أزمة التصنيف
لو أننا تحرينا كلمة مناقشة أو حوار بين متخصصين فى مجال معين , لوجدنا تعريفها يختلف عن التعريف الذى يعبر عن الحوار بين غير المتخصصين
وهذا أمر طبيعى ,
فالمتخصصون عندما يطرحون قضية للبحث أو النقاش يقومون بطرح معضلة أو مشكلة حادثة غير معالجة فى التخصص , لابد لهم فى البداية ـ بشكل تلقائي ـ أن يكونوا ملمين إلماما تاما بقول السابقين أو الأعلام فى هذا التخصص ..
لأنه من غير المنطقي أن يتصدى علماء الفيزياء مثلا لقضية إمكانية شطر ذرة اليورانيوم فيخضعونها للنقاش وهى مسألة محسومة منذ الأربعينات بظهور نتائج الأبحاث والتجارب فيها
أما غير المتخصصين فيمكنهم طرح الأمور جميعا للنقاش لكن عليهم فى تلك اللحظة أن يجتهدوا بالبحث خلف نتائج العلم أو التخصص لكى لا يضيعوا الوقت فى أمر هو محسوم سلفا
ومن وقائع الأزمة العارمة للمثقفين عامة فى عصرنا الحالى تظهر مشكلة الكسل فى عدم المطالعة والبحث , وتلقي بظلالها على العديد من القضايا التى تثار للنقاش وكأنها مطروحة للبحث لأول مرة وكأن متخصصو تلك المجالات ما قالوا فيها حرفا واحدا ,
رأينا هذا كثيرا فى بعض الشبهات العلمانية المثارة حاليا ولا تزال تطرح للنقاش والرد ينما هى فى بطون الكتب منذ قرون ولو أن أحدا كلف نفسه بالبحث فيها لوجدها بنتائجها وبمنتهى البساطة
مثلا قضية الأحاديث التى تنكرها العقول مثل حديث فقأ عين ملك الموت وحديث رضاع الكبير وغيرها من الشبهات المثارة ليل نهار على الفضائيات , ويتم تكرار الحديث فيها بالرغم من أنها فى مجموعها تمت معالجتها وتفسيرها منذ أحد عشر قرنا كاملة فى عدة مؤلفات مثل تأويل مختلف الحديث لبن قتيبة الذى وضعه فى نهاية القرن الثالث الهجرى
والأمر يدعو للدهشة والتساؤل هل فرغت القضايا المعاصرة من بين أيدينا لكى نلتفت للقضايا السابقة المحلولة من الأصل!
وإن عبر هذا عن شيئ فإنما يعبر عن الإفلاس الفكرى الساحق لدى المتهجمين على الأصول فى سائر المجالات وربما كان التهجم على علماء الشريعة ومجالاتها هو الأكثر طرحا باعتبارها البوابة الكبري للإسلام وحضارته
إلا أن هذا لم يقتصر على الشريعة بل تعداها كما سبق القول إلى الآداب العربية وتاريخها باعتبارها أيضا بوابة أصيلة فى حضارة الإسلام ,
ولأن الهجمة راقت للمدعين فقد انضموا إلى زمرة الهجوم إما عن جهل وإما عن قصد نظرا لإختلاف الهدف , ولو أننا تأملنا النصف الأول من القرن العشرين الذى حمل الصحوة الأدبية العملاقة اعتمادا على الأصول لوجدنا السبب الذى دعا بوجود جمهور لهذه الإتجاهات ألا هو الرغبة فى اكتساب وصف الأديب بدون أرضية حقيقية لا من موهبة ولا من ثقافة
واتفقت تلك التيارات على إختلاف أنواعها فى تفاهة المضمون إلى جانب الإستيراد الكامل للفكرة من الغرب , وضربت هذه المذاهب سائر الآداب والفنون ففي الآداب ظهر الإتجاه المسمى بالحداثي ومذهب اللامعقول وفى الفكر والفلسفة ظهرت الوجودية والعلمانية وفى الفنون ظهرت الإتجاهات التشكيلية المفتعلة المسماه بالسريالية
وقد عبر المفكرون المعاصرون الكبار عن الأزمة , ففي رده على سؤال حول مذهب اللامعقول قال عباس العقاد ساخرا
{ وماذا تريدون منى تعبيرا عنه أكثر من اسمه .. مذهب اللامعقول }
كما عبر المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري عن أزمة العقل الأوربي فى الفكر وأثر نيتشه فى تخريبه بالعبور من زمن الحداثة والعقلية البحتة إلى اللامعقول أيضا وهى كارثة استيقظ الأوربيون مؤخرا عليها وظهر اتجاه عارم بالعودة للأصول الإنسانية
أما فى بلادنا حيث يقبع المتكلمون فالأمر يختلف , لأنهم وهم يدافعون ويدعون لتلك المذاهب باعتبارها وجها حضاريا غربيا لم يلفتوا أن حتى يطالعوا ما وصلت إليه أوربا من صحوة معاصرة تدعو بالعودة إلى ما قبل عصر المادة
أى أنهم لم يقتصروا فى إهمالهم المطالعة على التراث العربي وهو تراثهم الأصلي والجهل به كارثة , بل تجاوزا إلى ما هو أفدح بالوصول بالجهل إلى المذاهب الغربية التى يدافعون عنها !
