"ابن رشد" المسلم و"ابن ميمون" اليهودي..
هل يظهران في "فلسطين" كما ظهرا في الأندلس"؟!
في فيلم وثائقي عنوانه "قرطبة والتعايش المفقود"، بُثَّ على قناة "الجزيرة الوثائقية"، حول ثقافة التسامح في الأندلس تحت حكم المسلمين، لفتت انتباهي عباراتان وردتا في الفيلم..
إحداهما لكاتبة إسبانية قالت في كتابها الأكثر مبيعا كما تمَّ وصفه، وهو حول ثقافة التسامح المشار إليها:
"إن التسامح بين المسلمين والمسيحيين واليهود في الأندلس لم يكن سياسة، بل كان ثقافة، لذلك استطاعت الأندلس أن تعيش على عبقرية اثنين من أبنائها يعتبران من أهم الشخصيات التي عرفها التاريخ، هما ابن رشد المسلم، وابن ميمون اليهودي"..
والثانية لواحد من مثقفي يهود إسبانيا المعاصرين، قال فيها وهو يحاول إجراء مقارنة بين نجاح المسلمين واليهود في التعايش على أساس التسامح في الأندلس، وعجزهم عن ذلك في فلسطين اليوم:
"إن المسلمين واليهود في فلسطين يحتاجون اليوم إلى ابن رشد المسلم وابن ميمون اليهودي"..
وأمام هاتين العبارتين المهمتين اللتين تُخفيان في جوفهما الكثير، وجدتُني مدفوعا إلى التأكيد على ما يلي..
لم يلتقط "اليهودي الإسباني" جوهر الفكرة العظيمة التي أسست لها "الكاتبة الإسبانية"، فكان هو صاحب "طرحٍ سياسي"، بينما كانت هي صاحبة "قراءة ثقافية"، أكثر عمقا وحفرا في خبايا التاريخ من طرجه السياسي المجتزأ..
هو يريد للتعايش والتسامح الإسلامي اليهودي أن ينشآ في فلسطين، عبر ظهور "ابن رشد" جديد لدى المسلمين، و"ابن ميمون جديد" لدى اليهود ليؤسسا لذلك التسامح..
بينما الكاتبة الكبيرة قد أوضحت أن ابن رشد" المسلم الأندلسي، و"ابن ميمون" اليهودي الأندلسي، قد نشآ في أندلس قائمة أساسا على التسامح والتعايش، ولم يكونا هما سببا أدى إلى هذا التسامح وإلى ذلك التعايش..
"ابن رشد" و"ابن ميمون" كانا نتيجةً للتسامح ولم يكونا مُنْتِجين له..
أما صاحبنا اليهودي، فيريد أن ينشئ التسامح، عبر ظهورهما من جديد ليخلقاه وينتجاه ويوجداه..
وهو إذ يتقدم بهذا الطرح، فإنه قد غفل عن مسألة غاية في الأهمية عند مقارنته التي أجراها بين الحالتين..
فالتسامح في الأندلس كان ثقافة المسلمين والمسيحيين واليهود، لأن أياًّ من هؤلاء لم يتعامل مع "الحالة الأندلسية" باعتبارها "حالة استعمارية" طاردة بطبيعتها للتسامح..
ولو أن أيا من هؤلاء تعامل معها على هذا الأساس لما ترسَّخ التسامح، ولبقي الصراع قائما حتى تتغير الحالة من "استعمار" إلى " لا استعمار"..
في سياق الفكرة التي أسعى لتثبيتها هنا، لن أكون معنيا بالتعرض للأسباب التي جعلت المسلمين واليهود والمسيحيين لا يتعاملون مع "الحالة الأندلسية" باعتبارها "حالة استعمارية"، فليس هذا هو موضوع هذا البوست، وكل ما يهمني هو أنهم كانوا كذلك، فأنتجوا حالة تسامح فريدة من نوعها في التاريخ اسفرت عن ظهور "ابن رشد" و"ابن ميمون"..
وللسبب ذاته أجد نفسي معنيا بالتأكيد على أن "ابن رشد" المسلم، و"ابن ميمون" اليهودي المعاصرين، لن يظهرا إلا إذا تحقق التسامح بين اليهود والمسلمين في فلسطين أولا، على قاعدة تحرير "الحالة الإسرائيلية" من طبيعتها الاستعمارية الطاردة للتسامح، كي تصبح شبيهة بالحالة الأندلسية الحاضنة له..
إن السبب الذي جعل مسلمي ويهود ومسيحيي الأندلس يتسامحون، هو عدم قناعتهم بأن "الحالة الأندلسية" هي "حالة استعمارية"، وعدم استعدادهم لقبول أيِّ توصيفٍ لها يقوم على اعتبارها "حالة استعمارية"..
بينما السبب الذي جعل المسلمين واليهود لا يتسامحون في فلسطين، هو أنهم يعون جيدا أن "الحالة الإسرائيلية" هي حالة استعمارية، وبالتالي فلابد من ان تتم البداية عبر التخلص من هذه الصفة في تلك الحالة..
عندما تتحول "الحالة الإسرائيلية" إلى حالة "لا استعمارية" يغدو الحديث عن التسامح والتعايش أمرا ممكنا، وعندها، وعندها فقط يغدو الوضع مهيئا لظهور "ابن رشد" المسلم و"ابن ميمون اليهودي"، أما قبل ذلك فلا..
إن التسامح والتعايش في الأندلس، أنتجا "ابن رشد" المسلم و"ابن ميمون" اليهودي، تأكيدا لا لُبْس فيه من قبل كلِّ "الأندلسيين" على أن "الحالة الأندلسية" لم تكن استعمارا مرفوضا ومنبوذا..
أما انعدام التسامح والتعايش في فلسطين، فلن ينتجا لا "ابن رشد" المسلم، ولا "ابن ميمون" اليهودي، تأكيدا لا لُبْس فيه من قبل جميع من يتعاطون مع "الحالة الإسرائيلية" على أنها حالة استعمارية مرفوضة ومنبوذة..