(26)
حين كنت ساذجاً
يؤلمني القيد كثيراً، وأنا مشبوح في المواسير، فكل لحظة إغفاء تكون على حساب معصمي الذي يتوجب عليه أن يحمل ثقل جسدي النائم، وكل لحظة يقظة تفرض على رأسي أن يحمل المزيد من الظنون والشك، وما أطول الزمن الذي يمر على أسير مشبوح لايقدر على الوقوف، ولا يقدر على القعود! لقد كنت معلقاً بين الإهمال أو الإنهزام، وعلي أن أظل واقفاً، والعار كل العار أن أنكسر، ولاسيما انني صاحب تجربة تفوق الشهر في التحقيق، ولا مبرر لي لتقديم معلومة مجاناً، علي أن أكون صلداً، وأن لا انتظر شيئاً، حتى أنني لا أنتظر وجبة طعام السجن، فأنا معاقب بالشبح والجوع معاً.
سأواصل التحدي حتى النهاية، سأعض على الوحع، فطالما قد اخترت الهجوم على المحقق "ستيف" طريقاً، فيجب أن أظل قوياً، يجب أن أجسد نموذجاً لقوة الإرادة، يجب أن لا أنكسر حتى ولو صبوا على رأسي العذاب، هذا هو قراري النهائي صباح يوم الجمعة 7/6.
الصمود رغبة مخزنة في عقل الإنسان، والإنهيار قرار مسبق بأن لا حول للمهزوم ولا قوة، وهذا ما أدركه المحققون الذين تعاملوا معي، وهذا ما قاله لي أحدهم: لقد أقفلت دماغك! ولذلك تركني المحققون مشبوحاً بالمواسير طوال يوم الجمعة، ويوم السبت 8/6.
من جهتي فقد بالغت في التحدي وإظهار قوتي طوال يومي الجمعة السبت، حتى في تلك اللحظات التي كان السجان يفك فيها وثاقي، ويأخذني من المسلخ إلى المراحيض، كنت لا أنزل الدرجات الخمس الأخيرة مشياً، وإنما كنت أقفز في الهواء، وأدور دورة كاملة، وأنتصب واقفاً في الممر الضيق الفاصل بين الدرج والزنازين، وأحياناً كنت أتمادى في إظهار قوتي، وأتحدى فأقفز في الهواء عدة مرات في الممر الفاصل بين الزنازين والمراحيض، ومن المؤكد أن عشرات السجناء الذين كانوا موقوفين معي في تلك الفترة قد شاهدوا من خلال فتحات الزنازين تلك الحركات، وربما ظن بعضهم أنني مجنون أو مشبوه.
أزعم أن تلك الحركات الرياضية الخارقة في ذلك الوقت، وما تلاها من مواجهات كانت السبب الذي جعل رجال المخابرات يضربون بحالتي المثل حتى سنة 1990، بعد خمس سنوات من ابتعادي عنهم، فقد ظل المحققون يرددون اسمي على مسامع الموقوفين في المسلخ، ومن ضمنهم الأسير المحرر عزام مغاري، الذي يسكن اليوم على مدخل مخيم البريج.
لقد جاء عزام مغاري إلى سجن نفحة سنة 1990، ومجرد أن وصل إلى سجن نفحة، سأل عن السجين فايز أبو شمالة، فقال له السجناء: إنه ذلك الرجل القاعد في باحة السجن.
لقد جاءني عزام مغاري، وهو شاب قوي البنية، وسألني: هل أنت فايز أبو شمالة؟
قلت: نعم، أنا هو، تفضل اجلس بجواري على بطانية السجن.
قال عزام مغاري باستغراب: أيعقل؟ هل أنت حقاً فايز أبو شمالة، أم أن هنالك شخص آخر له نفس الأسم؟.
قلت: أنا هو، ولا غيري في السجون يحمل هذا الاسم، فما الغريب في الأمر؟.