كذلك بالنسبة لإهمالهم للتراث الأدبي العربي الذى يمثل القاعدة التى تستند إليها الآداب والفنون فى مسيرة أية حضارة , لم يقتصروا على مجال التراث العربي القديم بل امتد الأمر إلى التراث المعاصر فى صحوة الآداب فى مطلع القرن العشرين وحتى نهاية شطره الأول على نحو يدفعنا للتساؤل بحق ..
هل قضية التصنيفات الأدبية تعد قضية مطروحة للنقاش على اعتبار أنها قضية غير ثابتة تحتاج البناء ؟!
فأين المنادون بذلك من التصنيفات الموجودة والتى أثمرتها الصحوة الأخيرة بالحفاظ على الأصول القديمة وتقسيماتها وإضافة الأغراض المختلفة التى واكبت العصر
فقديما كانت التصنيفات الأدبية تتعدد بين الشعر والنثر ,
وتم تقسيم الشعر إلى أنواع بحسب الغرض والمناسبة وتقسيم النثر بين مختلف فنونه المعروفة من الجاهلية حتى العصر العباسي إلى الخطب والتوقيعات والمقامات وهى كلها أغراض كانت تناسب عصر البيان والفصاحة واللسان حيث أن عصر الكتابة لم يبدأ إلا فى القرن الثالث
وجاءت الصحوة الأدبية فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فى عصر الكتابة المحضة معبرة عن دواعى العصر على يد البارودى وشوقي وحافظ فى الشعر وعلى يد محمود تيمور ومحمد حسين هيكل فى الرواية والقصة باعتبارهما التطور الطبيعى لفن المقامات
أى أن التطوير قد حدث فعلا واستقرت التصنيفات تبعا لحاجة العصر على يد أعلامه ولكن فى نفس إطار القواعد الأساسية فكان التطور الطبيعى فى الشعر مع ظهور القصيدة ذات الغرض الواحد , مخالفة بذلك المنهج القديم فى القصيدة متعددة الغرض كما ظهرت القصائد متعددة القافية خلافا للمنهج القديم فى وحدة القافية وظهر المسرح الشعرى متعدد الأوزان والقوافي , وكان هذا التطوير تعبيرا حقيقيا عن ضعف المستوى أولا نظرا لانتهاء عصر الثروة اللغوية الجامعة وثانيا كان تعبيرا عن متطلبات العصر وفنونه
وفى النثر ونظرا لأن العصر أصبح عصر الكتابة والتعبير المباشر عن الهدف فى بعد نسبي عن المحسنات البلاغية التى تمثل منهجا أساسيا فى القديم ظهرت الرواية والقصة والمقال كبديل طبيعى لفن التوقيعات وفن المقامات
هذه التقسيمات التى لم تمس الأصل الثابت فى التفرقة بين الشعر والنثر من حيث أن الفارق الرئيسي بينهما هو موسيقا الوزن والعروض بل قامت بالتجديد فى المحتوى لا أكثر
وفى ظل هذه التقسيمات التى حددها النقاد كيف يمكننا أن نتساءل اليوم عن معيار التفرقة بين الشعر والنثر أو بين القصة والرواية ؟!
