ضلالات الرواية "حمام بريدة"أنموذجا(2)
وعدنا في ختام الحلقة الماضية بالغوص في رواية الأستاذ يوسف المحيميد،وهانحن نسعى لذلك .. ولكن قبل كل شيء .. الغوص في رواية حديثة .. يشبه تشريح (جثة) وعليه فإن من يتابع القراءة عليه أن يفعل ذلك على مسؤوليته الشخصية .. فلابد عند تشريح الجثث من كشف شيء ما كان ينبغي أن يكشف .. هنا أيضا سوف نضطر للاستشهاد ببعض ما جاء في الرواية من عبارات قد تخدش الحياء.
بعد هذا التنبيه .. والتحذير .. نبدأ بهذا السؤال :ما الذي تفعله بنا الرواية؟
إنها ببساطة - أرجو ألا تكون مخلة – تقوم بتخديرنا بمجموعة من الألاعيب والملهيات .. ثم تمرر الأفكار .. قبل أن نضرب بعض الأمثلة من الرواية التي بين أيدنا .. نعود للإشارة إلى جزء من حديث الأستاذ(المحيميد) لصحيفة (الشرق)،قال وهو يرد على الدكتور محمد السعيدي :
(الروائي مبدع وليس مفكراً، وحينما يكتب المفكر وجهة نظر فكرية عن المجتمع فهي تمثله).
هذا التفريق بين المفكر والمبدع،ينتج عنه التالي :
أنت تستطيع أن تناقش المفكر .. بالعقل .. ولكنك لا تستطيع أن تناقش المبدع .. بالعقل ..
كمثال .. جاء في الرواية أن وزارة الصحة ألزمت منسوباتها بارتداء زي محتشم .. بغض النظر عن مكانة الاحتشام في الإسلام،وفي قيم المجتمع .. فإن الراوية اعتبرت أن القرار أراد دفع التحرش عن النساء .. وهنا يعترض (فهد) بطل الرواية ويرى أن الوزارة لو قامت بوضع ( قوانين صارمة ضد من يتحرش بالنساء،تصل إلى السجن لسنوات،لتردد هذا البدوي ألف مرة قبل أن يشهر سهمه نحوها){ص 59 – 60 (الحمام لا يطير في بريدة) /يوسف المحيميد / المركز الثقافي العربي / الطبعة الرابعة /2011}.
في حالة المبدع علينا أن نقرأ في صمت .. ونتسلى .. أما في حالة المفكر .. فكان لنا – مثلا – أن نجادله بقرار السيدة ميشيل اندريه وزيرة الدولة لحقوق المرأة في فرنسا .. والتي قررت إصدار قانون مفاده أن (الرجال الذين يواصلون مضايقة زميلاتهم لأسباب جنسية قد يواجهون عقوبة السجن لمدة عامين أو دفع غرامة قدرها 2000 فرنك"350 دولارا"){ جريدة الشرق الأوسط العدد 4190 في 24/10/1410هـ = 19/5/1990}.
ويمكن الاستشهاد بأمثلة أخرى لقوانين صارمة في الغرب،لم توقف التحرش بالنساء – مع عدم معاناة الرجال هناك من الكبت الذي جاء ذكره في الرواية – الغربيات ..
هذا الجدل أو الحوار يمكن أن يجرى مع (مفكر) .. ولكن (الرواية) تسلب القارئ ذلك الحق.
نعود إلى الحديث عن الطريقة التي تتلاعب بها الراوية بعقولنا ... ونمثل لذلك بالتالي :
بينما كانت (طرفة) مع حبيبها (فهد) بطل الرواية في أحد المقاهي .. إذا بهيئة الأمر بالمعروف تنقض عليهما .. وتذهب بكل واحد منهما في سيارة .. (كانت طرفة تفكر بصمت يشبه الغيبوبة،ماذا سيفعلان بي؟تتخيل كيف يناولهما الدفتر الكبير الذي زينت في إحدى ورقاته بصمة إبهامها،ليقوع الحارس بالقلم متسلما الغنيمة،ثم ينزلونها إلى البوابة حيث الحارسة الضخمة التي تتسلمها من معصمها الرقيق،وتيسر بها إلى موظفة سمراء تسجل معلوماتها وتحفظ ملفها،ثم تتسلم منها كل أغراضها الشخصية،وحقيبة اليد الصغيرة ذات الفرسان المهزومين،وكيس الوردة الحمراء،وهاتفها المحمول الذي يزدحم برسائل اللهفة،ووسائط متنوعة كانت تتسلمها من صديقتها ندى،وفطوم،أو طمطم كما تخزن اسمها في دفتر الأرقام بهاتفها المحمول،ثم تقودها الموظفة إلى غرفة التفتيش الذاتي،وتطلب منها أن تخلع ملابسها،فترفض،وتقول لها ببرود سجانة متأففة : اخلعي بنفسك حتى أفتشك وحدي،أو أجيب الحارسات يفتشونك معي بالقوة. ثم تخلع طرفة تنورتها وهي تبكي بحسرة،وبلوزتها أيضا،حتى تصبح عارية تماما وتفتح ساقيها قليلا،كي تتأكد الموظفة أنها لا تخبئ شيئا هناك،لترمي نحوها قميصا خاصا بالنزيلات،وتحفظ ملابسها وأغراضها في كيس تسجل عليه الرقم 201،وترمي به في نزق مع لفائف كثيرة،لتموت طرفة إلى الأبد،ويصبح اسمها : النزيلة 201،وتتحول إلى مجرد رقم صغير في غابة فوضى!
