج السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي أساليب منتهجة من طرف المؤلفين، كل يأخذ بها حسب قناعته ورؤيته الإبداعية، وهي أساليب تساعد على القيام بنوع من التصنيف، والملاحظ ـ في ظل التمييز بين الأنماط الأسلوبية المعتمدة في كتابة هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث ـ هو إفصاح كل كاتب عن ذات نفسه، وذلك باختيار الأداة الأسلوبية التي اعتاد التعبير بها عن أفكاره، ومشاعره، وانطباعاته، فقد يكون متمرسا في كتابة المقالة، أو ذو حنكة في تأليف الرواية، أو له خبرة في كتابة القصة.
لكن هل لنا أن نقتنع بكون أدب السيرة الذاتية العربية في العصر الحديث غني بالأساليب والأشكال التعبيرية، وأن له بهذه الخاصية وهذا الغنى من القدرة الإبداعية ما يميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى؟ وهل بالفعل له من المرونة ما يمكنه من عدم التقيد بقواعد تجنيسية صارمة، وبالتالي يسمح له بالانفتاح على باقي الأجناس التعبيرية؟
إن الأساليب النثرية التي تطبع نتاج السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يتخللها حينا بعض الاجتهادات الفردية الملحوظة، لكنها في معظم الأحيان تظل محكومة بجملة القواعد المتواضع والمتفق عليها في تحديد ماهية جنس السيرة الذاتية، إلا أن السمة الغالبة في هذا اللون من التعبير الأدبي الإسلامي هي الازدواجية من ناحية والتعددية في الأسلوب من ناحية ثانية.
ومما يستحق الذكر في سياق هذا المحور، هو أن الفائدة الكبيرة التي خلص إليها كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمون في عصرهم الحديث، والثمار التي جنوها نتيجة احتكاكهم بكتاب هذا الفن الأدبي من الأجانب ـ خاصة الغربيين منهم ـ قد تجلت آثارها في الأساليب التي صاغوا بها سيرهم الذاتية، ويكفي أن نستشهد في هذا المقام بما رسمه بعض الكتاب الغربيين من خطة لكتابة السيرة الذاتية، وكان ذلك أثناء دعوتهم محمد عبده إلى تحرير تاريخه الخاص .
أما الأسلوب المقالي، فله مظاهر وتجليات بارزة في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، نذكر منها: التفسير، والتحليل، والإيضاح، بحيث تأتي السيرة الذاتية مكتوبة على شكل مقالة طويلة جد مسهبة، مشتملة على فصول قصيرة، تمت كتابتها في مراحل متباعدة من حيث زمن إنشائها مستقلة، لكنها ذات قاسم مشترك ـ متمثل في شخص المؤلف ـ تبدأ منه وتنتهي إليه.
ثم إن الكاتب باعتماده هذا الأسلوب، يبذل جهدا معينا في البحث عن وسيلة للربط بين فصول سيرته المقالية، معتبرا في هذه العملية مبـدأ التدرج في تسجيل أطوار حياته المتعاقبة، وحريصا في آن واحد على بناء قدر من الوحدة والتماسك بين أجزاء سيرته، حتى لا يستعصي على القارئ المتلقي أمر الجمع بين أجزائها، ومن خلال الأسلوب المقالي، يحاول كاتب السيرة الذاتية تفسير، وتحليل، وإيضاح وقائع حياته الماضية، وذلك باقتفاء أثر تحولاته المتلاحقة، وتسجيل تجاربه الفردية الحاسمة، ثم تمثل ذاته وكشف مجاهلها وما خفي منها، وبالتالي وصف تطور وعيه بالعالم وبذاته.