وهل كان يمكن لمثل هذا السؤال أن يظهر لولا ظهور المذاهب الجديدة التى أسست لعالم الفوضي فتاه النص بين مختلف الأغراض نظرا لعدم وجود الوزن فى شعر النثر كما أطلقوا عليه ..
وإذا كان التصوير البلاغى والتشبيه والمحسنات البديعية كلها فنون مشتركة بين سائر أغراض الأدب كيف يمكننا أن نفرق فى غياب الوزن بين الشعر والنثر , وإذا الفارق الرئيسي بين القصة والرواية وبين المقال هو الحبكة الدرامية والخيال والشخصيات كيف يمكننا أن نفرق بينهما فى ظل هدم هذا الفارق
وإذا كان الفارق الرئيسي بين القصة والرواية هو اتسام القصة بالتكثيف والتركيز والفكرة الواحدة التى تعالجها القصة بينما الرواية تتسم بالتعدد فى الأفكار والأحداث , كيف يمكننا التفرقة بينهما إذا تم هدم هذا الفارق
أزمة الرمزية
عندما خرج للعالم النتاج المبدع فى مجال الرسم والتصوير والنحت , وقف العالم مدهوشا أمام الموناليزا ولوحة العشاء الأخير لدافنشي وأمام سقف كنيسة سكتستين لمايكل أنجلو وأمام زهرة الخشخاش لفان جوخ وأمام تمثال نهضة مصر لمحمود مختار
حيث كانت الصورة لها التفاصيل التى تعبر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن أهداف يريدها الفنان أن تصل لجمهوره , ويكون هذا الوصول بطبيعة الحال نسبيا حسب إدراك كل فرد ..
إلا أن القاعدة العامة تقول أن الجمهور كله لا شك أنه يصل لبعض ما يريد الفنان وهناك فئة خاصة مؤهلة لإدراك ما خلف الألوان وكل ما أراد الفنان توصيله من رسالة ..
ثم جاءت المذاهب السريالية والتجريدية على أيدى فنانين كبار مثل مايكل أنجلو وسلفادور دالى تدعو لفن جديد يخلو من الصورة المفهومة أو الصورة ذات الغموض المحمود بل دعت إلى غموض مطلق وإلى اختصار الرسومات المعروفة إلى خطوط مجردة وأشكال تكعيبية تعبر عن الإنسان مثلا بخط واحد مرسوم !
ولم يدرك هؤلاء الفنانون الكبار أن سعيهم هذا باعتباره تطويرا طبيعيا للفن , سيؤدى إلى دخول غير أهل الفن للفن من المدعين ما دامت العملية أصبحت مبسوطة أمامهم بيسر وسهولة ولا تتطلب البراعة المشهودة التى يطلبها النقاد والجمهور فى الفنان وبهذا الشكل تساوت الرءوس لما انهدمت الضوابط
فقد فات الفنانين الكبار أن ما دعوا إليه مخلصين للتطوير أن هذا الأمر هدم الإثبات الطبيعى المطلوب من الفنان بأصابعه فلم يعد أحد يدرى أن قطعة الرسم المتشابكة الألوان والخطوط ,
هل هى لوحة فنية بالفعل لها هدف ومعنى , أم أنها مجرد روث لونى وجنين مشوه الملامح يقف النقاد أمامه عاجزون عن نقده نظرا لأن القواعد المطلوبة لإثبات الفن من عدمه تم هدمها
وأصبح الغموض والرمزية هو الشيئ الأصيل وليس مجرد وسيلة وخلفه تحصن المدعون إذا جابهتهم أسئلة النقاد باتهامات انعدام الموهبة فيكون الرد جاهزا بأنه فن بلغ من الرقي حد عدم الفهم .. حتى للمتخصصين !!