قال: ظل رجال المخابرات يضربون لي المثل بشخص اسمه فايز أبو شمالة طوال فترة التحقيق معي، كانوا يقولون لي: لن تكون أقوى من فايز أبو شمالة، ولن تكون أصلب منه! فهل أنت المقصود؟ أنا لا أرى بطلاً كما تخيلت، أنا أرى أمامي رجلاً مقعداً؟
كنت مقعداً في تلك الفترة حقاً، فمنذ خروجي من غرف التحقيق في شهر أغسطس 1985، وحتى سنة 1992 كنت في بلاء عظيم، وكنت لا أنقل خطوتي إلا بمساعدة، وكان السجناء في سجن نفحة الصحراوي يفرشون لي في باحة السجن بطانية، قد حاكها لي بشكل خاص الأسير المحرر ابن القدس رياض الملاعبي، وكنت أتحامل على نفسي، وأزحف عدة أمتار من باب غرفة رقم 2 في قسم دال حتى باحة السجن، وأجلس على البطانية دون حراك لعدة ساعات، وكان يتحلق من حولي السجناء في مجلس أدب وحوار سياسي.
تعرفت على المناضل عزام مغاري في سجن نفحة، وكان قوياً حقاً، وقد كلفته اللجنة الوطنية في سجن نفحة بالإشراف على مطبخ السجن، وإعداد وجبات الطعام للسجناء وفق المخصصات، وظل عزام مغاري يشرف على طعام السجناء حتى حين التقينا سنة 1993 في سجن غزة المركزي، في ذلك الوقت قلت للمناضل هشام عبد الرازق، وكان ممثل المعتقل: ثمانية سنوات يا هشام لم نذق للمفتول طعماً، ونحن أهل قرية بيت دراس من عشاق المفتول!.
ابتسم هشام وقال: بسيطة، يوم الجمعة نعمل في السجن مفتول.
لقد تواصل ممثل المعتقل هشام عبد الرازق مع مؤسسات دولية ومنها الأونروا، وأحضر ستة شوالات من الطحين إلى سجن غزة المركزي، ليبدأ السجين عزام مغاري بعمل المفتول على مدار الساعة من يوم الأربعاء حتى صباح يوم الجمعة، حيث تمكن ذلك الرجل من تحويل ستة شوالات طحين إلى مفتول، ليطعم يوم الجمعة 600 سجين مفتول ودجاج.
نظرت إلى راحة كف عزام مغاري يوم الجمعة، فوجدتها قد تآكلت.
تلك الكف التي تحدى فيها عزام مغاري مدير المخابرات في سجن نفحة الصحراوي أثناء إضراب سجناء نفحة سنة 1991، وكان قد مضى على عزام مغاري 14 يوماً، وهو مضرب عن الطعام، لم يدخل جوفه خلالها ولو كأس حليب واحد، لقد تحدى عزام مدير المخابرات حين قال له: لقد ضعفت قوتكم، وانتهت قدرتكم على مواصلة الإضراب، أيام معدودة وتفكون إضرابكم، نراهن على الوقت.
قال عزام مغاري لمدير المخابرات في السجن، هات يدك لنرى من يكسر يد الآخر.
وفعلاً، لقد نجح عزام مغاري في كسر يد ضابط المخابرات، وسط فرحة السجناء.
هذا هو عزام مغاري الذي كانت المخابرات الإسرائيلية تتحداه في التحقيق، وتؤكد له أنه لن يكون أقوى من فايز أبو شمالة، ولن يصمد مثلما صمد.
ما أنا، فأعترف بعد ثلاثين عاماً أنني كنت ساذجاً حين تماديت في إظهار قوتي أثناء التحقيق في مسلخ سجن غزة، وأعترف أن رسالة التحدي التي أردت أن أوصلها لعدوي قد ارتدت علي بأثر عكسي، فقد أدرك المحققون أنهم أمام جسد عملاق، وأمام نفس أبت أن تنهزم، فأعدوا لذلك عدتهم، ورتبوا أمرهم للأيام القادمة.
يتبع