وأما الأسلوب الروائي، فليس له حضور مكثف في المتن العام للسيرة الذاتية ذات السمة الإسلامية الحديثة، إذ نلاحظ بجلاء أن القلة من الكتاب فقط هي التي استطاعت الارتقاء بكتابة السيرة الذاتية إلى درجة فنية متميزة، وذلك باعتمادها الصياغة الروائية دون غيرها من المقومات، في الوقت الذي انصرف فيه معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إلى التأليف وفق أسلوب المقالة، مع أن هذا الأسلوب كان يشوبه في بعض الأحيان ميل إلى التقرير، وتخالطه الصياغة الإخبارية الجافة.
ولا بأس أن ننبه هنا إلى كون السير الذاتية التقريرية والإخبارية الجافة، التي تفتقد القيمة الأدبية الفنية، والتي قد نعثر على البعض منها، لا تعني في شيء افتقار أصحابها إلى التجارب الفردية؛ بل إنها تدل على ضعف أداة التعبير الأدبي لديهم، وعدم تمكنهم من استيعاب مقومات الصياغة الفنية.
إن الأسلوب الروائي أسلوب تصويري، يتطلب من الكاتب الإفصاح عن جنس ما يكتب، وكل من يتخذ هذا الأسلوب أداة في ما يقصه من سيرته الذاتية، عليه أن لا يذكر إلا الحقيقة، وأن لا ينساق وراء الخيال، وأما المزج بين عدة أنماط أسلوبية في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ، أو الإكتفاء بمزج أسلوبين فقط، فظاهرة ملحوظة، وإن كانت الازدواجية الغالبة في الصياغة، التي تمنح السيرة الذاتية إضافة نوعية، وقيمة أدبية، ودرجة فنية، متمثلة في الجمع بين أسلوب المقالة ـ المرتكز أصلا على التفسير والتحليل ـ وأسلوب الرواية المبني على السرد الروائي، والوصف، والحوار، وقدر من التخييل، الذي يلجأ إليه مؤلف السيرة الذاتية بقصد الوصل بين أجزاء الحقائق التي عرفها و أدركها في مسيرة حياته.
ثم إن هذا الطابع الأسلوبي الذي يجمع بين خصائص المقالة وخصائص الرواية، يمكن الكاتب من القيام بعمليتي: التحليل والتصوير، وذلك بهدف الإحاطة بمختلف التجارب الفردية، والمواقف الشخصية، والحالة الفكرية والنفسية، ويساعده على توظيف أدوات دقيقة لتحقيق تلك الإحاطة الذاتية؛ فالتأمل، والإيجاز، وربط النتائج بالمقدمات، بالإضافة إلى السرد الروائي المتسم بمسحة من التشويق ـ تشد القارئ المتلقي، وتثير فيه حس المشاركة الوجدانية مع صاحب السيرة ـ جميعها أدوات مساعدة.
إن كتاب السيرة الذاتية غالبا ما يتدرجون في سرد تاريخهم الفردي من الماضي إلى الحاضر، باعتبار أن الماضي وعاء لتجاربهم الخاصة المسترجعة في الزمن الحاضر، الذي يشهد إنجازهم الأدبي، لكن هذه الصياغة المنتظرة والمتوقعة ـ دون غيرها ـ من طرف القراء، والتي تطبع عملية السرد في السيرة الذاتية التقليدية عادة، وتحافظ على أفق انتظار القارئ ليست الخيار الوحيد المعتمد في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
إن ثمة خيارات أخرى غير موقوفة على نمط بعينه، أو على توجه، أو تيار خاص في كتابة السيرة الذاتية، وإنما هي فسيفساء من فنون الصياغة، سائدة في العالمين: العربي الإسلامي والغربي، وأكثر تلك الخيارات أو الأوعية السردية وغيرها من الاجتهادات الممكنة في هذا الباب من التعبير الأدبي، تبتعد عن النمط التقليدي في كتابة السيرة الذاتية، وتؤسس آفاق انتظار مغايرة لما اعتاد القارئ، وتوحي في آن واحد بإمكانية إنتاج آفاق جديد.
