أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
(الجزء الرابع)
وـ السجن و المنفى
لقد استطاعت السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن تكون إنتاجا يجمع من جهة بين الحس الأدبي الإسلامي والفعل التأريخي، وأن تصير ذات وظيفة مزدوجة: جهادية ومعرفية من جهة ثانية، ثم إنها استطاعت أن تفصح في جانب مهم من متنها وخطابها عن إدانتها للممارسات الوحشية والقمعية، التي شهدها العصر الحديث في كثير من السجون والمعتقلات داخل العالم العربي الإسلامي، والتي حولت الإنسان العربي المسلم إلى ذات موشومة بالأسى والحسرة، وذاكرة تنوء بجراح غائرة، وقد تمكن كثيرون ممن تعرضوا لمحنة السجن، والنفي، والاعتقال من التعبير عن التجربة، وتسجيل شهاداتهم نثرا وشعرا.
ثم إننا لن نكون مغالين أو مجانبين لقدر وافر من الصواب إن ألمحنا ونبهنا إلى كون تجربة السجن والاعتقال، تمثل في جزء لا بأس به من حيث الكم والكيف، داخل منظومة أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، تلك الموضوعة المركزية التي تبسط سلطانها السردي على فضاءات وعوالم مكانية وزمانية، وتتخذ لها الشخوص والدلالات قطبا رئيسا؛ إنها التيمة/ الموضوعة التي كانت باعثا لكثير من الكتاب المشارقة والمغاربة على مصارحتنا بجانب متفرد من حياتهم الدامية، وإطلاعنا على تجارب عاشوها قاسية ومأساوية يجهلها أكثر الأحياء في العالم العربي الإسلامي؛ بل إن تجربة السجن والاعتقال كانت باعثا لهم على إشراكنا في بعض ما عانوه من ممارسات هادرة للكرامة، وفي بعض ما خلف جراحا عميقة في أنفسهم.
إننا أمام تجارب دامية، كُتبت ـ على حد تعبير نجيب العوفي ـ بنبض القلب وأشفار العين؛ بل إنها خطت بأنفاس الجسد ودمائه، ونحثت عميقا في الذاكرة قبل أن تصير حروفا على ظاهر الأوراق وباطنها، ولا شك أن ما كان من حظ الصفحات وبطون الكتب ليس سوى ظلال وأصداء بعيدة من عمق التجربة القاسية والمدمرة، ومن المؤكد الواجب أن تتم قراءة هذه التجربة بنبض القلب كذلك.
إن تجربة السجن والاعتقال والنفي تمثل إحدى أهم قضايا الاغتراب، التي ينطوي عليها أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بصفة خاصة، لأنها تحكي جانبا كبيرا من تاريخ معاناة واغتراب الذات العربية المسلمة في العصر الحديث، ابتداء من منتصف الأربعينات من القرن الماضي، ولقد كتب لهذا الأدب (أدب السجون) أن يرى النور بقوة في مصر بصفة خاصة، ابتداء من أوائل السبعينات من هذا القرن، منشورا بين قراء العالم العربي الإسلامي من جهة، وبين قراء العالم الغربي و سائر بلاد العالم من جهة ثانية، إذ أن الكثيرين عبروا عن تجربة السجن، وسجلوا تجاربهم كشهادات وثائقية حية، أو من خلال أعمال روائية، وقد ارتأى كل واحد منهم أن يبسط أمام القراء بعضا من تجربته داخل السجون والمعتقلات، فجاءت كتاباتهم في هذا الباب شاهدا صارخا، وفصولا متكاملة لواحدة من أبشع و أفظع الممارسات القمعية التي ذهب ضحيتها الإنسان العربي المسلم الحديث.
ثم إن أدب السجون من الألوان التعبيرية، التي يتقاسمها النثر والشعر معا، ومداره من الناحية الموضوعية على المحاور التالية:
أولا: تصوير معاناة السجين داخل المعتقل، والمتمثلة في الآلام الحسية الجسدية والمعنوية الروحية الهائلة والمستبدة بشخص السجين نتيجة التعذيب الممارس عليه، بالإضافة إلى تصوير العلاقة القائمة بقوة الإكراه بين المسجون والسجان داخل المعتقل.
ثانيا: وصف نماذج بشرية، وأنماط سلوكية يرصدها السجين طيلة المدة الزمنية التي يقضيها داخل المعتقل.
ثالثا: الربط بين الحياة داخل السجن والأوضاع السياسية السائدة والقائمة، وما تشهده من اختلالات ، ومفاسد، و مظالم.
رابعا: الاستشراف النفسي المستقبلي، بين الأمل المشرق بالحرية الشاملة واليأس المطبق، الذي يسم الكلمات والعـبارات بلون قاتم، ثم النـظر إلى السـجن على أنه ابتلاء، وتجربة لها آثار وأصــداء نفسية وروحـية عمـيقة وبعيدة المدى.
