(41)


أنا ملك الزنازين
مثل شجرة باسقة، سرت في عروقي الحياة في الزنزانة، ولاسيما بعد أن نمت حتى تراخت مفاصلي، وبفعل الحقن العلاجية التي واظب ممرض على تقديمها لي في الزنازين، لقد خفت الآلآم بشكل كبير، فصرت أتعرف على من في الزنازين، وأستجيب لصرخاتهم: بنمسي يا فايز، وصرت أصرخ بملء صوتي، وأجيب: مليون.
بل صرت أنا ملك الزنازين، أنا الذي أوزع الأمسيات على الموقوفين، وأنا الذي أثير الحركة والحياة في الزنازين.
كانت الأيام من 23/6 وحتى 27/6 من أجمل أيامي في الزنازين، وكان مصدر الجمال هو عدم الاعتراف، والاعتقاد بأنني قد نجوت، فحتى تلك اللحظة لا أعتراف عندي على أي سلاح أو أي عمل عسكري، وكل ما عندي هو اعتراف على رسائل لا قيمة لها، وقعت بها عند العملاء في سجن جنين، ما عدا ذلك، فأنا أتباهى بصمودي، وخلاصي، ولاسيما أن المحقق قد أقتنع بأنه أمام رجل عنيد، لا يمكن أن يعترف بشيء إلا إذا توفر الشاهد.
لقد انتبهت في الزنزانة إلى أن الرغيف الذي أتسلمه بعد العصر هو طعامي لمدة أربع وعشرين ساعة، يتوجب على أن أقسمه ثلاثة أثلاث؛ ثلث للعشاء، وثلث للإفطار، وثلث للغذاء، كنت ألتهم ثلث العشاء مجرد تسلمي الرغيف، ولكن الجوع سكن مفاصلي بعد خمسين يوماً من التعذيب والتجويع، فكان جسدي يطلب الطعام، وكان رغيف الخبز أمامي، فكيف لا أقضم لقمة من ثلث الإفطار، وبعد قليل كنت أقضم لقمة من ثلث الغذاء، وهكذا؛ فوقت الزنزانة طويل، ولا شيء يسليني إلا أقضم لقمة من ثلث الإفطار، وبعد نصف ساعة قضم لقمة من ثلث الغذاء، حتى تبقى أقل من الثلث، فنمت، بعد أن نامت الزنازين.
كنت أتمدد على بطانية السجن، وكنت أضع قطعة الخبز الصغيرة بجواري على البطانية القذرة، على أمل أن أصحو في الصباح، وأغمسها على قروان الفول.
لقد صحوت من نومي على حركة في الزنزانة، فتحت عيني، فإذا بقطعة الخبز بين أسنان الجرذ "العرسة"، تجر بها، وهي على وشك تهريبا من تحت باب الزنزانة.
لا أعرف كيف هجمت على قطعة الخبز، وخلصتها من الجرذ "العرسة: التي هربت.
أمسكت بقطعة الخبز، ونمت ثانية، وقطعة الخبز في يدي.
صحوت بعد قليل على العرسة وهي تحاول أخذ قطعة الخبز من يدي.
لا فائدة، لقد قررت ابتلاع ما تبقى من الخبز، والصباح رباح.

(42)
اليوم الأكثر رعباً في حياتي
لقد جاء صباح ذلك اليوم بما لا تشهي سفني، فقد كان صباح يوم الجمعة، تاريخ 28/6، حين فتح السجان الزنزانة مبكراً، وصعد بي السلالم حتى المسلخ، هنالك وضع الكلبشة في يدي، ووضع الكيس في رأسي، ثم أجلسني في مكان قريب من حمامات المسلخ.
توجست الريبة من هذا الاستدعاء الصباحي العاجل، فما الجديد يا ربي، ثقبت الكيس على عادتي، ورحت أبصبص في المسلخ، لماذا تم استدعائي؟.
مر وقت وأنا أرقب المكان، ولاحظت العمال قد أحضروا طعام الإفطار، وهذا يعني أن استدعائي تم قبل موعد الدوام الرسمي، فلماذا هذا الاستدعاء المبكر، هل نام المحققون في المسلخ هذه الليلة؟ ما الذي حصل؟ اللهم اجعله خيراً.
كنت أراقب جيداً حين فتحت غرفة التحقيق، وخرج منها المحقق وهو متأفف، ويمسك موقوفاً من قبة قميصة، ويقول للسجان "أبو جميل" خذه، اطعمه.
دققت النظر، فإذا بقميص الموقوف غارق بالماء، وهذا يعني أنه كان تحت التعذيب، فمن هو هذا المسكين الخارج من الموت إلى طنجرة الطعام.