وضاعت الرسالة الحقيقية للفن التصويري باعتباره لون من الفنون التى تهدف أصلا لتوصيل رسالة معينة إلى الجمهور بكل شرائحه أو لشرائح معينة منه على الأقل
نفس الأمر حدث فى الآداب العربية
فعندما قامت المدرسة الجديدة أو مدرسة التفعيلة تدعو للتخلص من قيود القافية , كانت تقوم وفى ذهنها طريقة الشعر الغربي واستنبطوا مبادئ المدرسة من نظريات الشاعر الأمريكى توماس ستيرن إليوت والتى نقلها زعماء المدرسة وهم شعراء أعلام وعربوها لفتح آفاق جديدة للشعر
فلم ينتبهوا لما حذر منه كبار النقاد مثل عباس العقاد وطه حسين من هذا الإدخال المرفوض ليس لأن شكل قصيدة التفعيلة يضاد أصالة القصيدة العربية العمودية فحسب بل لأنه إدخال غير مبرر أصلا
فكيف يمكن اعتبار الشكل العمودى مثيرا للقيود والتقيد لا سيما فى ظل تنوع القافية الذى لم يعارضه النقاد الكلاسيكيون لكنهم وضعوه فى صورته الحقيقية
فالتنوع فى القافية وأيضا مذهب المدرسة الجديدة فى إهمال القافية والاكتفاء بالوزن لم يخرج حقيقية بهدف التطوير بل بهدف الضعف والهروب من عدم القدرة على الإلتزام بقافية موحدة لأبيات طويلة وتكون مؤدية للمعنى وليست مختلقة
واحتج القائلون بهذا النهج بأن القافية الموحدة أو الشكل الموحد لا يستوعبهم ولا يستوعب قضايا العصر كما أن وحدة القافية تبعث على الملل !!
وهذا كله كما سبق القول أسباب مختلقة وليست حقيقية لأن اعتبار القافية مثيرة للملل يدفعنا ـ طبقا لهذا المنهج ـ أن نقول بأن الصورة الشعرية الموحدة فى قصيدة كاملة مثيرة للملل أيضا , وأن الفصحى البليغة على استمرار القصيدة كذلك !
وهى مبررات تبدو غاية فى التسطيح لا سيما القول بأن الشكل العمودى لا يستوعب الشعر السياسي مثلا أو القضايا المعاصرة وهو كلام يبدو ملغزا وغير مفهوم , فلم يوضح القائلون بذلك هل سيعترض الشكل العمودى ويرفع راية العصيان إذا حاولوا كتابة ها اللون من الشعر ؟!
وبم نفسر عمالقة القصيد الذين أبدعوا مئات القصائد السياسية والمعاصرة فى شكلها العمودى وخرجت قمة فى الإبداع والتكامل وكانت قصائد طوال وعلى قافية موحدة ووزن واحد وعمود شعري متين مثل رسالة فى ليلة التنفيذ لهاشم الرفاعى وكبار الحوادث فى وادى النيل وهى معلقة بلغت أبياتها العشرات وليس فيها روى واحد ليس فى مكانه أو كلمة قافية واحدة مختلة الترابط بما قبلها
وقس على هذا شعر البارودى ومطران بل وقصائد نزار قبانى الذى يعد أهم أعلام المدرسة الجديدة فقد بدأ بالشعر العمودى فى أول دواوينه واستمر يكتبها ويصوغ القصائد العمودية التى تزيد على أربعين بيتا بقافية موحدة ومن أشهر شعره السياسي فى هذا المجال كانت قصيدة { يا تونس الخضراء جئتك عاشقا }
وكان أهم ما أخرجه النقاد الكبار فى نقدهم العنيف لاتجاه المدرسة الجديدة فى مطلع القرن العشرين أن اقتباس هذا المنهج الغربي فى الشعر هو للغرب أمر لا مفر منه كما يقول الناقد والشاعر العتيد أحمد زكى أبو شادى حيث أوضح أن مفردات اللغات اللاتينية لا تحتمل مطلب القافية الموحدة أو حتى المقاطع الموحدة نظرا لفقرها الشديد
وهذا أمر طبيعى فعدد مفردات اللغة الإنجليزية لا تزيد عن خمسة آلاف مفردة وتعبير بينما اللغة العربية بقماشتها العريضة تحمل ثراء غير مدرك حتى لعمالقتها فى الزمن القديم
