ماذا نفعل والى أين نذهب...بقلم آرا سوفاليان
لدي صديق تعود صداقتي له لأواسط السبعينات وكنا معاً في الجامعة وأفترقنا بعد ذلك وتزوج الرجل وسكن مدينة حلب وأهله في دمشق، توفي والده وبقي من تبقى من أهله في الشام ولأن الانسان لا يمكن ان يكون في مكانين معاً ولا في مدينتين معاً، فلقد كان يأتي الى دمشق ويعود الى حلب، خاصة وان والدته مريضة ولا يمكنها الانتقال الى حلب ولا تريد مغادرة بيتها في الشام...في كل مرة يتصل بي يكون السؤال الروتيني أين أنت فيقول لي في حلب أو في بيت أهلي في الشام...وفي هذه الأيام يكون الجواب عينه ولكن مع التبرير فيقول في حلب لأني لم اتمكن من السفر الى الشام أو يقول وصلت الى الشام ولكن بمعجزة...
واتصل منذ ثلاثة أيام وسألته نفس السؤال الروتيني وأجابني: وصلت الى الشام ولكن بمعجزة وذهبت لرؤيته ووصلت الى بيت أهله وبمعجزة أيضاً، وعلمت انه نسي شنطته السفرية في البولمان فلقد نزل في كراجات البولمان وصعد الى التكسي وفطن في ساحة العباسيين بأنه ترك شنطته في بطن البولمان وعندما عاد كان البولمان قد اختفى...قلت له: من أي شركة أخذت البولمان قال من شركة الهوب هوب وعلى الرصيف وصعدنا جميعاً بدون بطاقات لأننا انتظرنا سفينة نوح هذه ساعات طويلة حتى وصلت فصعدنا اليها زوج زوج بلا أي سؤال ولا أي جواب...ولا توجد طريقة أخرى للسفر من حلب الى دمشق غير هذه وعلى مسؤولية المسافر...وكان قد ارسل تنكتي زيت قبل سفره باسبوع ارسلهم من حلب الى دمشق، واتصل بالشركة الناقلة فتبين انه تم الاعتداء على الشاحنة الناقلة وتم اقتيادها من قبل مجهولين الى جهة مجهولة وطارت الشاحنة وفيها الزيت وفيها بضائع أخرى تقدر قيمتها بـ 25 مليون ليرة سورية...وصمت صديقي لأنه صاحب الخسارة الأقل في هذه الشاحنة وما حدث لها ولأصحاب الأشياء المنقولة فيها ولأصحابها الفعليين.
في أول يوم أخذته في جولة ضيقة بحسب ما تسمح به الحركة في الشوارع المتبقية وفي ذهني السؤال الآتي: لطالما ان 50% من شوارع دمشق هي خارج الخدمة والباقي هو 50% بمعنى ان 50% من رجال الشرطة الأشاوس هم في راحة والسؤال هو لماذا لا يتم احضارهم الى مناطق الازدحام المروعة ؟...مثلاً...في الشارع الذاهب من وكالة سانا والى الجمارك وذاك العائد من الجمارك الى الفحامة حيث يتولى الجيش تنظيم المرور؟؟؟!!!...وأيضاً في الشارع الذاهب من جرمانا الى منطقة جسر اللوزية وهو الجسر الوحيد الذي يقع بعد جرمانا بالنسبة للمغادرين،حيث تكون هناك سبعة ارتال للذاهبين الى جرمانا ورتل واحد للمغادرين ومع ذلك تعتدي سيارات الذاهبين على الرتل الوحيد المتبقي للمغادرين؟؟؟!!!
ويصل المغادر الى عقدة معمل بوظة أمية المخيفة بعد ساعتين ثم الى عقدة الباب الشرقي التي تحولت الى أعقد العقد الكشفية في العالم؟؟؟!!! أين ذهب الـ 50% من رجال الشرطة ولماذا لا يشاركون في تنظيم المرورفي هذه الأماكن المتبقية والتي تشهد فوضى مرورية مروعة؟؟؟!!!