رفع أبو جميل الكيس عن رأس الرجل، وأجلسه قرب الطنجرة، فكانت المفاجأة المرعبة، التي شاب لها شعر رأسي، لقد جن جنوني، وانتفض قلبي، ورقصت أعصابي مثل سفينة في بحر صاخب، فهذا فلان (ر)، الذي أعرفه، ولي معه نشاط عسكري، يا للهول، يا للمصيبة، ماذا قال هذا الرجل عني؟ بماذا اعترف؟ ولماذا صار استدعائي في هذا الوقت المبكر من الصباح؟
ماذا أفعل؟ كيف أنقذ نفسي؟ من يختطفني من هذا المكان؟ أي أرض تنشق لتبتلعني؟ فجسدي لم يتعافى جيداً من العذاب، ماذا أفعل؟ كيف أتصرف؟
صرخت دون وعي بأعلى صوتي على السجان، يا "أبو جميل" أنا فايز أبو شمالة، أكثر من خمسين يوماً في التحقيق ولم أعترف بشيء. لماذا أتيتم بي هنا من الزنازين؟
كررت النداء بصوت مرتفع، وأنا أتعمد إسماع (ر): يا "أبو جميل" أنا فايز أبو شمالة، أكثر من خمسين يوماً في التحقيق ولم أعترف بشيء، لماذا أتيتم بي من الزنانين؟
فرحت كثيراً حين التفت إلي (ر)، لقد نظر باتجاهي، فكررت النداء، وتأكدت أنه قد فهم مغزي صرخاتي، التي لم تتوقف حتى جاء سجان آخر، وقال: "شكت"، ووجه لي ضربة برأس حذائيه جاءت أسفل عيني اليمني، فراح الدم يتدفق بغزارة.
صرت أصرخ: يا عيني، لقد قلعت عيني، وأنا لم أعترف بشيء، وليس عندي شيء، لماذا أتيتم بي هنا، أنا موجود في الزنازين دون اعتراف.
كان الهدف من صراخي هو تحذير الرجل من المخابرات، فقد خشيت أن يقولوا له لقد اعترف فايز عنك، وقال كل شيء، فيقع، ويعترف عني، لذلك كنت أدافع عن عمري، وقد فرحت حين التفت إلي، فرحت رغم الجرح ورغم الوجع ورغم قلع عيني، كنت فرحاً لأنني أوصلت رسالتي، واجتهدت لانقاذ نفسي، كنت فرحاً لأن (ر) قد انتبه لصرخاتي.

لقد ذكرت الحرف الأول من اسم الشخص، فهو يعرف نفسه، ولما يزل حياً يرزق في غزة، وقد عاتبته فيما بعد، وتفهمت موقفه حين قال: لقد ذبحونني، ومزقوني، وخنقوني، ولم أجد بداً غير الاعتراف عليك.
يتبع








(43)
لقد وقعت الواقعة
وسط صراخي وجنوني في المسلخ، وضع السجان الكيس في رأس السجين (ر)، وقيده، وأدخله إلى غرفة التحقيق، ليخرج قلبي من صدري، فأنا الآن جثة محنطة، تخشبت على باب غرفة التحقيق، أنا الآن غزالة جريحة تتمزق مع لحم وليدها الذي تتخطفه الوحوش، كنت أسمع صرخات (ر) من خلف الباب، وكانت نار تشتعل في أحشائي، وأتمتم بيني وبين نفسي: اصمد يا (ر)، تحمل، انكر التهمة، لا تعترف، لا تفسد تعبي، ولا تنتهك صبري، اصمد يا (ر)، فماذا أقول لهم عن مصدر السلاح؟ أي لحم أطعمهم؟ بماذا أرد على تساؤلاتهم؟ أصمد يا (ر) لا تعترف، ما أروعك وأنت صامد!.
كنت أقول لنفسي: إنه يتعذب لأجلي، إنهم يسألوه عني، وعن علاقتي بما جرى من أحداث؟ هو ينكر معرفتي، إنه رجل والرجال قليل، وكنت أطمئن نفسي، وأقول: لقد استمد قوة من صرخاتي، وأنكر كل ما اعترف فيه من قبل، ما أروعك يا (ر).
بعد أقل من ساعة في ذلك اليوم المشهود، خفت الصراخ، وبح الصوت، وساد صمت رهيب، في تلك اللحظة جاء السجان، وأخذني من المسلخ، وأنزلني إلى الزنازين، لقد أعادني إلى الزنزانة ذاتها، وأغلق دوني الأبواب.
