(39)
نجاح وذاكرة
انتظرت أهلي في صباح 22/7، كنت أتمنى أن أراهم حولي في المستشفى قبل إجراءالعملية، ولكن خاب أملي، فقد جاء الممرضون، وأستبدلوا ملابس السجن بملابس العملية، وأخذوني برفقة الحراس حتى غرفة العمليات.
كنت ارتجف من البرد حين أفقت من غيبوبة البنج، تحسست نفسي، فأنا ما زلت حياً، ولكن قبل أن أعود إلى غيبوبة البنج ثانية سمعت أحدهم يقول لي بالعبرية: "همشبحاه هيجيعا".
لقد وصلت العائلة، ما أروع هذه الجملة! إنها فرصتي الأخيرة لإخراج مخطوط "رياحين بين مفاصل الصخر"، معي من الوقت عدة دقائق، فأين هو أخي عقيل؟ كيف سأراه قبل أن أرجع إلى غرفتي التي يراقبها الحراس؟ يجب أن أصحو من البنج، يجب ألا تغفل عيني لثانية، ولكنني غبت عن الوعي رغم أنفي.
أفقت من غيبوبة البنج والممرضون يسحبون النقالة إلى خارج غرفة العمليات، لتنتظرني المفاجأة السعيدة، إنهم عائلتي، لقد سبقوا الحراس إلي، فاحتضنونني لأول مرة بعد سنوات غياب، وصافحونني يداً بيد، وقبلتني أمي بحنان بعد سنين من الحرمان، ضمتني إلى صدرها تحت سمع وبصر الحراس الذين تفاجئوا من المشهد.
همست في أذن أخي عقيل بسرعة: هل تعرف الغرفة التي سيأخذونني إليها؟
قال نعم، كنت فيها قبل قليل، ونظرت إلى حاجياتك وملابسك وأشياء السجن.
قلت له: اذهب هنالك بسرعة، وخذ من أغراضي مخطوط على هيئة كتاب، مكتوب بخط اليد، خذه بعيداً، قبل أن نصل أنا والحراس إلى الغرفة.
تركنا أخي، وذهب مسرعاً، في الوقت الذي أحاط بي الحراس، ووضعوا الكلبشة بيدي، وربطوها بالنقالة، وراحوا يجرونها إلى غرفتي.
كنت سعيداً حين عاد أخي، وهز برأسه، كل شيء تمام.
ما أسعد تمام هذه! إنها تمام النجاح، ودقة التخطيط، وحسن التدبر في الظروف الصعبة! لقد اطمئن قلبي بعد أن نجح تدبيري، فسألته: وماذا عن العملية الجراحية؟ هل نجحت؟.
قال: تمام، لقد أخربتنا الطبيبة أنها عملت مدة ست ساعات، وقد نجحت.
الحمد لله
حين وصلت الغرفة، تقدمت مني أمي فرحة، وقالت: لقد طبخت لك أرانب وحمام، وأحضرت لك كل أنواع الطعام الذي تحبه، وفتحت الطنجرة، وأضافت: كل يا ولدي.
كم تمنيت أن أذوق طعامها في ذلك اليوم! وكم تمنت هي أن أذوق شيئاً من يدها! ولكنني لم استطع، فقد كنت تحت تأثير البنج، ولم يسمح لها الحراس بترك شيء من الطعام.
أما أنا فقد صرت من أثرياء السجن، لدي عشرات علب السجائر الفاخرة التي أحضرها الأهل، ولدي مشروبات غازية، وبسكوت، وملابس داخلية، وليفة، وصابون، ومعجون أسنان.
بعد ثلاثة أيام في المستشفى الخارجي تقرر عودتي إلى مستشفى سجن الرملة، وكنت أعرف أن إدارة السجن لن تسمح بدخول أي شيء، فكل ما أحضره الأهل يدخل ضمن قائمة الممنوعات، وكان علي أن أفكر في كيفية تهريبها.
كنت عارياً، ومربوطاً بالنقالة حين عدت إلى مستشفى سجن الرملة، ولم يكن يغطيني إلا شرشف أبيض، وهذا الشرشف مكنني من فتح ساقي، لأضع كل الحاجات التي أحضرها الأهل بين ساقي، وأغطي نفسي والحاجات بالشرشف.
لقد نجحت، وأدخلت عشرات علب السجائر والمشروبات والمأكولات إلى غرفتنا في سجن الرملة، غرفتنا نحن العسكريين الفلسطينيين ـ كان عددنا 15 سجيناً مريضاَـ الغرفة التي تتواجد في نفس المكان الذي تتواجد فيه غرف السجناء الجنائيين اليهود، لذلك حين طلبت من السجناء الفلسطينين أن يقوموا بتوزيع هدية على كل سجين بمناسبة عودتي إلى السجن سالماً، قلت لهم: وزعوا على السجناء اليهود الهدية نفسها التي توزعونها على السجناء الفلسطينيين.
في اليوم التالي، جاء أحد السجناء اليهود، ووقف على باب غرفتي في سجن الرملة، هز برأسه، وهنأني بالسلامة، وقدم لي هدية، وقال: اسمي "شفتاي كلمنوفتش"، لقد اندهش الرجل، الذي كان يعمل عميلاً للاتحاد السوفيتي، ولم يصدق أن سجيناً فلسطينياً لديه مشاعر وأحاسيس، ويقدم هدية لسجين يهودي.
في تلك الأيام الصعبة في سجن الرملة، حين كنت لا أقوى على الحركة، جاء إلى سجن الرملة بهدف العلاج الأخ سمير المشهراوي، وقد ساعدني الرجل كثيراً، فقد توكأت عليه حين دخلت للاستحمام أول مرة، ولم أستنجد بغيره ليساعدني في ارتداء ملابسي الداخلية.
سأرجع الآن بالذاكرة إلى غرفة التحقيق، إلى تلك الأيام من شهر يونيه 1985، حين انكسر ظهري، وبت جثة هامدة على أرض المسلخ، لا أحس بالتعذيب، ولا أتوجع للركلات، بعد أن صار الألم الداخلي أقسى ألف مرة من الضربات الخارجية، وهذا ما أعجز المحققون اليهود، الذين استسلموا أمام جسد فقدوا التأثير عليه.
مساء يوم الأحد 23/6 كنت قد تلقيت الحقنة الرابعة لتسكين الآلام، وفي ذلك اليوم أمر المحققون بإنزالي من المسلخ إلى الزنازين.
وما أحن الزنازين على المساجين! ما أرحم الزنازنة حين تكون بلا قلب تملؤه الأحقاد! وما أرق الزنازنة حين تبتسم بحنان بعيداً عن جبروت السجان، فالزنزانة لا ترفع يداً لتعذب، ولا تهوي بسقفٍ لتؤدب، إنها مجرد حجارة حركها إنسان لتقيد حركة إنسان.
يتبع