والملاحظ أن كاتب السيرة الذاتية ـ ذات السمة الإسلامية الحديثة ـ غير مقيد في هذا التأليف بالتدرج التاريخي التقليدي، وفي اختياره للصيغة السردية المناسبة جزء من حريته الإبداعية، التي لا تضعف فضول القارئ، ولا تحد من رغبته في الاستطلاع؛ بل إنها قد تزيد بآثارها ونتائجها من درجة اهتمامه، وتغريه باكتشاف طريقة جديدة في عرض السيرة الذاتية، لم يعتد عليها كثيرا، وربما لم يصادفها قط.
ومن بين الخيارات السردية التي نصادفها في بعض السير الذاتية الإسلامية الحديثة ،تلك الصياغة المبنية على ترتيب لا اعتبار فيه للتسلسل الواقعي في الزمن، الذي ينتظم الأحداث والأطوار الحياتية، وإنما العناية فيه تنفرد بها الأحداث البارزة والدالة، التي يقع عليها اختيار صاحب السيرة، فيخصها دون غيرها بالذكر، أو يمنحها سمة الأولوية في فضاء إنتاجه الأدبي، ولا شك أن هذا الخيار السردي يسوده منطق القيمة الذي يحكم الحدث، مما يكشف بوضوح تام خطة المؤلف، وهو يتدرج في تقديم الأحداث الموصوفة في رأيه بأهمية بالغة وشحنة متميزة.
كذلك من بين الصيغ السردية التي نعثر عليها في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تلك الصيغة التي يبسط الكاتب من خلالها تركيبة معينة أمام القارئ، تتسم بالتلقائية و البساطة في التعبير، وذلك بقصد تحقيق تواصل أفضل، بعيد عن التكلف والتعقيد، وإذا ما نظرنا إلى عناصر: السرد، والوصف، و الحوار في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وجدناها تتمثل في فضاءين اثنين هما: فضاء الذات (الفضاء الداخلي/ الخفي)، وفضاء العالم (الفضاء الخارجي / الجلي)، وهيمنة كل من تلك العناصر الثلاثة تبدو واضحة.
إن مختلف أساليب/ مناهج كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تعكس ذلك الارتباط الوثيق بين السرد والأفعال المنجزة، لأن عملية السرد السير الذاتي بوجه خاص لا تستقيم إلا بتوالي الأفعال المسكونة بحركة معينة، وخطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية في العصر الحديث لا يزيغ عن هذه القاعدة، إذ يتخذ السرد منطلقا وبداية، باعتباره مستهل إبحار الكاتب في تاريخه الفردي.
ثم إن عنصري: الوصف والحوار يتكاملان مع عنصر السرد في تقريب المشاهد، والمواقف، والأحداث، والأماكن المسترجعة والماثلة في حاضر صاحب السيرة الذاتية، وما يضطرب من مشاعر وأحاسيس داخل الذات، وإذا كان التنوع يطبع أساليب ومناهج تأليف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، فإن كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي يوظفون السرد، والوصف، والحوار بوعي ملحوظ وإدراك بالغ، لأنهم يعلمون جيدا أن هذه العناصر الثلاثة هي أدوات مساعدة لهم على نقل سيرتهم الذاتية و صياغتها من جديد صياغة فنية إبداعية، إذ أنها ـ على الإطلاق ـ مكونات خطابية صغرى تقتضيها الكتابة الأدبية، وبتوظيفها يتمكن الكاتب من تحويل سيرته الذاتية من واقع عاشه بالفعل إلى ذاكرة نصية.
ولا شك أن ثلاثية: السرد، والوصف، والحوار، تسهم في تحقيق التوازن الخطابي في أي كتابة أدبية، وحاجة مؤلف السيرة الذاتية إليها تبدو ملحة أكثر من حاجة غيره، لأنه مطالب بإطلاع القارئ على تجاربه وخبراته الذاتية، ومكاشفته بأدق أحاسيسه ومشاعره.
