في السياسة كما في الثقافة: "حاصر حصارك"... لا مفر
د. سمير عوض
هناك شعور عام بانسداد الأفق السياسي وانعدام فرص الوصول إلى حل عادل للمسالة الفلسطينية. هذا يتزامن مع وجود حاجة مُلحة لتحقيق اختراق سياسي واضح يخفف من حالة الحصار والأزمة الاقتصادية والسياسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني. يجب والحال هذه الابتعاد عن التفكير السطحي والنمطي وتخطي الحواجز الفكرية والمعرفية السائدة لإيجاد حلول إبداعية وخلاقة للقضايا المصيرية.
إن قضية فك الحصار عن قطاع غزة والشعب الفلسطيني عموماً تتخذ بعدين، الأول داخلي، والآخر خارجي، فالعلاقات الهشة مابين الحركات الفلسطينية، وتغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصالح القومية العليا أدى إلى حالة من الفوضى والتي انعكست بالضرورة في التصريحات المتضاربة لممثلي هذه الحركات، وانعكست كذلك في وجود حكومتين "أقل من شرعيتين" في كل من غزة ورام الله. ووقفت الحكومات الفلسطينية عاجزة عن تجنيد الإرث النضالي والدعم الدولي لمنظمة التحرير الفلسطينية أو للانتفاضة الأولى 1987-1993، في خدمة الشعب الفلسطيني في المرحلة الحالية. وفي أجواء مشحونة بالمبادرات والتصريحات والوثائق والحلول السياسية، ينبغي على الحكومتين الآن أن تقدما خطة سياسية واضحة تحدد موقف الحكومة ومجالات العمل السياسي المقبولة لديهما، بما في ذلك المبادرات والمشاريع والمقترحات السياسية الإقليمية والدولية والمحلية.
لان السياسة وحدها وخصوصا في حالة الانقسام السياسي الراهنة، لا تستطيع أن تقدم حلولا لمشاكل الفلسطينيين السياسية، يقودنا البحث الدؤوب إلى مصادر قوة إضافية تنضم إلى الجهد الفلسطيني، وتحسن أداؤه في المعركة المقبلة حتما. وأول هذه المصادر هي الثقافة الفلسطينية الأصيلة في مواجهة الرواية الإسرائيلية، هذه الثقافة التي لا تعترف بالهزيمة ولا بالانقسام، وتؤمن بالتحدي وبالمقاومة، وتتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة وبوحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. نستحضر هنا قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي اختار ان يكتب وصية للشعب الفلسطيني تقول حاصر حصارك، لا مفر...
السؤال المهم هنا هو كيف يحاصر الفلسطيني حصاره؟
الطريق هي مواجهة الاحتلال، يجب استخدام مواقع التماس مع الاحتلال الإسرائيلي او مع المستوطنين في الضفة الغربية وبضمنها القدس العربية المحتلة، كمواقع مواجهة ومواقع استقطاب وجذب للمتضامنين الأجانب والإسرائيليين وكذلك يجب غزو شبكات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فهذا الفضاء الجديد بسمح للفلسطيني بالتعبير عن نفسه و توضيح موقفه للعالم و نقل روايته للأحداث كما للتاريخ.
و هنا، و بالاستناد إلى مساهمة كبرى في فكر السياسة و المقاومة يرى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أن الاستعمار والمقاومة يولدان معا في ثنائية، ولن تختفي إحداهما إلا بنهاية الأخرى. قد يستهين أحدهم بروعة هذا الموقف، ولكن عند النظر إلى التفوق ألأخلاقي الساحق للمقاومة على الإستعمار (وهنا أعني الإحتلال الإسرائيلي)، يصبح عدم اٍستخدام هذه القاعدة الأخلاقية من قبلنا غريبا تماما. المسألة هنا تخص الخطاب السياسي الفلسطبني المتعثر حاليا.
ولا بد للخروج من الأزمة الحالية تجزئة التحديات الحالية ورد كل مصدر من مصادر الأزمة إلى الجهة التي يمكنها التعامل مع هذا المصدر وحل الإشكال. وفي البداية يجب التفريق ما بين الجوانب الداخلية للأزمة وما أكثرها والجوانب الخارجية. ويستحق الموقف الإنقاذي للأسرى الفلسطينيين في اضرابهم المفتوح عن الطعام كل التقدير ويستحق ايضا الدراسة والتحليل والتامل. اذ ان الاسرى انتصروا في معركتهم ضد السجان رغم غياب كل مصادر القوة الخارجية لهم، واعتمادا فقط على قوة إرادتهم وإيمانهم بحقهم في الحرية، واثبتوا ان الكف يلاطم المخرز.