وذهبنا لأكل الفول في محل ابو ياسر صعب فتبين أن ذلك صعب لأن ابو ياسر صعب لديه كل ما يمتّ بصِلة للفول ومتعلقاته ولكن علينا الوقوف في طابور الدور للحصول على ربطة خبز "راسو بعبو" من فرن المجتهد وكدنا نصرف النظر عن القضية كلها ولكن كنا لا نريد التخلي عن المغنم بعد ان قطعنا الشوط الأعظم في الانتظار...ودخلنا محل ابو ياسر صعب ومعنا المغنم وأكلنا صحني فول بلبن اكسترا وكان الحمّص بارد بسبب نفاد الغاز من جرة الفخّار التي تحوي الغاز، وعدم وجود جرة احتياطية لأن كل الجرار الاحتياطية موجودة في تل ماري الأثري، ومركونة لدى موزع الغاز المركون هو ايضاً في محله بإنتظار شاحنة الغاز التي لا تأتي.
وجولة مملة بالسيارة استهلكت نصف البنزين المتبقي في خزان السيارة وعدنا سالمين غانمين الى بيت الرجل في المزة اتستراد خلف السفارة الكندية "سفارة أمي".
برنامج اليوم الثاني كان الذهاب لشراء بعض الأغراض والوقوف في مكان آخر وعلى فرن آخر وفزنا بربطتي خبز بعد ساعة ونصف من الانتظار وشكرنا الله وحمدناه على نعمه لأنه جلّ جلاله ألهمنا أن نقف في صف الربطة الواحدة ففزنا كل واحد بربطة وألف لبطة، مع انتظار وقدره ساعة ونصف، ولو اننا ماشينا خصلة الطمع البشرية الموجودة في كل البشر، ووقفنا في صف الثلاثة ربطات لبقينا في طابور الدور حتى ساعة كتابة هذه المقالة... وجولة مملة بالسيارة استهلكت نصف البنزين المتبقي من جولة اليوم السابق في خزان السيارة وعدنا سالمين غانمين الى بيت الرجل في المزة حيث تم تسليم الأمانة والانطلاق للبحث عن كازية أو طرمبة بنزين كما يقول اخوتنا اللبنانيين.
واقترحت ان يكون برنامج اليوم الثالث حافل يتضمن دعوة على الفطور في منزلي العامر في جرمانا بمعية محل معجنات كوكو "مناقيش وشواكيش بزعتر ومناقيش بجبنة وبسبوسة مع 100 بوسة ومحمّرة بالقشقوان والفليفلة الحمراء ومنقوشة باباي بالسبانخ والبصل والسماق... فذهبت الى المزة لإحضار صديقي وتمّ لي ذلك وذهبت به الى منزلنا العامر في جرمانا ودخلنا الصالون نتلمس النافذة لنفتحها طمعاً في الحصول على القليل من ضوء الله تعالى الذي لا يحاسبنا أحد عليه ولا يقطعه من يرسله لنا منذ بدء الخليقة والى أن يرث صاحب هذا الضوء جلّ جلاله الأرض وما عليها...وفتحت النافذة فطارت الستارة الرقيقة التي لونها من لون لبّ ثمرة الكيوي وتلتها الستارة الثانية الثقيلة والتي لونها من لون اوراق شجرة السرو الصنوبرية وأحسست بأن الستارتين تهاجمان وجهي وتلى هذا الهجوم ضغط آخر قوي جداً كاد يرميني على مقاعد طقم الصالون...وبالطبع حدث تشويش في أجهزة السمع لديّ وركضت الى غرفة الأولاد...فكانوا بخير...قالت لي الصغيرة: هذا انفجار اليس كذلك يا أبي؟...قلت نعم...قالت الكبيرة هو قريب جداً أليس كذلك؟... قلت نعم وبدليل الضغط القوي...قالت الكبيرة: في جرمانا؟ قلت نعم...قالت شكراً لك يا بابا لأنك لم ترسلنا الى المدرسة...قلت: ولن ارسلكم يا أبي أبداً...قالت الصغيرة...هذا الانفجار رقم 20 ونحن لا نزال أحياء...ماذا تنتظر يا ابي حتى تخرجنا من هنا؟...هل ستخرجنا بعد ان نموت جميعاً؟ ... قلت لها أنتظر وبدون أمل... فيزا من أي دولة تقبل بنا وثمن اربعة بطاقات طائرة الى أي دولة تقبل بنا وبدل اقامة وآجار بيت في بلاد الهفى الواسعة التي قد تقبل بنا...وفرصة عمل مهما كانت تافهة، وقليل من المال ليعيننا في سياحتنا القسرية إن تمت حتى ولو كانت في غير وقتها!!! في هذه اللحظة لنصلي لله الذي نجانا...وانتم ادخلوا الى النيت لمعرفة مكان الانفجار...فجائني الجواب سريعاً...الأنترنيت يا أبي لا يعمل بدون كهرباء والبيض البلدي يحتاج لسمن عربي.
