(47)
قد شربت الخمر كرهاً
كان الضابط الإسرائيلي "مردخاي" يأتي إلى غزة، كنت ألتقي معه في محيط المسجد العمري، بعد أن أشتري له عدة زجاجات من الوسكي، كنت اشترى زجاجات الوسكي، وأنا لا أعرف أسماءها، ولا مذاقها، ولا أهميتها، كنت أملأ له سلة، وأقدمها للرجل هدية، وأتسلم منه ما أخرجه من سجن عسقلان، وأسلمه ما نريد أن نوصله إلى سجن عسقلان، وقد تطور الأمر فيما بعد، فصار الضابط يتسلم مني دولارات بلا تهيب أو تردد.
وفي ذات لحظة سياسية، كانت هنالك ضرورة لإيصال أشياء مهمة إلى سجن عسقلان، وكان لا بد من الذهاب مباشرة لمقابلة الضابط في بيته، وكان الوحيد الذي يعرف بيت اليهودي، ويحسن العبرية هو "ن ز"، صاحب مكتبة في غزة، فرتبت معه الأمر، وأخذته بسيارتي إلى مدينة عسقلان، ووصلنا إلى بيت الضابط اليهودي مردخاي، واستقبلنا الرجل بحفاوة وإكرام، وأدخلنا إلى الصالون، حيث كان يشرب الخمر مع مجموعة من اليهود.
ارتعبت في البداية، ورحت أتفقد ما في جيبي من أشياء سرية، وترددت في تقديم هديتي من الوسكي، إلا أن "ن ز"، أخذ السلة، وقدمها لمردخاي أمام أصدقائه من اليهود، وصافحهم، وصافحتهم مثله، فنحن عرب أصدقاء مردخاي.
فتح مردخاي زجاجة وسكي، وراح يصب قليلاً في الكاسات، حتى إذا أنهى الصب، امتدت الأيدي، وتناول كل واحد كأس وسكي، في تلك اللحظة، شعرت بحركة "ن ز" وهو يدفع رجلي من تحت الطاولة، ففهمت معنى الحركة: خذ كأس وسكي أسوة بالجميع، بل همس في أذني: لا يصح أن نحضر معنا بزجاجات وسكي، وندعي أننا لا نشرب.
أخذت الكأس بيدي، ونظرت إليه، فيه كمية وسكي بمقدار فنجان قهوة سادة.
قلت في نفسي: لو كان هذا الكأس سماً لما أثر في جسدي، سأجاري اليهود، وأشرب.

رفع الجميع أيديهم بالكأس عالياً، فرفعت مثلهم، وهم ينظرون إلي.
قال مردخاي: كلمة "حايم" لفظة عبرية معناها في صحتك
رد الجميع: "حايم" وأفرغ كل منهم محتوى كأسه في جوفه، فأفرغت مثلهم.
بعد قليل، صب مردخاي مرة ثانية، وأمتدت الأيدي ترفع كاسات الوسكي إلى أعلي، فرفعت كأسي مثلهم، وحين قالوا "حايم" قلت: "حايم" وأفرغت الكأس في جوفي.
بعد الكأس الثانية بدأت أتشكك بحالتي، فقد خشيت أن يصيبني السكر الذي يتحدثون عنه، وأصير أنطق كلاماً لا أعرف أوله من آخره، لذلك قلت لصديقي "ن ز" هيا نخرج، أخشى أنا أسقط، وصدري يختنق، وأشعر بحرارة في جسدي.
في تلك اللحظة كان مردخاي قد صب الكأس الثالث، ولم أجد بداً من رفع الكأس الثالثة مثلهم، والقول: "حايم" وإفراغة في جوفي.
الان بدأ عرقي يتصبب، وبدأت أشعر أن الأرض تدور، فوقفت بسرعة، ووقف صديقي، رسمت على شفتي ابتسامة، وتماسكت وأنا أصافحهم مودعاً، ونزلت السلالم وأنا أمسك بالحماية خشية السقوط، حتى إذا وصلنا أرض المنزل، ناولت مردخاي ما كان في جيبي من أشياء، وانطلقت بثبات مزيف في اتجاه سيارتي، بعد أن ودعت مردخاي.
قدت السيارة مئة متر، وتوقفت، كي يكمل "ن ز" قيادة السيارة حتى غزة، كان عرقي يتصبب، وكنت في شبه غيبوبة، وبي رغبة شديدة للتقيؤ، نزلت في بيت "ن ز"، وأسقاني القهون، ومكثت حتى المساء، لأبدأ مشوار عودتي بعد المغرب من غزة إلى خان يونس.
كنت في طريق العودة إلى خان يونس أسمع شتائم السائقين، وأقول في نفسي: ما بهم هؤلاء، لماذا يشتمون؟ لماذا هم غاضبون مني؟ ماذا أخطأت؟
ظلت السيارة تسير على هواها من الشجاعية حتى وادي غزة، هنالك تهت، فلم أعد أعرف طريقي إلى خان يونس؛ هل هي من فوق الجسر أم عن يمين جسر وادي غزة؟
أوقفت السيارة جانباً، وضعت رأسي على مقود السيارة، وغرقت في نوم عميق.
صحوت بعد منتصف الليل على صوت باللغة العبرية يقول: "كوم" بمعنى قم.
كانت دورية للجيش الإسرائيلي تقف بجوار سيارتي، وبعد تفتيش دقيق للسيارة، وفحص بطاقة الهوية، قال الجندي: "ساع" فتحركت إلى خان يونس.
يتبع