(28)
ما ألذ الخيار والملح في التحقيق!!
أربعة أيام بلياليها أمضيتها مشبوحاً في المواسير، وكنت جائعاً جداً جداً مع تعمد حرماني من الطعام كل تلك الفترة، كان الإرهاق بادٍ على شكلي، وربما هذا ما أوحى للمحققين بنضوج الثمرة، حيث تم فك قيودي، وأخذي إلى غرفة التحقيق صباح يوم الأحد 9/6.
لقد استعد المحققون في هذا اليوم لممارسة مهنتهم، فكانوا يستعدون وكأنهم قد عرفوا جوابي المسبق على سؤال المحقق أبو ربيع، حين قال: "فايز"، متى ستعترف؟ أنت لا تريد أن تعترف بسهولة، قالها، وهو يمسك بالكيس، ليصب فيه محقق آخر الماء، استعداداً للانقضاض على رأسي، وتعذيبي بالغرق.
كان علي أن أحتمل، وأن ألوذ بالصمت، فما زلت حريصاً على عدم الصراخ رغم هول العذاب، ولن أثير حالة من الفزع في نفوس الموقوفين في المسلخ، كنت أحس بالمسئولية حتى وأنا على هذه الحالة، وقد أدركت بعد 33 يوماً من التحقيق المتواصل أن صرخات الواقعين تحت التعذيب كانت تمزق القلب حزناً عليهم، وشفقة من جهة، وخوفاً على أنفسنا مما قد يطالنا من عذاب مشابه لما يقع عليهم، من جهة أخرى.
ساعات طويلة من التعذيب، ساعات تمر بدقائقها الزاحفة، وتباطئ ثوانيها وهي تقبض على الروح، وتضغط على عصب الحياة، وليس لي في مثل هذه الحالة إلا أن أسلم عدوي جسدي، ولسان حالي يقول: خذ هذه الجثة، وافعل فيها ما يشاء، سأغادر هذا المكان، وأطير بعيداً، سأحلق بروحي في سماء خان يونس، وأطوف في شوارعها مرفوع الرأس.
بعد ظهر ذلك اليوم، تعب المحققون، لقد أدوا مهمتهم بإخلاص، فجلس ثلاثتهم خلف الطاولة، وتركوني على أرض الغرفة أمامهم مكشوف الرأس، كي أشاهد ما يجري أمامي، وقد استدعوا أحد العملاء الذي أغلق باب الغرفة بهدوء، وقد أحضر صينية عليها حبات من الطماطم مقطعة شرائح، وعدة خيارات مقطعة أيضاً، وبجوارهما صحن فيه ملح.
خرج العميل بهدوء ومذلة مثلما دخل، وبدأ المحققون في غمس طرف الخيار في الملح، وراحوا يمضغون بشكل يثير الشهية، ويستدعي الرغبة للطعام الذي لم أذقه من عدة أيام.
ما ألذ الخيار والملح! ما أنقى صوت الخرش! هذا هو الخيار الذي كنت أمر عليه ولا أشغل نفسي فيه، ما أجملك يا خيار، وما أعذب مذاقك مع الملح!
إن أول شيء سأفعله بعد خروجي من السجن هو تغميس الخيار بالملح.
حاولت جاهداً ألا أبلع ريقي، حاولت أن أوحي للمحققين أنني غير مكترث، وكنت أعرف أنهم يدرسون ردة فعلي، حاولت ألا ألتفت إليهم، حاولت ألا أراقب حركة أيديهم، وهي تغمس الخيار بالملح، فلم أقدر، حاولت أن لا أبلع ريقي فلم أقدر، ولاسيما حين قدم لي أحدهم شريحة من الخيار المغمس بالملح، وقربها من فمي، وقال: اعترف، وخذ ما شئت من الخيار.
بلعت ريقي، ولذت بالصمت، فقد أدركت أن إثارة الشهية عذاب.
يتبع