(9)
ضحك هستيري في المسلخ
التحقيق في السجون الإسرائيلية لا يسير على وتيرة واحدة، العذاب لا يأخذ منحىً تصاعدياً باستمرار، فقد تمر على الضحية فترة من الوقت بلا عذاب، يحاول خلالها المحقق ترتيب خطواته، ودراسة ما توفر لديه من معلومات، واتخاذ الإجراءات التي تتناسب والحالة، وهدف المحقق الدائم هو إغلاق الملف بشكل سليم، ليصير قضية أمام المحاكم الإسرائيلية.
لقد جاءني في صباح يوم الجمعة 17/5، محقق صغير السن، كان شاباً يهودياً لطيفاً، يطلق على نفسه اسم "مايكل"، رفع ذلك الشاب الغطاء عن رأسي، وتحدث إلي بهدوء، وحاول أن يغريني بالخلاص من العذاب، وحاول أن يقنعني بأن لا فائدة من الانكار، قال لي: طالما كانت النتيجة مضمونة، فعليك أن توفر على نفسك العذاب. وكان يردد على مسامعي بين فترة وأخرى المثل العربي القائل: "ميت عين تبكي ولا عين أمي تبكي".
لقد حاول ذلك اليهودي أن يثير الخوف لدي من الذي سيحدث بعد أيام، كان يقول لي: هل ترضى أن يأتي أبوك إلى هنا، وهو رجل كبير؟ هل تقبل أن يهان أبوك بسببك، ويحشر مع اللصوص في زنزانة؟ هل تقبل على شرفك أن يحضروا زوجتك إلى هنا؟ هل ترتضى لزوجتك أن تترك أولادها، لتقعد في السجن مع العاهرات!
بعد ساعتين من الحديث الناعم خرج المحقق "مايكل" دون نتيجة، ليدخل بعده المحققان أبو عنتر وأبو رشدي، وهما يصرخان: كوم، كوم، وطلبا مني الوقوف ووجهي على الحائط، ولكن دون غطاء للرأس، وذلك كي يكون ارتطام رأسي بالحائط أكثر وجعاً، ولاسيما أن الاثنين تعاونا على ضرب رأسي بالحائط، قبل أن يتركاني لفترة أدقق في تفاصيل الحائط.
كم كان مرعباً ذلك الحائط! إنه لوحة تعذيب زمنية، فيها من الشواهد ما يشيب له الصغير، لقد رأيت خصل شعر تلتصق بالحائط، ورأيت بقايا دمٍ سال يوماً على الحائط، ورأيت جلدة رأس إنسان تلتصق بالحائط، كان المنظر رهيباً، ويشهد على الوحشية والعنف، وأظن أن رفع الكيس عن رأسي كان القصد منه مشاهدة لوحة التعذيب الجدارية هذه، التي تزلزل كيان من يراها بالخوف، وهو يتوقع ما قد يمر على جسده من عذاب.
لم يطل زمن وقوفي على الحائط، فبعد ظهر يوم الجمعة اخرجني السجان من غرفة التحقيق، بعد أن وضع الكيس في رأسي، وأجلسني مقيداً من الخلف وسط السجناء.
وما أطول يوم السبت في التحقيق! ما أطول الوقت حين يصير الإنسان كومة من اللحم المركون بلا سؤال ولا جواب، وأنا لا أحب الانتظار، ضاق خلقي، فقد تعودت على الحركة والحدث والانفعال حتى ولو كان تعذيباً، لا أحب السكون، كانت روحي بحاجة إلى التمرد، فصرت أحدث ضجيجاً في المسلخ التحقيق، وأصرخ، وأنادي، وألعن، لقد دخلت مرحلة التحدي، وكسرت حاجز الصمت الرهيب! فماذا بإمكان السجان أن يفعل بي أكثر مما فعل؟
كان يوم السبت 18/5 بداية التمرد، فصرت أقف، وأدني ذراعي المربوطتان من الخلف حتى يقتربا من الأرض، ثم إدخل ساقي في المسافة الفاصلة بين الذراعين، لتصير القيود في معصمي من الأمام وليس من خلف ظهري، وفي هذا راحة كبيرة.