ليس هجوم سلام فلسطيني بل خطة دفاعية سلمية إستراتيجية
تفكيك المعضلة
بعد تهيئة القاعدة الاخلاقية للعمل النضالي المقاوم (المقاومة الشعبية بالأساس) فان المتفحص للوضع الفلسطيني، والمتابع لمجريات الأحداث لا بد أن يتوصل إلى أن المأزق الذي تمر به الحكومات الحالية مركب ومتعدد الجوانب، أوضح هذه الجوانب هو:
• الضغوط الدولية الخارجية
• والتمزق الحزبي(الفئوي) الفلسطيني
• والأهداف الحزبية الضبابية وتضارب الرؤى
• وهشاشة المواقف الداعمة على الساحة الدولية
تبني إستراتيجية وطنية عامة
إنهاء الإنقسام "وليس بالضرورة المصالحة" هو بداية المخرج لتحقيق الإنجازات في المعركة اليومية ضد الإحتلال الإسرائيلي، وهو المخرج لإمتلاك الخبرة في التعامل على الساحة الدولية. إن المقاومة الشعبية قد تحمل في طياتها موقفاً وطنياً عاماً يمكن الإستفادة منه أو تبنيه ويشكل أساساً للإنطلاق إلى ألأمام ومجابهة التحديات المحدقة بالقضية الفلسطينية. إذ يمكن حينها استخدام الإشارات السياسية الدولية وتحليل المواقف واستكشافها من خلال تحديد التحالفات ومعسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، ويصبح هناك مجالا أرحب للتعامل بحنكة مع الواقع الدولي.
لا يمكن مواجهة ضغوطات على الساحة العالمية من خلال واقع أزمة على الساحة الداخلية. هذه الورقة ستحاول التعامل مع الأزمات المركبة في الساحة الفلسطينية عن طريق فصل ما هو داخلي عن ما هو خارجي والبدء بالتعامل حسب هذا الترتيب. ان مشاكلنا الداخلية الحالية السياسية والاقتصادية معقدة وكبيرة ولذلك فان هذه الورقة تقترح تحييد الأزمة الخارجية عن طريق تبني مبادرة سلام موجودة او تطوير مبادرة فلسطينية جديدة وفي هذه الأثناء التفرغ لحل المشاكل والمعضلات الداخلية الكبيرة، التي تتمثل في:
المعضلة الأولى تتمثل في هوية أو كينونة النظام السياسي الفلسطيني و مقارنته بطبيعة النظام السياسي في النظرية السياسية. النظام السياسي لدولة حديثة، هو تعبير مؤسساتي عن مبدأ حق تقرير المصير. إذ أنه يشكل المجال أو الفضاء الذي يتمتع فيه المواطن بحقه في التعبير عن رأيه وتحقيق مصالحه و أيضاً تحديد حرياته الشخصية والعامة. فماذا نقول عن طبيعة نظامنا السياسي؟ هل هو فعلاً نظام ديمقراطي بما يعنيه ذلك من تعددية وإحترام للحقوق وتحكيم المواطن في كل القضايا الخلافية؟ الجواب على هذه الأسئلة بحاجة إلى نظرة نقدية شاملة مفقودة حاليا.
المعضلة الثانية تتمثل في طبيعة الفصائل الفلسطينية، هل هي أحزاب سياسية أم حركات مقاومة وتحرر وطني؟ غياب الرؤى الواضحة إنعكس بالضرورة على طبيعة الأهداف والمواقف، هذا إلى جانب تغليب الأبعاد الذاتية للفصائل، والبرامج الداخلية الخاصة بها على البعد المؤسساتي بالحكم. أن النظام السياسي في أي دولة وفي حالتنا في فلسطين كذلك هو نظام حزبي يجب أن تقر أو توافق الحركات التي تريد المشاركة فيه على الإحتكام لقوانين عامة وطنية يتم الإتفاق عليها مسبقاً. يجب إنجاز عملية التحول الحزبي أولاً قبل التحول الديمقراطي.
