(20)
أنا الذي رسم الخطة للمخابرات الإسرائيلية؟!
مع بداية العمل صباح يوم الجمعة 30/5، أخذني السجان إلى غرفة التحقيق، وأنا في غاية المرض، لقد كان وجهي منقسماً إلى قسمين؛ فقد كانت جهة الشمال من وجهي عادية مثل بقية البشر، أما جهة اليمين من وجهي فقد كانت متضخمة جداً، وينز منه الصديد والدم مجرد تحريك الكيس، كنت ارتجف من الحرارة، وتخلت عني قواي التي ساندتي على مدار 23 يوماً.
بدأ اليهودي أبو عنتر التحقيق في ذلك اليوم على عادته بالصراخ والشتم وسب الدين، ولكن حين رفع الكيس عن رأسي، ورأي وجهي، تأفف، وبان القرف في عينيه من منظر وجهي، فلم يرفع يده علي، وخاف أن تصيبه العدوى كما قال، وألبس الكيس في رأسي ثانية، وركلني بحذائه، وتركني مهملاً في غرفة التحقيق، لا أقوى على الوقوف.
بعد الظهر وجدت نفسي محاطاً بعدد من المحققين، بعضهم يبدي شفقة على حالي، وينصحني بالاعتراف، وأخذ الدواء، والتخلص من العذاب، وبعضهم يهدد بجولة جديدة، ويهيئ المكان، ويجلب الماء، لقد تواجد في غرفة التحقيق في ذلك الوقت كل من أبو ربيع، وهو متخصص بالخنق وكتم الأنفاس، وأبو الوليد، وهو المختص بالضغط على الخصيتين، وأبو رمزي، وهو المتخصص في الإطباق على الحنجرة، وأبو رشدي، وهو المتخصص بالتخبيط في البطن، وكان أبو عنتر الذي ينحصر عمله بمساعدة الجميع، والإمساك بجسدي.
ضمن هذا المشهد الذي ينبئ بالويل، قررت الاعتراف بوجود الرسائل، ولكنني انتظرت الفرصة المناسبة، كي أعطي الانطباع بأنني ما زلت قوياً، انتظرت حتى قال "أبو ربيع": كل ما نريده منك أن تعترف بالرسائل، كي نضمن لك سنة سجن، وبعدها خذ دواءك.
قلت له: موافق، سأعترف بوجود الرسائل، إنها عندي في حاكورة المنزل.
صفق المحققون، هللوا، ورقصوا، وهتفوا للنصر، واستمعوا لاعترافي فرحين، حتى إذا جاءوا على السؤال الذي أعددت له نفسي جيداً: من الذي أحضر لك الرسائل من عمان؟
قلت: أم فلان، وهي عجوز يتجاوز عمرها السبعين عاماً، عادت من عمان قريباً.
ورغم ثقتي بأن المخابرات الإسرائيلية لن تعتقل عجوزاً؛ لا تقرأ، ولا تكتب، ولا تعرف شيئاً عما قامت بنقله، رغم ذلك فقد كنت خجلاً أمام المحققين من نفسي.
بعد الاعتراف، فك أحد المحققين قيودي، وأحضر آخر إبريق الماء، وأعطاني محقق آخر الدواء، واستدعوا شرطياً يوثق أقوالي، وأبصم عليها بأصابعي العشرة.
حين أخرجني المحقق من الغرفة، وأوصى السجان بأن يطعمني، رفضت الطعام، فقد كنت متقززاً من نفسي، وكنت أرغب بمعاقبة جسدي الذي خذلني، لقد جلست في المسلخ ذاك اليوم بائساً منكسراً، والكيس على رأسي يستر دموعي، التي راحت تسيل، فتحرق بملحها جراح وجهي، لقد أحسست أنني فتاة بكر قد تم اغتصابها، دون صراخ.
كنت كئيباً عند المساء، حين أدخلني السجان غرفة التحقيق، ليبلغني المحقق بأننا سنذهب إلى بيتي لأخذ الرسائل، وحذرني من القيام بأي حركة، قد تؤدي إلى إطلاق النار.
قلت للمحقق: لا أريد أن يراني أطفالي بهذا المنظر البشع، ولا أريد أن تراني أمي وأنا أنزف دماً، سأرسم لك الخطة التي تضمن استلامك الرسائل بهدوء وسلام.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: هات ورقة وقلم، لأرسم لك الطريق، فالرسائل موجودة في الحاكورة، سنصل إليها إذا جئنا البيت من جهة الشرق، جهة بئر مياه الوكالة، هنالك يوجد كراج لسيارتي يفضي على المكان، بإمكان أحد الجنود الإسرائيليين أن يقفز من فوق السور، وأن يفتح سحاب باب الكراج، لندخل الحاكورة، وهنالك أعطيك الرسائل دون الدخول إلى البيت.
