(19)
بيض مقشر في التحقيق
ما أطول الليل على الأسير! بل ما أصعب الليل على المقيد بالمواسير، ولا يعرف ما حل بجسده، لقد كنت أمد لساني إلى شفتي أتحسس الجرح، فأتوجع، كنت أحس أن شفتي قد تضخمت، وأن نصف وجهي الأيمن يلتهب ناراً، لقد ازداد الوجع مع حرارة جسدي العالية.
حتى إذا جاء صباح يوم الخميس 29/5 كنت في مواجهة المحققين ثانية، ليتكرر التعذيب غرقاً بالقدر نفسه الذي حصل يوم أمس، فصار الغرق والخنق والضغط على الخصيتين أمراً مألوفاً، ولكنني كنت حذراً من أبو رمزي، فلم أمكنه من حنجرتي.
عند الظهيرة انتبه المحققون إلى وضعي الصحي، وراحوا يصفون حالتي بالسيئة، ويرقبون انتفاخ وجهي، حتى أن المحقق أبو رشدي خرج من الغرفة وعاد وقد أحضر معه مرآة، ووضعها أمامي كي أرى وجهي. يا للهول، لم أعرف من هو الشخص الذي رأيته في المرآة، هذا ليس أنا، إنه مخلوق آخر على هيئة مسخ، وجه منتفخ من الجهة اليمني، ووجه عادي من الجهة اليسرى، وشفة ممزقة تتدلي كشفة بعير، وذقن طويلة من الجانبين، وناحلة من الأمام بفعل حركة الهز، وعيون غائرة مملؤة بالقذى، هذا ليس أنا، لقد ارتعبت من منظري المتوحش، ولم أجد جواباً حين قال لي المحقق، ألا ترى أن وجهك يشبه وجه القرد.
الغريب في الأمر أن المحقق أبو عنتر قام بتصويري وأنا على هذه الحالة، ولا أعرف حتى اليوم ما الهدف من تلك الصورة!
حاول المحققون في ذلك اليوم التأثير علي من خلال الكلام، حتى أن أحدهم قال لي: أنت مجنون، لدينا في المسلخ عشرون موقوفاً، حتى الصباح يكون جميعهم قد اعترف، ونزل إلى الزنازين، ولم يبق عندنا أكثر من عشرين يوماً إلا أنت وثلاثة مجانين مثلك، اعترف وارحم نفسك، انظر لحالك، وماذا حل بك، فحرارة جسمك مرتفعة، ووضعك الصحي يستوجب طبيباً، لقد أخرجني المحقق من الغرفة، وطلب مني أن أعد الموقوفين في المسلخ، كي أتأكد أنهم عشرون، وذلك قبل أن يأخذني إلى طبيب السجن.
فحصني طبيب السجن بعناية، وأشهد أن الطبيب اليهودي قد شخص حالتي بشكل صحيح، وأكد أن الالتهابات ناتجة عن تلوث جرح الشفة، وهذا هو السبب في ارتفاع الحرارة، وكتب الطبيب لي ثلاثة أنواع من المضادات الحيوية، ثلاث مرات في اليوم.
لقد رأيت الدواء في يد المحقق، وانتظرت أن يعطيني إياه، وهو قال: هذا هو العلاج الذي كتبه لك الدكتور، عليك أن تأخذ الان ثلاثة اقراص، ولكن الشرط هو أن تعترف.
كان ردي السريع: لا شيء عندي!
فما كان من المحقق إلا أن لقى بالعلاج في سلة الزبالة، وهو ينادى على السجان أبو جميل، ويطلب منه أن يقيدني بالمواسير.

كنت مقيداً في المواسير حين اقترب موعد الإفطار في رمضان، كنت تعباً وجائعاً وأرتجف لحرارة جسدي المرتفعة، ولم أكن قادراً على تحريك رأسي، كي أثقب الكيس، وأشاهد ما يجري حولي، كنت في غيبوبة عن الواقع، مهموم، مشغول بنفسي، عندما جاء اثنين من أطفالي، وهما إبتسام وبسام، وأمسك كل واحد منهما بيد، ووقفا صامتين بالقرب مني.
قلت للصغيرين في ذلك الوقت: أنا بخير، هل رأيتم؟ أنا بخير، هيا اخرجا من المكان، كي تستقلا سيارة على وجه السرعة، خشية أن تتوقف حركة المواصلات مع الإفطار.
ظل الطفلان صامتان، ولا يتحركان، ولا يستمعان لكلامي.
عندها قلت لبسام ابن سبع سنوات، خذ أختك إبتسام ابنه الخمس سنوات، واسمع الكلام، خذها، وعودا إلى البيت بسرعة، فالمواصلات في هذه الساعة من غزة حتى خان يونس صعبة، وإن تأخرتما فلن تجدا مواصلات، هيا يا بسام، هيا يا إبتسام.
وحين لم يستجيبا لي: صرخت عليهما بصوت عالٍ: اذهبا بسرعة، هيا، هيا يا أولاد.
صحوت من حالة الهلوسة على صوت السجان، يقول لي: شكت.
لقد تضاعف وجعي في ليلة الجمعة 30/5، وقرصني الجوع، وارتجف جسدي مع الحرارة، كانت ليلة شاحبة، لولا أن الحارس في تلك الليلة كان شخصاً جديداً، جاءني ورفع الكيس عن رأسي، وشاهد منظري، فظهر عليه التأفف والشفقة، وسألني: ما تهمتك؟
قلت له: أعمل مدرساً، ومتهم بالحديث للطلاب في السياسية، هذه تهمتي.
قال: هل أكلت، فقلت: لا
وضع السجان الكيس على رأسي، وغاب قليلاً، ولما عاد، كان في يده بيضة مقشرة ومسلوقة، وقال لي بالحرف الواحد: افتح فمك يا طويل،
فتحت فمي، فقذف السجان البيضة المقشرة من بعيد، فقد كان منظري منفراً.
بعد قليل، عاد السجان، وفي يده بيضة أخرى، وقال: افتح فمك يا طويل، وقذف البيضة، فالتهمتها في الحال، فقد كنت محروماً من الطعام أربعة أيام.
لقد أعجبت السجان لعبة البيض، فكررها عدة مرات.
يتبع