لقد اكتشفت أن المحقق الإسرائيلي لا يعتمد نمطاً تقليدياً في التعذيب، المحقق يبتدع الجديد المناسب لكل حالة، ويمزج بين العنف واللين، المحقق لا يترك جسد الضحية في العذاب على مدار الساعة، فجسد الإنسان يألف العذاب إن كان متواصلاً، العذاب كالمرض يتأقلم معه الإنسان، بل قد يستعجل الإنسان جرعة العذاب إن تأخرت عليه، وقتها تصير اللكمات والضربات لا توجع الجسد بمقدار ما تستفز خلاياه للدفاع، لذلك يحرص المحقق على أن لا يظل جسد الضحية مشدوداً، المحقق الذكي يترك جسد الضحية يتراخى عدة أيام، ليتذوق طعم الراحة، حتى إذا عاد إليه التعذيب ثانية، يكون أقل قدرة على التحمل والصمود، المحقق يترك الضحية يتوقع العذاب، ليرتجف خوفاً قبل أن يقع.
في ليلة الأحد خيم الهدوء على المسلخ، وتراخى السجناء في قيودهم، ذبل بعضهم تحت الكيس، ونام بعضهم وهو جالس، وهذه ما أزعج السجان الذي صرخ على جميع السجناء في المسلخ، قفوا، جميعكم هيا، جميعكم اقفزوا، اقفزوا.
بدأنا جميعنا بالقفز، وبدأت أثير صخباً في الصالة كي أخفف عن السجناء، لقد وظفت حركة القفز لتنشيط الدماغ، وصرت أكرر بصوت مرتفع: هب، هب، هيا، اقفز، اقفز!!!
لاحظت من ثقب الكيس أن سجيناً آخر يبادلني نفس الحركات، وينظر مثلي من ثقب الكيس، ويردد معي بصوت أجش، هيا، هيا، هيا، فما كان مني إلا أن قلت له: هيا، دبكة، وحدة ونص، وبدأنا ندبك في المسلخ وحدة ونص، وهو يراقبني وأنا أراقبه، وكلانا فرح بهذه الحركة المسلية، فقد طفح خزان الوجع في صدورنا، وجاء موعد إفراغه، وإعادة شحنة بموجة من الضحك الهستيري، نعم، ضحكنا في المسلخ بصخب أزعج السجان، فطلب منا الجلوس.
أيها القارئ العزيز،
حين أنشر تجربتي في التحقيق لا أنشد إثارتك، ولا أدعي البطولة، فالبطولة موقف يحتكم إلى درجة وعي الإنسان للحالة التي يعيشها، ولا أسعى لكسب ودك، ولا أرغب في تسليتك، ولا اطلب منك دمعة حزن، ولا انتظر ثناءً، ولا أخشى ملامة، فلا مطمح لي بكل ما يلهث إليه الآخرون، فقد تجاوزت في تجربتي مرحلة الخوف والطمع.
أنشر تجربتي في التحقيق بدقة وصدق وأمانة كي يستفيد منها من لم يبدأ المعركة بعد.
يتبع


(10)
أيها القارئ العزيز،
حين أنشر تجربتي في التحقيق لا أنشد إثارتك، ولا أدعي البطولة، فالبطولة موقف يحتكم إلى درجة وعي الإنسان للحالة التي يعيشها، ولا أسعى لكسب ودك، ولا أرغب في تسليتك، ولا أطلب منك دمعة حزن، ولا انتظر ثناءً، ولا أخشى ملامة، فلا مطمح لي بكل ما يلهث إليه الآخرون، فقد تجاوزت في تجربتي مرحلة الخوف والطمع.
أنشر تجربتي في التحقيق بدقة وصدق وأمانة كي يستفيد منها من لم يبدأ المعركة بعد.

اكتشفت عميلا ًفي المسلخ
ما أن تسهو عيني قليلاً وأنا قاعد في المسلخ، حتى أفيق، لأوجه نظري إلى ذلك السجين الذي بادلني حركات التمرد، لقد أحببته دون أن أعرفه، وكنت كلما ضاقت علي اللحظة في المسلخ، أستأنس فيه، وأدق له بالشبشب على الأرض، فينتبه إلي، ويبادلني الحركة ذاتها، لقد صرنا أصدقاء دون أن أتبين ملامح وجهه، ودون أن أعرف اسمه.
كان ينظر إلي من ثقب الكيس، ويكتب بأصبعه على الأرض، وكنت أنظر إليه من ثقب الكيس، وأكتب له بأصبعي على الأرض، ولكنني لا أفهم ما يكتب، وهو لا يدرك ما أقصد، لقد كنا نمارس الحياة، ونتغلب على الصمت في تلك اللحظات الصعبة.