ما أن دخلت الزنزانة، حتى بدأ تفكيري يشتغل، فهنالك احتمالان، فإما أن يكون (ر) قد اعترف علي، وهم يريدون منه استكمال الاعتراف، فأبعدونني عن المكان، حتى يضعوا النقاط على الحروف، وإما أن يكون (ر) قد صمد، واجتاز المرحلة، وتراجع عما اعترف فيه ضدي، لذلك أنزلوني إلى الزنازين حتى إذا ما كسروا شوكته، وأخذوا منه الإعتراف، أرجعوني ثانية إلى المسلخ، وفي يدهم الدليل والشاهد.
وما أطول الوقت على من يتربص فيه الزمن! ما أصعب انتظار نتيجة مصيرية! وما أوحش الزمن المجهول! فهل سأنجح؟ ويصمد (ر) وأخرج منها سالماً؟ وهل سيعترف (ر) ويبدأ العذاب من جديد، وبشكل أكثر وحشية؟
يا للمصييبة لو اعترف عني (ر)، فماذا أقول للمحققين؟
جاء وقت الغذاء، وفتح السجان باب الزنزانة، لأدخل بيد باردة طعام الغذاء، فقد كان طعاماً منزوع الشهية، كان طعاماً حزيناً، نظرت إلي بإزدراء، رغم شوقي إليه، ونظر إلى بإشفاق، وأحس بما أنا فيه من قلق وخوف، لقد نظرت إلى الطعام بحسرة جائع، وأزحت نظري عنه بعفة عاجز، وأنا استرجع حلماً عشته قبل الاعتقال بأيام، لقد حلمت أنني في بحر عالي الأمواج، وأحاول الخروج منه، أحاول أن أسبح، فلا تساعدني يداي، فأقول لنفسي: أنا سباح ماهر، فلماذا لا أحسن فن العوم؟ لقد صحوت من نومي في ذلك اليوم فزعاً، فقد كنت أغرق!.
لقد ارهقني التفكير في الزنزانة، لقد عشت يوماً بألف يوم مما تعدون، وما عدت ملك الزنازين كما حسبت نفسي قبل يوم واحد فقط، فأنا لا أسمع صرخات السجناء، ولم يعد يهمني اسمي الذي يتردد في حناجرهم، فأنا أعيش همي، وأفكر بمصيري، وأحسب لخطواتي القادمة، ولا تفارقني صورة (ر) وهو خارج من غرفة التحقيق مبلل الكتفين، ولا تفارقني صورة (ر) وهو داخل إلى غرفة التحقيق مرتجف الساقين، فصرخاته لما تزل تتردد في تجويف قلبي.
كنت أمشي في الزنزانة ذهاباً وإياباً، كنت أدور فيهما مثل ثور ينتظر السكين، لأبعثر من خلال المشي تلال القلق المتكدس، كنت أنفث حزني بالحركة، وأضرب في بعض الأحيان جدران الزنزانة بقبضة يدي، وأتنهد عميقاً، فمن يقدر في هذا الكون على مساعدتي؟
جاء عصر الجمعة، وبدأ السبت اليهودي، ولكنني لم أطمئن، وجاء المساء، وثارت ثائرة الزنازين بالصراخ والتشجيع، ولكنني أعيش وحيداً مع صمت القبور، ودخل الليل وأنا واجم، وأعيش في نقيضين، أقول لنفسي مرة إن (ر) رجل وسيصمد، وأقول لنفسي مرة إن (ر) إنسان، وله قدرة على التحمل، سينهار ويعترف، وما بين صمود (ر) وانهياره موتي وحياتي.
تعبت في آخر الليل، تعبت، وانهدت قواي، وتفككت مفاصلي، فحدود الفزع مفتوحة على كل احتمال، والترقب شاكوش يدق على الجسد، فيذبل للنعاس، تعبت، وذبلت كغصن مقصوف، فألقيت بجثتي على أرض الزنزانة، وما أن تمددت، حتى نمت أنا والرعب.
في تلك الليلة، ليلة السبت 29/6، حين ينام السجان اليهودي في بيته، ويتوقف العمل احتراماً ليوم السبت، صحوت على صرير باب الزنازنة، وركلات في قدمي، وكلمة عبرية تقول: (كم) قم، انهض، انتبهت على جندي إسرائيلي يقف داخل الزنزانة، ليضع الكلبشة في يدي، والكيس في رأسي، ويأخذني هنالك، إلى المسلخ، وأنا أقول في نفسي: لقد وقعت الواقعة.
يتبع








(44)
كم أشتهيتك يا موت!
ظل الجندي الإسرائيلي ممسكاً بالكيس، ويجرني خلفه حتى أدخلني مباشرة إلى غرفة التحقيق، هنالك حيث كان ينتظرني المحقق "أبو ربيع" قائلاً: لقد انتهى كل شيء يا فايز! لقد اعترفوا عليك، ولم يبق لك مجال للإنكار.