هكذا بقيت طرفة تتخيل مرعوبة في المقعد الخلفي ،قبل أن تتوقف السيارة الصغيرة داخل موقف في مبنى الهيئة كي ينزل السائق الصامت بغضب،ويقودها إلى مكتب شبه فارغ،لا يوجد فيه سوى طاولة وكرسي.بلا تلفون أو أوراق أو ملفات. يغلق الباب ،ثم يقفله،فتبقى ذاهلة تتأمل الجدران والسقف وتبكي){ص 28 - 29 (الحمام لا يطير في بريدة) }.
من المؤكد أن الغضب سوف يجتاح من يقرأ هذه المعاملة التي عوملت بها (طرفة)،ولكن السؤال :
ما الذي حدث لها فعلا أو كيف تصرفت معها الهيئة؟
على القارئ الباحث عن الإجابة أن ينتظر من الصفحة 29، حتى يصل – عبر قصص لا تنتهي،وحياة كاملة لوالد البطل – إلى الصفحة 349 .. وهل سيحصل على إجابة ؟ للأسف لا. بل سيحصل على مزيد من الشحن .. والتخيل .. (اللعنة،ما الذي يحدث؟ كأنما هم يريدون مقتل طرفة ببساطة،وبدم بارد،تخيلت الأم كيف يأني عبد الله بهدوء القتلة،يأخذها بسماحة ويسر وحب،يعيدها إلى البيت،ولا يفتح معها أي موضوع،وكأنه لا يكترث،ثم يأخذها ليعتذر لأنه رفض دراستها في أكاديمية تمريض،ويخبرها بأن زميله سيوفر لها قبولا سريعا لدراسة التمريض،,في الطريق يدخل قبو عمارة مظلم،ثم ينحرها بسكين ضخمة ورهيفة،ويضع جثتها داخل كيس أسود،ثم يحملها على كتفه،ويرمي بها في صندوق النفاية الأصفر الضخم){ص 349 }.
إذا .. ما ذا فعلت الهيئة بتلك المسكينة؟
ببساطة وقعت أو بصمت على تعهد،ثم حضر أخوها الصغير "أيمن" وأخذها :
(كم أبكاها موقف أيمن حينما بكى أمامها وهو يردد"هذي آخر ثقتي فيك يا طرفة"؟ وأضاف "أنا الوحيد اللي يحترمك ويقضي أغراضك وطلباتك،تحطيني في ها الموقف؟" فما ملكت طرفة إلا أن جذبت رأسه وقبلته مرتين،رغم أنه أصغر منها بسنوات،وهي تعتذر منه وأنه لا يستحق أن تخدعه (..) كان رنين جواله لم يتوقف منذ بلغت الساعة الواحدة ظهرا،ثم أجاب أمه بأنه تأخر على طرفة بسبب تعطيل دكتور لهم في الجامعة،وأن طرفة اتصلت به مرارا من الأكاديمية،وحين سألت الأم : "أرسل لها عبد الله طيب؟صاح مقاطعا ""لا،خلاص أنا عند باب الأكاديمية،دقائق ونكون في البيت!"){ص 351 }.
فقط – أو بس بالعامية – صحيح أن أربعة ساعات – تفريبا – قضتها "طرفة"في حوزة الهيئة لست شيئا هينا .. ولكن هذه هي النهاية .. بصمة أصبع .. وتقبيل رأس أخ يكذب على أمه من أجل ستر أخته .. بعد أن اكتفت الهيئة ببصمة أصبعها لتستر عليها.
