(33)
حركات صبيانية أثناء التحقيق
صفعاتٌ عنيفةٌ، ضرباتٌ مجنونةٌ، صرخاتٌ عصبيةٌ، ولم أشعر بكل ما سبق، فقد كنت مطمئناً أن ما لدى المحققين ضدي مجرد معلومات، معلومات بلا شاهد أو دليل، لذلك كنت أسمع صوت الركلات في جسدي من تحت الكيس، وأنا مبتسم، وقلبي يرقص فرحاً، لسببين:
السبب الأول: أن المحقق قد أبلغني أن زوجتي قد ولدت، وأنجبت قرداً، وأسمته محمداً.
والسبب الثاني: قناعتي الكاملة أن إحضار زوجتي دليل يأس، فقد سبق وأن أحضروا أبي، في محاولة فاشلة للضغط علي، وطالما أن زوجتي قد خرجت من هذا المكان، فلا قيمة عندي لكلام المحقق، وهو يقول: إنهم قد وضعوها في الزنازين مع العاهرات.
لا أعرف متى أخرجني السجان من غرفة التحقيق، وأقعدني في زاوية المسلخ، ولكنني لاحظت من خلال المراقبة أن مواسير الشبح في الحمام مشغولة، فحمدت الله، ودعوت أن يكثر من أعداد المقاومين لإسرائيل، كي ينشغل المحققون بغيري، وأقعد بهدوء ليوم واحد فقط.
كانت ليلة الاثنين 17/ 6 من أجمل ليالي التعذيب، فقد كنت قاعداً في زاوية المسلخ أرقب كل شيء، وكنت أدق بالشبشب لصديقي أبو شاويش على أرض المسلخ، فيغني جملة واحدة، ويقول بصوته الرجولي الحزين: سهران لوحدي، أناجي طيفك الساري، سابح بوجدي، ودمعي ع الخدود ساري. وكنت أضحك حين يصرخ السجان: شكت.
أعاود الدق لصديقي أبو شاويش، فيعاود الغناء، فنضحك من السجان الذي تعب من كثرة التفتيش عن مصدر الصوت، ومل من الإصغاء والمراقبة ليعرف مصدر الصوت، حتى إذا قعد السجان، وانشغل، أدق لأبي شاويش، فيغني الجملة نفسها، ليقوم السجان غاضباً، ويضرب أحد الموقوفين، ظناً منه أن هذا هو مصدر الصوت، نضحك من تحت الأكياس، فيزداد غضب السجان، وهو يبحث عن مصدر الصوت، وهكذا حتى منتصف الليل.
بعد منتصف الليل أدركت من خلال قعودي في زاوية المسلخ أن باب الحديد الذي أمامي هو باب مطبخ المحققين اليهود، عرفت ذلك من خلال صواني القهوة والشاي التي يخرج فيها العميل من المكان، ليقدمها للمحققين، وكان العميل أحياناً يترك باب المطبخ مفتوحاً، لأنه سيعود إليه بسرعة، وفي حالة ظل الباب مفتوحاً، أكون أنا في حمايته، ولا تراني عين السجان، لقد راقبت المطبخ جيداً أثناء فتحه، فعرفت أن فيه حاجات كثيرة.
في تلك الليلة ترك العميل الباب مفتوحاً، بعد أن حمل صينية الشاي وخرج، لأقوم بحركة خاطفة كالبرق، إذ حولت يداي المقيدتان من الخلف إلى الأمام، ونزعت الكيس عن رأسي، ودخلت مطبخ المحققين، وهجمت على كرتونة السجائر، ووضعت في أبرهول التحقيق عدة علب سجائر، وخرجت مسرعاً، وقعدت في زاويتي.
قمت بالدق على أرض المسلخ، لينتبه إلي صديقي أبو شاويش، كي أمرر له علبة سجائر، حتى إذا أمسك أبو شاويش بعلبة السجائر بدأ في الصراخ: شيروتيم "حمام" يريد حماماً كي يدخن هنالك سيجارة، ويترك سيجارة أخرى في الحمام مشتعلة، لأنزل من بعده إلى الحمامات، وأشعل سيجارة، وأترك باقي السجائر للموقوفين في الزنازين.
أعجبتني لعبة دخول مطبخ المخابرات، فانتظرت حتى موعد السحور، حين خرج العميل لإحضار طعام السحور، وقتها تجرأت، وفتحت باب المطبخ بهدوء، حتى صرت محتمياً خلفه، دخلت مسرعاً ناحية الثلاجة، فتحتها، فإذا أنا في مواجهة كعكة كبيرة، امتدت يدي إليها، والتهمت منها ما أسعفني الوقت، بلعت ما استطعت، قبل أن أقعد ثانية في زاوية المسلخ مقيداً.
يتبع
(34)
اتصال هاتفي في التحقيق
هنالك جديد! وعليك أن تعترف، هكذا فاجأني المحقق صباح الاثنين 17/6، هنالك جديد، وسنجبرك على الاعتراف، هكذا يتحدث معي المحقق بعد اثنين وأربعين يوماً تحت التعذيب.
كان يتحدث معي المحقق، وهو يتفرس في ملامح وجهي، ويحاول معرفة ردة فعلي، وفي الوقت الذي كنت أدعي فيه عدم المبالاة، كانت في داخلي نار تتأجج، وكان في عقلي ألف حساب، وحالة انتظار لمعرفة الجديد الذي يرمز إليه المحقق.
ورغم الجديد، فقد كان التعذيب في ذلك اليوم مألوفاً، لم يكن عنيفاً كما توقعت، كان أقرب إلى عمل وظيفي، وينم على عدم وثوق المحقق لما بين يديه من أدلة، أو ينم على انتظار المحقق لمزيد من المعلومات، وفي الحالتين فأنا حذر.
أخرجني المحققون من غرفة التحقيق وأجلسوني في المسلخ أكثر من مرة، ثم أعادوني ثانية للعذاب، وظل حديث المحققين بصيغة التهديد، هنالك جديد، تنتظرك مفاجأة يا فايز، ولكن فايز قد أغلق منافذ أذنيه، وما عادت تسمع إلا جملة تقول: إياك أن تقع.
في الليل، زادت وتيرة التعذيب، والتقي على صدري مجموعة من اليهود، كل محقق منهم يقوم بدوره، وله عمل فوق جسدي يؤديه، ووفق تخصصه، وجسدي هو الضحية تحت الأيدي المتوحشة، فروحي قد غادرت المكان، ورحلت إلى ذكريات بعيدة.
في تلك الليلة، رن جرس الهاتف، وكانت المفاجأة أن المتصل يريد محادثتي أنا، وهنا سألني أحد المحققين: من تتوقع أن يكون المتصل بك؟
قلت: لا أعرف، وفي داخلي ظنُ بأنه الصليب الأحمر قد اتصل ليسأل عني، أو محامٍ من فلسطيني 48 اجتهد التنظيم الذي عملت معه لتجنيده إلى جانبي، هكذا كنت أحلم أو أتخيل، ولم أكن أدركت الحقيقة؛ بأن التنظيمات الفلسطينية تنظر للإنسان على أنه رقم، عدد رقمي في القوائم التي تتباهى بأنها استشهدت، أو دخلت المعتقل باسمها، أو أصيبت بجراح.
ابتعد عن صدري المحققون، واقترب أحدهم مني، ليضع سماعة الهاتف على أذني، فأسمع صوتاً يسألني عن أحوالي، وماذا يفعل معي هؤلاء المحققون القساة الغلاظ.
لقد عرفت الصوت، إنه صوت المحقق أبو ربيع! إنه يسألني عن صحتي وأحوالي!!
بخير يا "أبو ربيع"، قلت له: أنا الآن ممدد على الأرض، وهم يعتلون فوق صدري، ويقومون بالواجب كما لو كنت بينهم، وأحسن، فلا تقلق، نم في بيتك بهدوء.
ضحك المحققون، واستغربوا من جوابي.
عاود الصوت المتسلل لأذني عبر الهاتف ينصحني بأن أعترف، وأن أرحم نفسي، وأنه هو الآن مع زوجته وأولاده في بيته في مدينة عسقلان، بينما أنا هنا في المسلخ تحت التعذيب، وتعذيب الليلة سيستمر حتى الصباح، فاعترف يا فايز أحسن لك.
طال حديث اليهودي "أبو ربيع" عبر الهاتف، وتمادى في نصحي وإرشادي بالاعتراف، وشعرت بحقارة الأسلوب الذي يتبعه في تخويفي، فقلت له عبر الهاتف بغضب شديد:
"أبو ربيع" أنت فاضٍ، ولا عمل لديك، اقفل الخط، واذهب لزوجتك، فإن وراءنا عمل كثير هذه الليلة، وصرخت في المحققين: هيا، باشروا التعذيب، لقد أعاقت عملكم هذه المكالمة.
استغرب المحققون استعجالي للتعذيب، ضحكوا فيما بينهم، ووضعوا الكيس على رأسي، وطلبوا من السجان أن يلقي بي على أرض المسلخ.
في المسلخ، شعرت بنشوة النصر، وتعمقت لدي الثقة بالنفس، فجلست مستنداً بظهري على الحائط، ومددت أرجلي، ونمت.
قبل طلوع الفجر تقريباً، صحوت على صراخ عنيف، نظرت من ثقب الكيس، فإذا به المحقق "ستيف" يصرخ على الموقوفين، ويطالبهم باليقظة والوقوف، ويوجه لهم الركلات بقدمه.
قلت في نفسي: لن أقف، ولن أطيع، وسأتحدى.
ظل اليهودي "ستيف" يوجه الركلات للموقفين في المسلخ بالتتالي، حتى وصل إلي، فصرخ بأعلى صوته، ورفع الكيس عن رأسي، فلما رآني، وتأكد من شكلي، أعاد الكيس على رأسي، ومر عني دون أن يركلني، ودون أن يطالبني بالوقوف.
ضحكت من تحت الكيس، وأدركت قيمة مواجهتي له قبل أيام.
يتبع