لقد كانت المفاجأة والصدمة قوية و بالغة الأثر في نفوس قراء أدب السجون والمعتقلات في العصر الحديث، وذلك لما اشتمل عليه هذا الأدب من شهادات مؤثرة حول وقائع مأساوية ودامية، فكان بحق وثيقة تاريخية كشفت عن الوجه المرعب لواقع الأمة العربية المسلمة في العصر الحديث، ولم يكن التأريخ لهذه الحقبة الزمنية، من خلال أدب السيرة الذاتية أساسا، إلا مبادرة جاءت من باب الحرص على حفظ كثير من الحقائق التاريخية، التي شهدها التاريخ الحديث للأمة العربية المسلمة، وذلك خشية ضياعها، أو طمسها، أو تحريفها.
وقد عمل عدد من الكتاب على كتابة ونشر كل ما من شأنه أن يساعد على الإحاطة بملابسات تلك الحقبة الزمنية ومجرياتها المأساوية من جهة، بقصد الاستفادة من نتائجها المختلفة والمتعددة، وبهدف استخلاص العبر والدروس منها، وتلبية لنداء الواجب والمسؤولية، الذي يقضي بالتأريخ للدعوة الإسلامية في العصر الحديث، والعمل على استمرارها من جهة ثانية، وإنصافا كذلك للقادم من الأجيال العربية المسلمة، التي لها الحق في معرفة تاريخ آبائها وأجدادها، وماضيها وإرثها الحضاري بوجه عام، و تعد الأعمال الأدبية التي تم نشرها تباعا لهذا الغرض نمطا متميزا من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إذ يستقي خصوصيته من انفراده بسياق تاريخي معين، وبخطاب جماعي موحد، تحكمه لغة واحدة، وعقيدة دينية واحدة، وتتطابق فيه قناعات وانشغالات وتطلعات واحدة.
لا شك أن محنة الذات العربية المسلمة، وهي تخوض مكرهة تجربة السجن والاعتقال، كانت بالفعل عقدة مأساوية، ظل أكثر الناس في العالم العربي الإسلامي الحديث زمنا طويلا لا يعلمون وجودها، ويجهلون أحداثها الكبرى وتفاصيلها الدقيقة، لكن عددا من السجناء العرب المسلمين، الذين عاشوا تلك المأساة الدامية، حاولوا أن يترجموا شكلها ومحتواها من خلال الإدلاء بشهاداتهم، على الرغم من وعيهم وإدراكهم للعناء الذي سيلقونه في استعادة ما تعرضوا له من ألوان التعذيب والهوان، وما عاينوه من مشاهد وحشية، وعلى الرغم مما في سرد معاناتههم داخل السجون من الأذى لنفوسهم المكلومة، ومن الألم الشديد لذواتهم المتأزمة، إذ انهم رأوا التصريح بالشهادة واجبا مفروضا لا يجوز للإنسان المسلم أن يتخلف عنه، وأن من الإثم كثمان الشهادة.
إن في تأريخ الذات المسلمة لنفسها و غيرها ـ من خلال محنة السجن، والاعتقال، والنفي ـ معاناة جديدة لا تقل مأساة ولا تخلو من مشقة، إذ من العسير على السجين أكثر من غيره أن يقرأ ما احتفظت به ذاكرته من وقائع المحنة، ثم لا يجب أن يغيب عن الأذهان كون ما وعته ذاكرة السجين الفردية هو في ذات الوقت اختزال لما اشتملت عليه الذاكرة الجماعية التي يسمها تاريخ المحنة المشترك.
ثم ربما قد تواضع الناس منذ القديم على كون السجن في تاريخ البشرية، هو ذلك المكان المقتطع من العالم الخارجي والمعزول عنه، الذي بحكم انغلاقه وضيقه وعزلته، صارت الحياة بداخله ذات طابع خاص وطقوس غير مألوفة، باعتبار شذوذها وتناقضها مع تلك الحياة القائمة خارج أسواره، لكن الذي يحيا داخل السجن، تتطور نظرته مع مرور الأيام إلى هذا البناء، بقدر ما تتخذ الحياة في العالم الخارجي أبعادا جديدة ؛ فقط السجين وحده الذي يستطيع بين الأحياء أن يدركها حق الإدراك.
إن من الأمكنة ما يتحول لدى الذات المسلمة من عوالم وفضاءات معاكسة إلى مجالات مكانية مساعدة، باعتبار أن هذا الضرب من الأمكنة _ مثل السجن والمنفى _ يتخذ طابعا مزدوجا، يجمع بين بعدين متناقضين، يتجسدان في تقييد الحركة و التنقل الجسدي من جهة، وفي انطلاق الفكر متحررا من القيود المادية من جهة ثانية، وتعد الحرية الفكرية و الروحية ملجأ ذاتيا، يحتمي فيه السجين والمنفي من كثرة الضغوط الخارجية الممارسة عليهما وقساوتها، ومتنفسا طبيعيا لهما، ومصدر قوة يدفعان و يتحملان بها شدة معاناتهما.
