(21)
وللصراخ صولة وجولة في التحقيق
رغم أنني اعترفت، وسلمت الرسائل، إلا أن المحقق لم يأخذني إلى الزنازين كما جرت العادة، لقد أبقاني السجان جالساً في المسلخ، منكفئاً على نفسي، فلا حركات تمرد، ولا تحدٍ، ولا استجابة لحركات السجين محمد أبو شاويش، جلست مقيداً والكيس على رأسي حتى صباح يوم الأحد 1/6، حين أعاد علي المحقق سؤال سبق أن أجبت عليه: أين السلاح؟
وكان ردي الثابت، لا علاقة لي بالسلاح من قريب أو بعيد، وكل ما لدي هو الرسائل.
سخر المحقق، وقال: تلك رسائل فارغة، بها كلام لا قيمة له عندنا، لن نتركك حتى تعترف بكل شيء، وتخرج من هنا نظيفاً مثلما ولدتك أمك، وإن كنت مصراً على العناد، فلدينا وسائلنا، ومن ضمنها زوجتك، سنحضرها ونضعها في الزنازين مع السجناء.
كنت أعرف أنه يهدد فقط، وكنت أقدر أن زوجتي في حالة وضع، وحكومة إسرائيل ليست غبية إلى هذا الحد الذي تجلب فيه امرأة نفاس.
لقد صار عندي تصور كامل عن مجريات التحقيق في السجون الإسرائيلية، فتجربة 25 يوماً أكسبتني الدراية، وجعلتني متأكداً أن المحقق عنيف عنيد إذا تأكد من المعلومة التي بين يديه، وسيواصل تعذيب السجين حتى ينتزع منه الاعتراف، أما إذا كانت معلومة المحقق عن السجين غير دقيقة، فإن التحقيق لا يخترق العظم، ويظل في الجلد أو في الريش.
وقد تلمست ذلك عملياً في الجولة الثانية من التحقيق معي، والتي بدأت من مطلع شهر يونيه بالأسلوب الناعم من الحديث والإقناع مع بعض العنف أحياناً، وقد اعتمد المحقق أسلوب تركي مقيداً على أرض المسلخ لعدة أيام، حتى أنني صرت أتمنى التعذيب على هذه الحالة من الخمول والركود والصمت الرهيب، فأنا لا أعرف ليلي من نهاري، ولا أعرف ماذا جرى لشهر رمضان؟ وهل نحن صائمون أم مفطرون؟ صمت لا يكسره إلا صراخ المحققين، وكأنهم أسودٌ في الغابة يحاولون إثارة حالة من الفزع في نفوس المقيدين.
في تلك اللحظات من الانهاك الجسدي والنفسي سمعت صراخاً مزلزلاً يردد جملة واحدة لم تتغير كل الوقت: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر!!!!!!!!
لمن هذا الصوت الجهوري المدوي؟ من هذا الرجل الذي كسر رتابة غرف التعذيب؟ من صاحب هذا الصوت الذي أجبر المحقق ليشير بيده على الجندي المكلف بالحراسة بأن يأخذه، أصرفه عني، أجلسه هناك، قالها وهو متأذٍ ضجرٌ من الصراخ!!
لقد انتبهت إلى تلك الإشارة التي ظهرت من المحقق، وأنا أبصبص من خلال ثقب الكيس، لذلك حرصت على معرفة الشخص الذي زلزل المسلخ بتكبيره وترديده: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، وقد نجحت في معرفته أخيراً؛ إنه الشيخ أحمد نمر حمدان!!
لقد أبرق شيب الشيخ أحمد نمر أمام عيني بالفكرة، وكأن الله ساقه كي أنقل عنه، وأقلده، ليفتح لي باب الرحمة، وأطلق لحنجرتي العنان في الصراخ، والتعبير عن التوجع مجرد الملامسة، لقد اكتشفت أن الصراخ يشفي الصدر، ويزجي الهم، ويخفف الكرب، ويريح النفس، واكتشفت أن للصراخ صدى يرتطم في وجه الآخر، الذي يعتمد الصراخ أسلوباً لإثارة الفزع.
لقد فهمت معادلة البقاء في تلك اللحظة بشكل مختلف، وفهمت مبررات خوار الثور في الغابة في اللحظات الأخيرة من عمره، ومخالب الوحوش تطبق على عنقه، فإن لم يكن في الصراخ نجاة لصاحب الشأن، ففي الصراخ تحذير لبقية الثيران بعدم التسليم في التعايش مع الوحش، وعدم اعتبار التضحية بآلاف الثيران نصراً مؤزراً لغير مخالب المجرمين!!
يتبع