في صباح يوم الأحد 19/5/ عاد المحققون من الإجازة، وبدأ الضجيج المخيف في المسلخ، وراحت أبواب الحديد تفتح وتغلق على نفاثات الخوف، وكانت خطوات المحققين وهم يتنقلون بين غرف التحقيق تدق في قلوب المنتظرين. ماذا يخبئ لنا هذا اليوم من مصائب؟ ومن الذي سيجرجرونه إلى غرفة التحقيق أولاً؟ من يخلصنا من هذا العذابـ؟
في هذه الأجواء المعبأة بالفزع، سمعت صوتاً يقول: "أيوه، أنا محمد عبد العزيز أبو شاويش"، التفت جهة الصوت، فعرفت إنه صديقي الذي يبادلني في المسلخ طوال الليل حديث الحركات، إنه يقلدني، ويستعمل طريقتي في الرد على السجان، حين كان يسألني عن اسمي، فأقول: فايز صلاح حسين أبو شمالة من قرية بيت دراس.
محمد أبو شاويش كان صديقي في التحقيق، وظل صديقي في السجن، وهو صديقي حتى اليوم، ويسكن في مخيم النصيرات.
بعد دقائق من معرفة اسم صديقي، صرت أسمع صراخه، وأتخيل نفسي بعد دقائق في مكانه، إنها لحظات فزع حين يسكن صوت العذاب أذنيك، فرغم شعوري بالفخر بعد بمرور ثلاثة عشر يوماً دون أدنى اعتراف، ورغم ازدياد ثقتي بنفسي مع الأيام، ورغم تنامي إرادتي في الصمود، إلا أن سماع صوت أنين المعذبين في غرف التحقيق يوجع النفس أكثر من العيش تحت العذاب، لقد قررت في تلك اللحظات أن أحتفظ بسري مهما عذبوا جسدي، لقد قررت ألا أعطي مكافأة لمن يعذبني، لن أعترف بسري.
لم يطل انتظاري للعذاب، دقائق وكنت تحت المقصلة، ودارت المعركة بين جسد منهك بالقلق وبين أيدي قساة قتلة من اليهود الحاقدين.
قبل العصر كنت أجلس في المسلخ ثانية، يملؤني الشعور بالفرح، وأنا أثبت عيني على ثقب الكيس، كي أراقب ما يجري، فلم يزعجني في تلك اللحظات إلا صراخ المحققين في غرفة التحقيق على أحد السجناء، كان صوت الصفعات والضربات المبرحة يخترق آذاننا، وكانت استغاثة السجين تحاصر أرواحنا، فمن هو هذا البطل الذي يعذب حتى الآن؟ فتشت بين السجناء، فارتحت حين رأيت صديقي محمد أبو شاويش، يجلس تحت الكيس أمامي.
ظل نظري منصب على الغرفة التي يخرج منها الصوت، كنت أتمنى رؤية ذلك البطل الصامد تحت التعذيب، فكانت المفاجأة حين جاء الخادم بالقهوة، وفتح باب الغرفة، وقبل أن يغلقها بسرعة، رأيت شخصاً عربياً بلباس السجن، يجلس مبتسماً على كرسي، ورأيت المحقق اليهودي يضرب الطاولة بحركات تمثيلية، ويشتم ويسب كذباً بصوت مرتفع.
إنها تمثيلية إذن، فمن هو هذا العميل الذي يمثل دور البطل؟
ظللت أراقب الغرفة حتى فتح بابها، ليخرج منها المحقق، وهو يجر العميل، كان مقيداً، والكيس على رأسه.
وحين مر من أمامي، مددت رجلي بشكل متعمد، فسقط وارتطم وجهه بالأرض، فتأكدت من ملامحه جيداً، بعد أن رفع السجان عن رأسة الكيس ليتأكد من سلامته.
أما أنا، فقد تلقيت صفعات وركلات لا تعد ولا تحصى!
بعد عدة شهور، وأثناء وجودي في الزنازين، كنت أبصبص من تحت باب الزنزانة، فرأيت ملامح العميل التي حفظتها غيباً، لقد تأكدت منه أثناء خروجه من الزنزانة عشرين إلى الحمامات، لأبدأ من تلك اللحظة في إرسال الأمسيات له، والحديث معه كبطل، حتى اطمئن لي، فتعرفت على اسمه، إنه من سكان حي الأمل في خان يونس.
يتبع