ومن هذا المنطلق الرئيس، رأينا كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة كيف استعانوا بعنصر السرد لتنظيم خط سير الأفعال المنجزة على امتداد الزمان والمكان، وكيف وظفوا عنصر الوصف لتصوير ونقل نشاط ذاتهم الباطنة، ومختلف أنماط الحركة، والمظاهر القائمة والموضوعات الماثلة في العالم الخارجي، ثم رأيناهم كيف استخدموا عنصر الحوار، حتى يبعثوا من جديد محطات ومواقف من ماضيهم، ويجعلوا أجواء خطابهم أكثر حيوية وتشويقا.
وحسب اعتقادنا نرى بأن الوصف في أدب السيرة الذاتية لا ينحصر في توظيفه كأداء تبليغية يعتمدها الكاتب قصد الإفضاء بأخبار معينة إلى القارئ من خلال ما يكتبه من أدب ذاتي؛ بل إن الوصف أداة تتجاوز الوظيفة الإخبارية إلى وظائف أخرى أكثر أهمية، يأتي في مقدمتها رغبة صاحب السيرة الذاتية في إشراك المتلقي، وإطلاعه قدر الإمكان على ما يتفاعل ويضطرب في أعماقه.
ثم لاشك أن الحوار من العناصر المميزة في صياغة أدب السيرة الذاتية، إذ من خلاله تبدو المواقف، والمشاهد، ومختلف التجارب الفردية والجماعية الواقعية نابضة بالحياة، شأنها في ذلك شأن الذات الكاتبة وغيرها من الذوات، وبناء على هذه الضرورة الإبداعية والفنية، بالإمكان أن نلاحظ في غير مشقة تلك المقاطع الحوارية التي تشغل جزءا هاما من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
ويكفي أن نذكر في هذا الباب بعضا ممن خاضوا تجربة السجن والاعتقال، واعتمدوا بشكل جلي عنصر الحوار في خطابهم، وهم أحمد رائف، وزينب الغزالي، وصلاح الوديع، وفاطنة البيه، وهؤلاء وغيرهم نهجوا توظيف الحوار، ليس رغبة فيه؛ بل لأن طبيعة الظرف المكاني (السجن/ المعتقل)، وما يعرفه من أجواء ويجري فيه من أحداث، يفرض ذلك النهج الخطابي في سياقات سردية معينة.
ثم باعتبار أن النسج الحواري يعكس أمام القارئ واقع الاستنطاق والتحقيق مع السجناء، وهذا الضرب من الحوار الإجباري هو السائد في الغالب داخل السجن بين السجين والسجان، دون أن نغفل ذكر تلك المقاطع الحوارية الدائرة بين السجناء خفية، والتي يدفعون بها العزلة والرتابة عن أنفسهم ما وجدوا إلى هذه الغاية سبيلا.
ثم إن الذات المسلمة تقوم بسرد سيرتها استنادا إلى خطة معينة، وتصور و منطق مسبق، فنحن أمام هذا اللون من التعبير الأدبي، نصادف مسافة لغوية لا بد من قطعها للوقوف على تجربة الأنا المحورية بكل أبعادها ؛ هذا فضلا عما للغة داخل خطاب السيرة الذاتية من صوت متميز، تأتى لها اكتسابه على امتداد تاريخ التواصل البشري.
إن من يكتب سيرته الذاتية، ينتقي من اللغة ما ينسجم من جهة مع خطابه، وما يتناسب من جهة ثانية مع سياق الحكي الذاتي، وذلك حرصا منه على تحقيق تواصل أدبي أفضل مع القارئ، بحيث يجعل من حياته الماضية والحاضرة نصا مفتوحا ورسالة يرغب في تبليغها، وأما الذي لا سبيل إلى الاختلاف فيه ـ على ما يبدو ـ هو أن كاتب السيرة الذاتية، عندما يقوم بتأليف قصة حياته، أو جزءا من تاريخه الشخصي، فإنه بالموازاة مع ما يسرده من تجارب ذاتية، ينشئ ويصوغ لأدب السيرة الذاتية جانبا من السيرة الخاصة به، ويقيم معلما من معالمه .
د.أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com