مثال آخر .. ولكنه هذه المرة ضمن سلسلة .. من الإساءة للنساء – والتي تذكرنا بالحكم الذي أطلقه أحد أبطال نجيب محفوظ على جنس النساء ..لأن امرأة {غير موجودة إلا في خيال الكاتب} خمسينية ارتكبت خطيئة – من وجهة نظرنا على الأقل. ربما نعود للحديث عن تلك الإساءات في موضع آخر .. ولكننا نكتفي هنا بما جاء في الرواية عند تقدم "عم فهد"ليخطب أرملة أخيه وسها أم فهد .. أولا كذب على أمه وأخبرها أن عمه كان يسأل عن السيارة هل ستباع أم لا.. وفي مرة تالية أخبر أمه بسبب زيارة العم.
(بدأ يحكي لها ما كانا يدبران {عمه وخاله} وكيف أصبح الستر عليها واجبا شرعيا كما لو كانا يشهدان على علاقات سرية تربطها برجال غرباء،كأنما أحد قال إنه يرى رجالا يدخلون منزل الأرملة وقت الظهيرة حينما يكون طفلاها في مدرستهما!ران عليها صمت طويل ومهيب،كما لو كانت تسترجع تاريخها أو حوادثها،كانت تفكر بشرود أثار ابنها فهدا كثيرا،وبدت وساوس تحيط بقلبه وتلكزه كحمار واقف لا يتحرك"هل كان ثمة شيء يربطها برجل آخر غير أبي؟ هل كانت حزينة وصامتة في السنوات الأخيرة لأنها تعيش تناقضا حادا بين أبي وبين الآخر؟ هل يعقل أن يكون عمي إمام المسجد قد علق بقلبها وعلقت بقلبه قبل سنوات،حين أقمنا في منزلهم في بريدة،هاربين من جنون الحرب؟"
رفع فهد رأسه إلى السقف :"لا،أعوذ بالله من الشك والظن"
بكت سها فجأة بعد دقيقة صمت وشرود،وهي تلومهم كيف يفكرون بذلك وتربة زوجها لم تجف ..){ص 75 - 76}.
لا يتعلق الأمر فقط بأن طرح تلك الأفكار والوساوس،يكفي لإثارة الأفكار والوساوس لدى القراء .. ولا يتعلق الأمر أيضا بأن (سها) تزوجت العم في النهاية .. بل يتعلق الأمر بقضية أخرى لافتة للنظر .. وهي علاقة (فهد) بـ(ثريا) وهي امرأة متزوجة .. و(أم) .. وقد ألحت الرواية بشكل عجيب على تأكيد أمومتها!!
جاء في الرواية :
(وعطرها يغمر أنفه وروحه،وروحها الشابة ترفرف بعشق تلك التي لو لم تقل أنها أم لستة،وأن أكبرهم في عمره تقريبا، ولولا صوتها المتهدج قليلا،لما استطاع أن يخمن أن عمرها في نهاية الثلاثينات،تزوجت وهي صغيرة ){ص 141}
كتبت "ثريا"لـ"فهد"على خلفية بطاقة :
(أحبك يا فهد،لكن أخشى ترفض حبي لك وجنوني بك،لأنني أكبر منك،يمكن بعمر أمك!){ص 143}.
وبعد أن أنهى معها مكالمة تحاول فيها أن تقابله،بينما حاول هو أن يتملص .. قال صديقه "سعيد":
(مشكلة القروي إذا أحب عجوزا،يا عم هذي في مقام أمك!){ص 143}.
يقول الراوي عن "ثريا" :
(كانت في أواخر الثلاثينات،قالت إن أولادي جاءوا في زمن مبكر،تزوجت في السادسة عشرة،وها أنا معي ستة أكيرهم في الجامعة!يمكن في سنك أو أكبر){ص 145}.
حتى السيدة"سها"تزوجت في نفس السن تقريبا!!
تقول له"ثريا"و"فهد"طالب على كل حال وليس موظفا :
(احتفظت ببطاقة العمل خاصتك في صدري،صحيح أنني وضعتها في حقيبتي اليدوية،لكنني حين مشيت وابتعدت أخرجتها دون أن يتبنه أطفالي ووضعتها في صدري،هل أردت أن أخفيها عن زوجي وولدي الأكبر الذي يفتش حقيبتي وجوالي دائما){ص 161}.
أليس مريبا هذا الإلحاح على تذكير القارئ بأن(ثريا) أما؟!!
لمن لم يقرأ الرواية ..تزوجت (أم فهد) من عمه .. وهنا نجد الرواية تستعمل عبارة سيئة .. أتحرج من إيرادها ... تقول الرواية عن "فهد" (كان عمه يحرض أمه المغلوبة على أمرها،وربما كان ذلك مقابل "؟؟؟"آخر الليل ويمتعها){ص 111}.
في الحلقة القادمة .. نتحدث عن شيء آخر .. لا أعرف أنني قرأت قبل هذه الرواية،رواية ذكرتني بروايات أخرى .. نتحدث عن ذلك في الحلقة القادمة إذا أذن الله.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة