(18)
الموت في التحقيق غرقاً
لم أهتم بوجع الرحلة من سجن جنين إلى سجن غزة، لم أتوجع من حرارة حديد السيارة الذي أحرق جسدي، ولم أهتم كثيراً بالجوع الذي ينهش أحشائي، فالطعام ترف في مثل حالتي، رغم أنني لم أذق شيئاً منذ يوم الأحد.
لقد كان بالي مشغولاً بما ينتظرني في مسلخ غزة، فماذا سيفعل بي هؤلاء المحققون؟ وهل سيصدقون أنني بريء بعد أن صار في يدهم الدليل؟ إلى متى سأصمد؟ إلى متى سأحتمل هذا العذاب؟ لماذا لا أعترف وأزيح عن صدري الحزن، ولاسيما أنني في قبضة اليهود، ولن يسمحوا لقوة على وجه الأرض بالتدخل لمساعدتي.
ثم أقول لنفسي: لن أعترف، فالاعتراف عن الرسائل سيجر إلى اعتراف عن الشخص الذي أوصل لي الرسائل، والمحقق اليهودي مثل ضبع جائع، سيهيج لرائحة المعلومات، وسيطلب مني المزيد والمزيد، وكل حرف ينفتح عنه فمي فيه خراب لبيوت.
طالت الطريق من سجن جنين إلى سجن غزة، وأنا في صراع عنيف بين الاعتراف وعدم الاعتراف، طالت الطريق حتى وصلت سجن غزة بعد العصر، وبدل أن يجلسني المحقق في المسلخ، ويعطيني بعض الطعام، أخذني السجان مباشرة إلى الحمام، وربطني هنالك بالمواسير.
أدركت أن ليلي طويل بين عذاب جسدي وعذاب نفسي، حتى إذا جاء صباح الأربعاء 28/5 أدركت مأساتي في ذلك اليوم، حين وجدت نفسي وحيداً مقيداً في غرفة التحقيق وأمامي كل من "أبو عنتر"، و"أبو ربيع"، وأبو رشدي، و"أبو الوليد" ومحقق آخر اسمه "أبو رمزي".
كنت أقف وسط المحققين مثل ثور تشحذ له سكاكين الذبح، كان بصري يتجه بفزع إلى المحقق "أبو ربيع"، الذي أمسك كيساً من النايلون المقوى، وفتحه بيديه، وانتظر حتى صب فيه ابو عنتر كمية من الماء، عندها رفع أبو ربيع الكيس ليضع رأسي فيه، ولكنني زغت بحركة سريعة، وقد ساعدني طولي على ذلك، فأفشلت العملية.
بعد ذلك صعد أبو ربيع على الطاولة، وفي يده الكيس، وراح أبو عنتر يصب الماء، ليدفعني باقي المحققين قريباً من الطاولة.
وفي لحظة كلمح البصر، وضع أبو ربيع الكيس الممتلئ بالماء فوق رأسي، وكي لا تسيل المياه من الكيس، أحكم أبو ربيع قبضته أسفل الكيس عند عنقي، فصرت غريقاً!
أنا الآن أغرق في البحر، أنا أموت غرقاً، أحاول أن ألتقط أنفاسي، ولكن دون جدوى، أنا أغرق، أحاول فأشرب من الماء الموجود في الكيس، حتى نجحت بأخذ شهقة هواء.
رفع المحقق أبو ربيع الكيس عن رأسي، بعد أن سال ما ظل فيه من ماء على كتفي، وقال ساخراً: هل ستعترف؟ قلت: لا شيء عندي!
عاود أبو ربيع المحاولة مرة ثانية، وعاود المحاولة مرة ثالثة، وهكذا ظل أبو ربيع يعاود استنساخ الموت غرقاً باحتراف شديد.
في تلك اللحظات خطر في بالي شاطئ بحر خان يونس، لقد أنقذت من الغرق عشرات الأولاد والبنات والنساء والرجال، كنت مزروعاً على الشاطئ كل ساعات النهار، وكأن الله سخرني في تلك الأيام لأنقذ من يغرق، فمن ينقذني اليوم؟ ما أصعب الموت غرقاً!
بين كل موجة من الغرق وأخرى، كان أبو ربيع يردد على مسامعي كلاماً مخيفاً، كان يقول: لا نريدك ميتاً، سأوصلك إلى حافة الموت، وأعيدك ثانية إلى الحياة، أنا الذي يحي ويميت، ستموت ألف مرة، ولكن ستظل حياً! ومتى أردت لك الموت، ستموت.
وبين موجة تعذيب وأخرى أقول لنفسي: إلى متى أنت صامد؟ كم مرة ستحتمل الموت غرقاً؟ هل أنا عنيد إلى هذا الحد، أم أنني غبي؟ أم أنني خائف من نتائج الاعتراف؟
كنت أقف وسط المحققين مبلل الصدر والكتفين، وكان نهار ذلك اليوم قد انتصف، حين اقترب مني المدعو "أبو رمزي" وراح يطوف من حولي، ويدندن بألحان عبرية، حتى إذا سرحت مع حركاته، أطبق فجأة بأصبعيه على حنجرتي، فجحظت عيناي، وتدلى لساني، لقد مت!.
لا أعرف متى رجعت من الموت، ولكنني صحوت وأنا ممدد على الأرض، لا أقوى على بلع ريقي، وجسدي يرتجف، وحولي يرقص خمسة محققين يهود.
منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا يعاودني وجع الحنجرة في شهر مايو من كل عام!!.
أخذ المحققون قسطاً من الراحة، وعادوا بعد ظهر ذلك اليوم لممارسة مهنتهم، فطرحوني أرضاً، كانت وذراعي مقيدتان من الخلف، كان أبو عنتر يقف على بطني، وكان أبو الوليد يضغط على الخصيتين، وركب أبو ربيع على صدري، وراح يكتم أنفاسي ببشكير مبلل بالماء.
كنت أحاول أن أفتح فمي لأخطف جرعة هواء، وكان أبو ربيع يغلق فمي بكلتا يديه ليكتم أنفاسي، وأنا أحرك رأسي لأفتح فمي، بينا يضغط أبو ربيع بقوة يديه ليغلق فمي، في الوقت الذي كان فيه أبو رشدي يثبت رأسي بقدميه، بعد عدة محاولات من فتح فمي، وقعت شفتي السفلى بين أسناني، ليضغط أبو ربيع بكل قوته، لقد تمزقت شفتي بأسناني، وسال الدم.
وعند المساء كنت مربوطاً بالمواسير تعباً جائعاً مرتبكاً وأرتجف من البرد.
يتبع