المعضلة الثالثة تتمثل في غياب التقارب الوطني والإجماع على موقف سياسي موحد يمكن تجنيد الدعم الدولي له. إن من أبرز المشاريع السياسية المطروحة منذ أمد على الساحة مبادرة السلام العربية التي تبنتها جامعة الدول العربية في قمة بيروت عام 2002، وحظيت بتأييد دول عدم الإنحياز وقبولاً لدى الإتحاد الأوروبي، إذ تضمن تجنيد دعم عربي أوروبي من جهة وإعترافاً مشروطاً بإسرائيل من جهة أخرى لتبقى الأخيرة بدون ذريعة عدم وجود شريك فلسطيني حقيقي أو وجود إنقسام ما بين ممثلي الفلسطينيين مما يحملهم مسؤولية فشل الحل التفاوضي.
المعضلة الرابعة تتمثل في إحجام الشارع الفلسطيني عن المشاركة أو النقد الفعال للواقع الفصائلي الراهن، الأمر الذي يعني حالة من اللامبالاة وعدم الإكتراث ساهمت في تعزيز فوضوية هذه الفصائل.
خطة العمل على الساحة الدولية:
في ظل هذا المشهد المعتم من المستحيل أن يتمكن الفلسطينيين من استخدام الإشارات الدولية واستكشاف وقراءة النوايا والتأثير في السياسة الدولية بطريقة ذكية.ولكن لا بد للحكومة الفلسطينية وللحكومات اللاحقة إجادة إستخدام أدوات السياسة الدولية وعدم الإكتفاء بالموقف السلبي الذي لا يطمح إلى تحقيق إختراقات دولية بشكل مستمر. وهنا قد تفيدنا حالة الإختلاف ما بين برامج القوى الفلسطينية الرئيسية الفاعلة وخصوصاً فتح التي تتبنى إستراتيجية سلمية تفاوضية وحماس التي تتبنى إستراتيجية مقاومة مستمرة. فالخلاف ما بين برامج الحركتين قد يتيح المجال لإستخدام ما يعرف بإسم اللعبة ذات المستويين في السياسة الدولية والتي تعني بإختصار أن الرئيس يستفيد من إمكانية رفض البرلمان للإتفاق التفاوضي في تقوية موقفه التفاوضي إزاء الطرف الآخر. إن الخلل الكبير في ميزان القوى بين الفلسطينيين وإسرائيل قد يمكن تعديله إيجابياً بإستمداد القوة الإضافية من الديمقراطية الفلسطينية مما قد يعوض حالة الضعف التي يشعر بها المفاوض الفلسطيني.
مرة ثانية أعود لاستخدام بعض الدروس من فكر إدوارد سعيد، الذي دعا الفلسطينيين إلى عدم الاستهانة بكلمة "لا". إذ أن "لا" تشكل جوابا منطقيا للرد على المشاريع التي تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني، و العالم يفهمها جيدا...
ليس المطلوب العودة إلى دائرة المفاوضات المفرغة، إنّما الدراسة النقدية والتحليلية للسنوات السابقة، في سبيل استخلاص النتائج والعبر، كما علينا الاستعانة بالأوساط السياسية والإجتماعية الفلسطينية والعربية في ترتيب علاقاتنا الداخلية والخارجية خصوصا في أعقاب ثورات "الربيع العربي" . المطلوب حاليا هو الوصول إلى مخرج من الازمة المالية الخانقة للسلطة الفلسطينية وتقليل الاعتماد على المانحلين عربا كانو أم أجانب و الذين بدورهم يجندون المال للضغط السياسي على السلطة الفلسطينية.
الحكومتان الفلسطينيتان تجدان نفسيها الآن في مهب الريح وسط ضغوط من كافة الأطراف وبمختلف الإتجاهات. وللخروج من هذه الدوامة قد يفيد الحكومة "القادمة" البدء بوضع خطتها السياسية والاقتصادية وبخاصة إستراتيجية الحكومة السلمية.
ان حلم الاستقلال والتحرير يتحقق بنهج المقاومة والمفاوضات والمبادرات السياسية وتكاتف الجهود لمنع الحلول أحادية الجانب والضغوط الدولية ولوقف الحصار الخانق المفروض على الشعب الفلسطيني في خطة سياسية وليس عسكرية تحاصر هذا الحصار، لذا حان وقت الخطط السياسية التي سوف تقود إلى مخرج يرتضي به كامل الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي. وقد يتطلب الأمر الخروج من الأزمة الحالية عبر تطوير مبادرة سلام فلسطينية، وإذا أمكن وضع هذه المبادرة ضمن إستراتيجية سلام دفاعية فلسطينية مبنية على الحقوق الفلسطينية الأساسية وتشمل غالبية الأطراف الفاعلة على الساحة.