فما يمكن تكوينه من الكلمات المفردة ـ بغض النظر عن المعانى المختلفة للكلمة الواحدة ـ يبلغ أثنتا عشرة مليونا من الكلمات لا نستخدم منها منذ مطلع التراث العربي العباسي إلا مائة ألف مفردة فقط هم مادة أكبر القواميس العربية وهو لسان العرب لبن منظور , فإذا كان هذا هو حال عهد بن منظور فكيف بنا نحن اليوم
وليس هذا معناه أن مدرسة التفعيلة لا تعتبر مدرسة شعرية أصيلة , بل القصد أنها مدرسة حافظت على الفارق الرئيسي بين الشعر والنثر ولكنها كسرت حاجزا شكليا يغري بكسر حواجز أخرى أصلية فيما بعد
وصدقت توقعات النقاد الذين حذروا كبار الشعراء المنادين بالتوجه الجديد من أنهم بهذا يفتحون الباب أمام المدعين لهدم الشعر قلبا وقالبا ,
وقام بالفعل أعلام المدرسة الجديدة أنفسهم بالتصدى للتطور الطبيعى للخطوة السابقة ألا وهو اتجاه قصيدة النثر الذى جاء حاملا معه معاول هدم غير مسبوقة نزعت عن الشعر أى معنى حقيقي
وكانت معاول الهدم فى عنصرين رئيسيين ,
الأول :
أنهم اعتمدوا الغموض المطلق فى التعبير كأداة للكتابة واحتجوا بها أمام كل نقد فخرجت الأعمال التى نراها منشورة فى الصحف والدوريات خالية الوزن والقافية فقيرة التشبيه مسفة المعانى , ومع ذلك لا يملك النقاد أو حتى الجمهور أمامها حلا ولا ردا نظرا لوجود الدفاع بالرمزية وأن القصائد إنما تشير لأشياء لا يفهمها الناس
ولسنا ندرى فى الواقع أى شعر هذا الذى يؤدى دورا ولا يستطيع فهمه إلا قائله , هذا لو أنه يفهمه فعلا
وهم بهذا ليتهم هدموا الشعر وحده , بل هدموا معنى البلاغة والفصاحة فى اللغة العربية والتى اعتمد نقادها عبر العصور على معيار الوصول بالرسالة كأساس لنجاح الشاعر من عدمه
وتحفل كتب التراث الأدبي الراقي بنوع من النقد هو الأهم فيما يؤخذ على الشاعر ألا وهو الغموض الكثيف والذى عده النقاد من أمثال بن عبد ربه فى العقد الفريد والأصفهانى فى الأغانى والأصمعى .. أحد أوجه النقص الشديد فى الشاعر
لأن الشعر فن وسطى لا يحتمل التطرف , فلا يجب أن يكون الشاعر خالي التورية أو الغموض نهائيا فى شعره بنفس القدر الذى يجب عليه ألا يستسلم لمعاول الغموض المطلق على نحو يغرق فيه النص
ثانيا :
بالإضافة للكارثة الكبري وهى انعدام القدرة على تحديد وتميز الشعر عن النثر بعد هدم الفارق الرئيسي وهو الوزن وهو فارق الموسيقا الأصلية التى ميزت الشعر باعتباره إنشادا , وتحفل كتب التراث بكلمة { أنشدنا شعرا } فى دلالة على معيار الفارق الأصلي بين الشعر والنثر
ولم يستطع أهل المدرسة النثرية أن يقدموا لنا معيارا واحدا جديا نستطيع التفرقة به بين النص الشعري والنثري حتى أن أحد أصحاب هذا الإتجاه فى رده على سؤال منى بإحدى الندوات كيف يمكننا التفرقة واعتبار ما تقوله شعرا ما دام الوزن منتفيا لا سيما وأن التصوير والبلاغة والتعبير أمور تتفق بين الشعر والنثر , فقال أن الموسيقا فى نص قصيدة النثر موسيقا داخلية يحسها القارئ ,
ولم أتمالك نفسي من الإبتسام !
وأورد هنا نصا واحدا يدلل على هذا الإنفراط النثري العنيف ونترك الحكم للقارئ ماذا فهم منه بل أتحدى أن يحدد أى قارئ نوع النص هل هو سياسي أم اجتماعى أم ماذا بالضبط ؟!