لم تصدمني المفاجأة، فقد كنت متوقعاً ذلك، وقد كنت متهيئاً إلى حد ما، فتماسكت أمام المحقق، ولم أظهر علامات الرعب والاندهاش، حتى وهو يقول واثقاً: لقد اعترفوا عليك!
لقد اتخذت قراري في التو واللحظة، لن أعترف حتى لو اعترف علي (ر)، فوجع التعذيب أرحم ألف مرة من وجع النطق بأسماء أناس يجلسون في بيوتهم هانئين.
تمالكت أعصابي، وقلت بكل ثقة: لا شيء عندي أعترف عليه.
كان الوقت متأخراً، وكان المحقق مرهقاً، ويبدو أنه قد عرف نفسيتي بعد أربع وخمسين يوماً، ينظر كل منا في تكوين الآخر النفسي، ويبدو أنه قد أدرك قراري، فلم يتعب نفسه معي في ليلة السبت 29/6، لقد أشار بيده للسجان، وقال جملة واحدة:
اشبحوه في المواسير
يا ظهري الذي ما عاد يحتمل العذاب، ويا قدماي اللتان ما عادتا تقدران على الوقوف، ويا لهول ما ينتظرني من تمزيق، حين تعود من سبت اليهود طواقم التحقيق.
سأعترف وأرحم جسدي، فلا فائدة من الإنكار، هكذا قلت لنفسي! سأعترف وأتخلص من هذا الموت البطيء، ولكن قبل أن أكمل حديث الإعتراف مع نفسي، قفز إلى خاطري منظر موسى الغول (أبو زياد)، الرجل الذي يمتلك عشرات الدونمات على شاطئ بحر بيت لاهيا، ويسرح بعينه في الأفق، وهواء البحر يناجي سقف عريشته التي تغفو عليها دالية العنب، لقد تعود موسى الغول أن يخرج إلى شاطئ البحر مع الفجر، كان يلقي الشبكة فيخرج له إفطاراً شهياً، كيف أعترف على هذا الرجل الذي أمنني على حياته؟ كيف أنطق باسمه في التحقيق، لتذهب المخابرات الإسرائيلية إلى بتيه فوراً، وتعتقله، وتلقي به هنا على أرض المسلخ؟

تعال يا موت، اقترب مني، فلقاؤك أهون من الاعتراف، تعال يا موت، فأنا أشتهيك، أنا أناديك، تعال، فأنت خلاصي الوحيد من عذاب اليهود.
ذهب موسى الغول في ذلك الوقت إلى بيتي في خان يونس، ودق على باب الدار، فخرجت له زوجتي، يزاحمها على الباب الشك والريبة.
قال لها: هذا مبلغ ألفي دينار أردني، تركها فايز عندي أمانة، خذيها.
خافت زوجتي أن تأخذ المبلغ، وحسبته كميناً من المخابرات الإسرائيلية، ورغم إصرار الرجل على تسليمها المبلغ، إلا انها أصرت ـ ليرحمها الله ـ على عدم أخذ المبلغ.
كان قسم كبير من ذلك المبلغ دين من الناس، فقد كنت من شدة حرصي على الوطن قد استلفت من الأصدقاء والزملاء في العمل، كي أف بالمبلغ المطلوب لشراء سلاح المقاومة، وكان من بين من استلفت منهم فؤاد الفقعاوي، وجبر أبو عكر، ومدير المدرسة التي كنت أعمل فيها مدرساً، الأستاذ خالد حسني الأغا، الذي استلفت منه مبلغ 200 دينار أردني.
جئت إلى بيت الأستاذ خالد حسني الأغا قبل المساء بقليل، لم يسألني الرجل عن حاجتي لمبلغ 200 دينار، ما يعادل شهرين من راتبي في ذلك الوقت، وإنما استدعى ابنه الصغير "حسني" وأجلسه معي في بيته، وخرج.
عاد الأستاذ خالد حسني الأغا بعد وقت قصير، وفي يده 200 دينار،
بعد عدة سنوات، جاءني الأستاذ خالد الأغا إلى سجن عسقلان زائراً، فطلبت منه جواباً على السؤال الذي حيرني سنوات: لماذا خرجت من البيت، بعد أن طلبت منك سلفة مالية؟
قال الرجل: كنت متأكداً أنك تطلب المال لغرض وطني نبيل، ولم يكن في بيتي المبلغ الذي طلبت، لذلك خرجت، واستلفت لك المبلغ، وأنا أعرف أن سداده في حكم المستحيل.
يا الله، هكذا كان الوطن، وهكذا كانت فلسطين، وهكذا كان الانتماء والعطاء قبل أن تصير القضية الفلسطينية رواتب آخر الشهر، ومكاسب من وراء الانتماء التنظيمي، وأهواء ترضي الطامعين، وتغري الباحثين عن بطاقات vip .
يتبع