ثم إن ما يمكن أن نفضي إليه من طبيعة الحياة الفكرية والروحية، والوجهة التي تأخذها هذه الحياة في إطار تجربة الذات المسلمة داخل السجن، نستطيع أن نستخلصه من نهج الحياة الذي تسلكه نفس الذات، وهي تعاني تجربة النفي، بحكم أن المنفى لا يقل قساوة عن السجن، ولا يختلف عنه كثيرا في التأثير، فكلاهما من طينة واحدة، إذ تعاني فيهما الذات الحصار والتضييق، بقدر ما تلاقي فيهما من الابتلاء والمجاهدة النفسية.
ولا شك أن كلا من السجن والمنفى من أكثر العوالم والفضاءات تجسيدا للمفارقات المبنية على الثنائيات الضدية، مثل ما بين داخل السجن والمنفى وخارجهما، وما بين الانفتاح والانغلاق، وما بين السعة والضيق، وهي ثنائيات جدلية، تتكامل ولا يلغي بعضها بعضا، ومن ثم فإن الإنسان وهو في قلب السجن والمنفى يشكلان ذلك التعارض بين الحيز المكاني المادي المغلق والمعزول والباطن النفسي الرحب.
ثم إن السجن يمثل واقعا خاصا، يجمع بين السجناء بحكم تواجدهم داخله من ناحية، وتتباين معاناتهم فيه باعتبار اختلاف انشغالاتهم ومدى تفاعلهم معها من ناحية ثانية، ومن ثم نخلص إلى أن السجن مكان يندرج ضمن الأماكن الباعثة على الحكي والكتابة، فهو فضـاء يشهد مخـاض وولادة الـتأريخ لتجربة خاصة، ذلك لأن الذات محاصرة فيه، والإنسان لا يستطيع الهـروب منه إلا بالاستغراق في التفكير، أو الاستعانة بالخيال، أو بإيجاد متنفس في أحلام ورؤى المنام.
لكن الكتابة والتأريخ لتجربة ذاتية في مثل هذا الوضع، يظل فعلا متميزا، ونشاطا من طبيعة متفردة، يمارس السجين والمنفي من خلاله حرية الفكر والتعبير، متجاوزا بذلك آثار الاعتقال والنفي وانعكاساتهما النفسية والجسدية، خاصة آثار تلك الأفعال القمعية التي تمارس على السجين المعتقل في مكان يفرض عليه باستمرار ضروبا من الرعب والقلق، ويسيج وجوده المادي كما يحاصر حياته المعنوية.
إن تأريخ الذات المسلمة لمحنتي السجن والنفي، هو رد فعل كبير على إهانة الإنسان المؤمن والعبث بكرامته، ودليل واضح على أن مصير كل محاولة تهدف إلى طمس الحقائق التاريخية واحد هو الفشل، هذا فضلا عن كون التأريخ للذاتين: الفردية والجماعية المسلمة وقراءة ذاكرتيهما هو ترجمة مختزلة لتجارب مأساوية، ظلت لأمد طويل مغيبة ومجهولة لدى عامة الناس.
ثم إن هذا الضرب من الكتابة يفيد الشعور بواجب الإدلاء بالشهادة، والإخبار، والاحتجاج، والدعوة إلى التأمل في طبيعة المواقف، والأحداث، وأسبابها، ونتائجها، وكذا مواجهة النفس وتطهيرها، وأخذ الدروس والعبر من الماضي، خاصة و أن الأيام التي يقضيها المعتقل والمنفي مكرها في السجن والمنفى ليست بالقصيرة وإن كانت معدودة، وكل من الذات السجينة، والذات المنفية تحرصان ـ في قلب الحيز المكاني الضيق والمعزول ـ على استجماع ما تفرق في العالم الخارجي من دقائق الحياة الشخصية، وهو فعل تقاومان به محنة السجن والنفي.
إننا أمام كتابة تعرفنا على أفراد حقيقيين، وتترجم لنا أحداثا وظروفا حقيقية لا نصيب للتأليف الخيالي فيها، فليست الذات وحدها التي تسجل حضورها في المنفى، وإن كانت الطرف المباشر الذي يخوض تجربة النفي، أيضا ليست الذاكرة فقط هي المنفردة بالتواجد فيه، على الرغم من أنها الملكة العقلية المسؤولة على تحنيط التجربة والاحتفاظ بها للذكرى؛ بل إن الكتابة بدورها شاهد على تجربة النفي، وحاضرة بقوة في نفس الحيز المكاني المحدود إلى جانب الذات والذاكرة.
د.أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com