قبورنا معتمةٌ على الرابيةوالليل يتساقط في الوادييسير بين الثلوج والخنادقوأبي يعود قتيلاً على جواده الذهبيومن صدره الهزيلينتفض سعال الغاباتوحفيف العجلات المحطمةوالأنين التائه بين الصخورينشد أغنية جديدة للرجل الضائعللأطفال الشقر والقطيع الميت على الضفة الحجريةأيتها الجبال المكسوة بالثلوج والحجارةأيها النهر الذي يرافق أبي في غربتهدعوني أنطفيء كشمعة أمام الريحأتألم كالماء حول السفينةفالألم يبسط جناحه الخائنوالموت المعلق في خاصرة الجواديلج صدري كنظرة الفتاة المراهقة
ماذا جنينا من شعر الحداثة
لقد امتد التأثير السلبي لهذا التوجه من مضمار الأدب إلى مضمار الحياة العامة حيث تميزت المدرسة النثرية بمزية غريبة للغاية فى الأفكار المتناولة تحتك احتكاكا عنيفا بالقيم والأخلاق بل والعقائد , تحت مسمى الحرية وهذا يقودنا فى سهولة إلى أصل الإتجاه ذاته وكيف أنه اتجاه لا يمت للحضارة العربية بصلة بل هو وافد غربي وبأهداف غربية يؤديها المدعون بإدراك أو بدون إدراك
وإلا كيف يمكننا تفسير أن اللون السائد للكتابة فى مجال شعر النثر هو الإباحية الممقوتة التى تعدت درجة الهذيان إلى درجة الإنحلال فى إصرارهم على مهاجمة الثوابت الدينية وتناولها بأسلوب لا يليق ومكانتها وقداستها وفى تشبيهات لا علاقة لها بالمضمون غير المفهوم أصلا
ولهذا كثيرا ما نجد شعراء الحداثة يطلقون على مقاطع قصائدهم مسميات مثل " الإصحاح الأول " و " الإصحاح الأخير " ومن المعروف بالطبع أن مسمي الإصحاح هو مسمى فصول التوراة والإنجيل
وهذا يجعلنا نخمن الخطوة القادمة أن يسمى بعضهم مقاطعه بالآيات وهو ما حدث بالفعل فى مصر عام 2000 م عندما أصدرا وزارة الثقافة ـ التى تعد وكر الحداثيين بكل مطبوعاتها ــ ديوانا شاعرا فاجرا لحسن طلب يحمل اسم " الآية جيم " يقول فى مقدمته
" أنه رأى ظلما بينا وقع على حرف الجيم عندما استثناه الله تعالى فى القرآن فلم يورده فى الحروف المقطعة الواردة أول السور ومن ثم فقد قرر رد اعتبار الجيم بصياغة هذا الديوان"
وبتقليب الصفحات نكتشف أن الشاعر أورد نصوصه مكتوبة على هيئة آيات القرآن بالتشكيل والشكل المعروف لآياته ويحمل مدحا للحرف جيم
وهذا فضلا على كونه خرفا لا يصدر إلا عن مختل عقليا , يثبت بإثبات قاطع أن التوجه الأصلي لهذا الإتجاه هو السعى للشذوذ وليس للتفرد بالإضافة لانعدام الهدف والرسالة وسوء المقصد الذى لا يمكن إهماله فى شيوعية النصوص الموجودة وتعرضها لكل ثابت خلقي أو دينى فى هدف لا يمكن أن نعزيه للمصادفة
ونفس التوجهات التى ضربت الشعر ضربت فنون النثر فى القصة والرواية فرأينا التوجه ذاته يعصف بمعنى الرواية القائمة على الأحداث لتخرج الرواية الحداثية تحمل كلمات وفصول لا يربط بين بعضها البعض رابط إلا اسم الكاتب
وها هى ذى مدرسة النثر الشعري منتشرة منذ عشرين عاما على الأقل , واستولت على مختلف أنواع الدعم الثقافي لتطرد المواهب الحقيقية وتحتل أماكنها ليصبح الأدباء بعدهم وتحت تأثيرهم كائنا منبوذا منحلا بعد التجاوزات الغير مسبوقة فى النصوص أو حتى فى التعاملات الشخصية والمظهر العام
وكان من أبلغ الردود التى قرأتها على هذا الشذوذ رد أحد رؤساء تحرير الصحف الأدبية السعودية على سؤال لإحدى المذيعات تقول فيه { هل تنشر بمجلتك الشعر النثري }
فأدار رئيس التحرير وجهه قائلا { أستغفر الله }
ولست أدرى حقيقة متى يظهر البارودى الجديد الذى يحمل راية مدرسة الإحياء الجديدة لتعيد للشعر والأدب طاقته ويفتح الباب أمام المواهب الأصيلة القادرة ,,