لقد وافق المحقق على خطتي، وحذرني من أي خدعة قد تؤدي لمقتلي.
تذكرت تلك الخطة التي رسمتها للمحقق بعد ذلك بعشرين سنة، في ليلة 1/1/2005، حين كنت أسيراً مع 11 من أفراد أسرتي، في الغرفة التي تقيم فيه أمي في الطابق الأرضي من بيتنا، حين سيطر الجنود الإسرائيليون على بيتي، يعد أن تقدمت الدبابات الإسرائيلية في اتجاه حي الأمل غرب مدينة خان يونس، لقد احتلوا بيتي، وسيطروا عليه، وفتحوا في جدرانه ثلاث فتحات، مكنتهم من أطلاق النار على سكان حي الأمل من ثلاث جهات، لمدة ثلاثة أيام، لقد اتخذوا من بيتي موقعاً عسكرياً، واتخذوا مني ومن أفراد أسرتي رهائن، وبعد أن كان بيتي يتلقى الطلقات من الموقع العسكري الموجود جهة الغرب، صار بيتي يتلقى الطلقات من رجال المقاومة الموجودين جهة الشرق.
في ذلك اليوم قلت باللغة العبرية للضابط الإسرائيلي "نير": اسمع يا "نير"، بيني وبينك قاسم مشترك!
قال: ما هو؟
قلت: أنت حريص على سلامة جنودك، وأنا حريص على سلامة أفراد أسرتي، لذلك اسمح لي أن أتكلم بالهاتف، كي أخبر رجال حركة فتح، ورجال حركة حماس أنني وأفراد أسرتي موجودون في البيت، ولم نغادره.
استغرب الضابط الإسرائيلي من حديثي، وقال: لماذا؟
قلت: لأن المسافة بين بيتي وحي الأمل ثلاثون متراً، والأرض هنا رملية، بإمكان رجال المقاومة أن يحفروا نفقاً في غضون ثلاثة أيام، ويضعوا كمية كبيرة من المتفجرات ـ مثلما فعلوا في الموقع العسكري على طريق المطاحن ـ وقتها ستموت أنت وجنودك، وأموت أنا وأولادي، لذلك اسمح لي باستعمال التلفون كي أحذر رجال المقاومة من فعل ذلك.
ارتعب الضابط من حديثي، وقال: انتظر.
لقد أجرى الضابط على الفور سلسلة من الاتصالات مع قيادته، واستخدم أكثر من وسيلة اتصال كانت في حوزته، وبدا على وجهه القلق، حين طلب من الجندي المكلف بحراستنا أن يكون يقظاً، وأن يشدد الحراسة علينا.
في الليل أجبرنا الضابط على الخروج من البيت، وكانت المفاجأة في الليلة التالية، حين انسحب الجيش الإسرائيلي من بيتنا.
بالعودة إلى أقبية التحقيق، في تلك الليلة من نهاية شهر مايو، ركبت سيارة المخابرات الإسرائيلية مقيداً، كنت أرتجف، لحرارتي المرتفعة، وأرتجف من هول اللحظة البشعة، حين أكافئ عدوي على ما مارسه ضدي من تعذيب.
كانت الطريق طويلة ومملة من غزة إلى خان يونس، وكان الوقت قبل موعد السحور من شهر رمضان، وكانت الشوارع خالية حين انزلقت سيارات الجيش الإسرائيلي باتجاه بيتي، لقد جرى تنفيذ الخطة كما رسمتها، شاهدت الجندي الإسرائيلي وهو يقفز عن السور، وفتح باب الكراج، لأدخل حاكورة بيتني ويدي مقيدة بيد جندي إسرائيلي، فاتجهت مباشرة إلى مكان أعرفه جيداً، نبشت في الأرض، وأخرجت الرسائل، وسلمتها لرجل المخابرات، في الوقت الذي كانت فيه عيني ترقب مكاناً آخر من حاكورة البيت، حيث كنت أخبئ سلاحاً.
لقد أخبرتني الأسرة فيما بعد؛ أن زوجتي ولدت في تلك الليلة، وأطلقت على وليدها اسم "محمد"، وأن الجيش الإسرائيلي قد حاصر المنطقة، وجمع كل أفراد العائلة في غرفة واحدة، ومنع عليهم الحركة حتى موعد السحور، ولم يكن أحد منهم يدري ما يجري من حوله!
ولكن أمي قالت لي: لقد شممت رائحتك في تلك الليلة.
يتبع