رانيا بجوار أمها تحت التراب...بقلم آرا سوفاليان
كنت قد كتبت بالأمس على صفحتي في الفيس بوك النعي الآتي: ستقام مراسم الوداع الكبير لفقيدة مدرسة الرسالة الخاصة وكنيسة الأرمن الأرثوذوكس الشهيدة "رانيا خنوف مخملجيان"
التي قضت ضحية الغدر والارهاب في تفجير حي الروضة في جرمانا بتاريخ 29 10 2012وسيسجى جثمانها الطاهر في كنيسة الأرمن الأرثوذوكس الكائنة في منطقة الباب الشرقي لمدينة دمشق ظهر اليوم الثلاثاء 30 10 2012 حيث سيتم إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على نعشها من قبل طلابها وستبدأ صلاة الجنازة في تمام الساعة 12 للشهيدة الرحمة
وقبل الذهاب إلى الكنيسة نظرت إلى النعي وأعدت قراءة عبارة (مراسم الوداع الكبير) عدة مرات، وتوقفت عند كلمة الكبير وحدقت بها ملياً وكدت أن امحوها مكتفياً بعبارة مراسم الوداع لا غير...ولكنني تركتها على حالها وذهبت إلى الكنيسة.
وضعت سيارتي بين باصات المدارس المتوقفة ومشيت مجتازاً الباب الشرقي لمدينة دمشق ودخلت المدينة ومشيت بضعة أمتار ومررت وحيداً بجانب اللوحة السياحية، التي لا يقف في مواجهتها أحد بعكس الأيام الماضية حيث كانت بعض مجموعات السياح تسد طريق الوصول اليها فسبحان مغيرّ الأحوال.
وكانت زوجتي قد سبقتني إلى الكنيسة، وقرأت اوراق النعي على باب الكنيسة ودخلت في الحشد وتذكرت عبارة (مراسم الوداع الكبير) وشكرت الله لأني تركتها على حالها...الكبير نعم لأن الأرمن أوفياء...الأرمن هم الملّة الوفية الصادقة...وهذه شهادة أعدائنا الأتراك فينا...فإذا كان الحشد في باحة الكنيسة على هذه الشاكلة...فماذا الذي في الكنيسة؟
في الباحة وقفت سيارة الجنازة السوداء الفارغة بعد ان ذهب الناس بمحتواها إلى داخل الكنيسة وخلف السيارة صلبان ضخمة من الورود البيضاء تتضمن عبارات مبكية من الأب والأولاد والأخوات والأقرباء وفي الباحة تتحلق مجموعات من الشبان والفتيات بلباس الحداد وكلهم من طلاب الآنسة رانيا ومن أعمار مختلفة وبعضهم من طلبة الجامعات جمعهم الوفاء ووحدهم، في هذا المكان حيث تعلموا أولى حروف الأبجدية في مدرستهم الرسالة ولعبوا مع الآنسة رانيا في هذه الباحة حيث يقفون.
ودخلت الكنيسة وأنا أعرف أنني لن أعثر على مقعد فارغ ووقفت خلف النعش الأبيض ووجهي إلى الهيكل أقرأ الصلاة الربانية التي علمنا ايها سيدنا يسوع المسيح وانا لا أحفظ غيرها...النساء حول النعش وزوجتي معهم وموقف يفطر نياط القلوب...كل الأهالي وبعض النساء والكادر التعليمي في الداخل والطلاب وبعض المشيعين في الخارج...وسمعت قرع جرس الجنازة فدخل من استطاع الدخول إلى الكنيسة وتوقف الآخرون لأنه لم يعد بالإمكان دخول أحد.
وأفسح لي من أفسح فوقفت إلى جوار السيد هاكوب دير فارتانيان مدير المدرسة واستدار الجميع إلى مركز الدائرة حيث نعش الشهيدة رانيا خنوف مخملجان ووقف السيد سركيس مخملجيان وولديه جاك وفيكتور في جهة رأس الشهيدة المسجاة وبدأت صلاة الجنازة بحسب الطقس الأرمني الأرثوذوكسي وتولى خدمة الهيكل الآباء الأجلاء درتاد كيريجيان وآبكار كاهكيجيان وهاياري تاناشيان ...وكانت هناك لفته كريمة من الآباء الأجلاء بأداء جزء من صلاة الجنازة باللغة العربية إكراماً للفقيدة وأهلها آل خنوف وهم من رعايا بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس أصحاب القسطنطينية وبين الأرمن وهؤلاء الكرام وحدة واتحاد وحب في الكنيسة والمسيح.
ومثلت الكادر التعليمي السيدة المديرة المنتدبة فداء العطوان فأبنت الفقيدة الشهيدة بما يلي:
يا رب ...لتكن مشيئتك..."طوبى للودعاء فإنهم يرحمون"
السادة الآباء الأجلاء أيها الإخوة والأخوات ...يا أبناء هذا البلد الطيب.
قدرٌ صعبٌ كُتب على هذا الوطن الآمن، الذي يضمَ المواطنين من مختلف أطيافهم وانتماءاتهم،وهو أن تعصفَ به العواصف التي لا تبقي ولا تذر.
بالأمس، وفي جرمانا، الضاحية الوادعة، حدث انفجارٌ رهيب، سقط على أثره الكثير من الضحايا والمصابين، وكان لمدرستنا نصيب إذ أصاب عزيزة على قلوبنا هي الآنسة رانيا خنوف، كلكم تعرفون هذه السيدة التي تعمل في المدرسة منذ أكثر من عشرون عاماً تنشر المودة والألفة أينما ذهبت وأينما حلّتْ، كانت مثالاً للتضحية والتفاني والحب والعطاء، وكانت دمثة الأخلاق، حلوة المعشر.
وسنظل نفتقدك يا رانيا، وسنظل نذكرك دائماً بقلوب مفعمة بالحب والوفاء لذكراك الطيبة.
أيها المشيعون الكرام.
علّمنا السيد المسيح كيف نبذل أنفسنا فداءً عن الآخرين وكان لنا المثال الأول على الشهادة، وكل شهيد يسقط اليوم إنما يبذل دمه فداءً عن جميع مواطني هذا البلد الحبيب على قلوبنا، فهذه الدماء لن تذهب سدى.
أيتها الفقيدة العزيزة رانيا، نعاهدكِ على مواصلة الطريق ومتابعة المسيرة فنحن بناة أجيال، وهذه الفاجعة ستزيدنا إصراراً على مواصلة المسيرة ولا تقف في وجهنا أية عوائق.
باسمي وباسم جميع العاملين في ثانويتنا الرسالة من إداريين ومعلمين وطلاب، أتقدم من ذوي الفقيدة الغالية ومن المشيعين الكرام بأحرّ التعازي القلبية، راجية للفقيدة الرحمة، ولكم طول العمر ولسورية الغالية الطمأنينة والأمان.
وحمل النعش الأبيض من حمله وأدخل في السيارة وذهبنا إلى مقبرة الروم الأرثوذكس وتم الدفن، وفي طريق العودة كنت أتحدث مع الأب آبكار كاهكيجيان فسألته عن سبب الدفن في مدفن الروم الأرثوذكس بدلاً من مدفن الأرمن لأن زوجها أرمني والمرأة بحسب الكنيسة تتبع زوجها فأجابني: كانت رانيا رحمها الله تردد أمام أهلها وأولادها وإخوتها العبارة الآتية: إن حدث لي شيء ادفنوني إلى جانب أمي. وقد نفذنا وصيتها كما أرادت...وهذا آخر درس في الحب والوفاء.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 30 10 2012
arasouvalian@gmail.com