وعرفنا من المارّة أن الانفجار كان في مدخل جرمانا وفي شارع النهضة وقد تم وضع عبوتين ناسفتين في المنصّف بين شارع الاياب وشارع الذهاب وانفجرت الاولى وتلتها الثانية بعد عشر دقائق وكان الناس قد تعلموا الدرس حيث لم يركضوا ولم يتجمهروا في منطقة الانفجار فكان عدد الضحايا قليلاً.
قال لي صديقي بلهجته الحلبية: اشّو يا خيّو كنّي تاركين الله وعابدين دجرمانا... قلت له: يرحم والدك سيادة المستشار السابق ورئيس محكمة النقض السابق ووزير العدل السابق وطيب الله ثراه...نعم يا سيدي تاركين الله وعابدين جرمانا، وفي كل الأحوال يا سيدي فأنا لي مقالة تحت نفس العنوان وتتناول نفس الموضوع "التفجيرات" وعنوانها يا مولانا تاركين الله وعابدين جرمانا...وارجو ان تقبل مني ان أهمس في اذنك وعن اذنك العبارة الآتية: لقد علقت عندنا هنا في جرمانا حتى يتم فتح الطريق من جديد.
وارتعدت فرائصي عندما سألني صديقي: وأين يقع حيّ النهضة هذا...فلم أجب على سؤاله وعندما أعاد السؤال قلت له: في مدخل مدينة جرمانا أي في النقطة التي كنا فيها أنا وانت وسيارتنا البيضاء البريئة منذ خمسة دقائق...وذهبت السكرة وجاءت الفكرة...طريق العودة الوحيد يمرّ من النهضة، ولا توجد نهضة في النهضة لأنه تم قطع الشارع المزدوج ذهاب واياب وتوقفت حركة السيارات نهائياً...وسألت نفسي هل كان اليوم يومنا انا وصديقي...وكان الجواب: لقد كنا نبعد عن سيدنا عزرائيل وعصاه التي في آخرها شفرة منجل كنا نبعد 5 دقائق لا غير...وركضت الى الهاتف فلقد تذكرت ان البيت الذي استأجرته أختي وأولادها بناءً على نصيحتي، يقع في حي النهضة وخفت ان اكون المتسبب في شيء لا أعرف ان كان قد وقع أم لم يقع وكدت أفقد عقلي في أجزاء من الثانية فلقد وصلت الى الهاتف وانا لا أعرف الرقم...ورن جرس الهاتف وكانت ابنة أختي على الهاتف قلت لها: آسف خالو كان عليّ ان اتصل بكم... قالت: نحن بخير يا خالو والتفجير على الشارع الرئيسي ونحن في الحارة... فقط كدنا نموت من الرعب....قلت لها: هل هناك ضحايا؟...قالت: من شرفتنا أرى المدرسة وهناك اطفال يقفزون من سور المدرسة بإتجاه الشارع ويهربون بطريقة هستيرية لا يلوون على شيء!!! .
اليوم هو 12 12 2012 وقال جماعة الفلك ان هناك اشياء جميلة ستحدث...فضّ الله افواهكم جميعاً...تفجيرين في جرمانا وثلاثة في كفرسوسة خلف وازارة الداخلية واثنان خلف القصر العدلي في دمشق وواحد في المزة 86 وماذا بعد ذلك...ماذا نفعل والى أين نذهب؟؟؟ وقد وضعنا العراق وشعب العراق في نصف الطريق....وبابا روما يقول لنا في خطبته العصماء من بيروت" ابقوا في الشرق ولا تغادروا" طيب يا مولانا "الله يخليلنا ياك...تعال جرب ان تبقى يوم واحد هنا في الشرق وفي جرمانا بالتحديد وهي من دول الشرق... واترك روما ثم أعطينا رأيك؟؟؟!!!
كان ابو النواس يقول في رائيته الشهيرة (اليوم خمر ـ وغداً أمر) وتمنيت ان أستحلف ابو النواس بنواسه وبكل النواويس التي في العالم...وأسأله: ما رأيك يا ابا النواس اذا سارت الأحوال في جرمانا على ان يكون في كل يوم مئة أمر ولا وجود للخمر؟؟؟ ...وجوابه سيكون معروفاً وهو عبارة "لا حول ولا قوة إلا بالله"
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 12 12 2012
arasouvalian@gmail.com