بقلم : مُحب الغيث
كي نفهم أزمات الشعوب العربية خلال فترة الربيع العربي , لابد أن نراقب شعارات وهتافات الثوار , فهذه الهتافات هي تعبير عن أزمة مجتمع , ففي مصر رفع الثوار هتاف " عيش حرية عدالة اجتماعية " وهذا تعبير صريح من المصريين عن وضع معيشي ومادي صعب واضطراب التوازن بين شرائح المجتمع و التوق للحرية " , وفي ليبيا رفع الثوار هتاف " دم الشهيد ميمشيش هباء " في تعبير عن أن المجتمع الليبي العشائري والمناطقي أصبح بينه وبين النظام دم وثأر لن ينتهي إلا بسقوط النظام , وفي سوريا كان أحد الهتافات الأبرز هو " يلعن روحك يا حافظ " , فما السر خلفه يا تُرى ؟
يقول علماء النفس حينما تريد فهم شخصية لفرد ما , " راقب كلامه وقت الغضب , فهو تنفيس للمكنون الداخلي المتراكم الذي ينطلق تعبيراً عمّا يختلج في جنبات الروح " , بعد تفجر الثورة السورية في مظاهرات بسيطة بتاريخ 15/3/2011 في سوق الحميدية العريق في دمشق , وتلتها بثلاثة أيام الجمعة الأولى لأطفال درعا , برز جلياً لكل المتابعين الهتاف الأشهر " يلعن روحك يا حافظ " , ردده السوريون في حوالي ألف نقطة تظاهر في عموم سوريا , ضجت سوريا بهذا الهتاف , بُحت حناجر الثوار وهي تردد هذا الهتاف بحرقة بالغة .
من ناحية شرعية , القاعدة أن المؤمن ليس لعّاناً , والإستثناء أنه يجوز لعنُ الظالمين ورؤوس الإجرام كما ورد في القرآن والسُنة , لكن هذا الشعار غير المألوف والغريب للوهلة الأولى استفرد به السوريون , ولم نرَه في عند باقي الشعوب المُشتركة معهم في القهر ضد حكامهم, وهو يعبر عن الأزمة التي عانها منها الشعب السوري .
* هتاف " يلعن روحك يا حافظ " , يمثل حالة الكبت والقهر الداخلي لدى الشعب السوري , ويمثل أزمة فعلية لدى الشخصية السورية , فالإنسان في الوضع الطبيعي حين يُظلم على يد نظام يُعبر عن ظلمه بأشكال عادة لا تصل إلى هذا الحد , ولكن أن يكون التعبير عن القهر والكبت من خلال هذا الهتاف , فهو صيحة من الشعب السوري للعالم أن انتبهوا , هناك شعب منسي لم تضعوه في حساباتكم , هذا الشعب يعاني من قهر فظيع لا يتصوره العقل البشري , والتعبير عن هذا القهر خرج صارخاً دموياً كالحمم من بركان ثائر " يلعن روحك يا حافظ " .
* هتاف " يلعن روحك يا حافظ ", يمثل مدى استهتار السوريين بعد الثورة ببشار الأسد , فهو في رأي كثيرين " وصل إلى الحكم صدفة بعد وفاة أخيه باسل " و " ولد ولو حكم بلد " , فلم نرَ اللعائن تتجه نحو بشار , بل صبوا جام غضبهم نحو أبيه الميت منذ أكثر من عقد , وهذا يمثل قناعة وإيمان راسخ في الوعي الجمعي لدى السوريين أن المسؤول الأول والأخير عن كل ما مرت به سوريا هو حافظ الأسد , هذا الرجل الذي بنى المنظومة الأمنية ووطد أركان النظام ومنع الشعب من ممارسة أي أشكال الحياة السياسية ولو كلامياً , فبشار الأسد بعكس أبيه , شخصية مهزوزة في نظر السوريين , والمتحكم الفعلي في النظام هم المحيطين ببشار من قادة الأجهزة الأمنية السورية والإيرانية .
* هتاف " يلعن روحك يا حافظ " , يمثل رسالة مُبطنة إلى الأقلية العلوية ( 10% من المجتمع ) المآزرة للنظام , فهذه الأقلية كانت تُضفي هالة القداسة و يصل بها الحد إلى تأليه حافظ الأسد , فقبر حافظ الأسد يُمثل بالنسبة للأقلية العلوية قبلة ومزار , فهذا الشعار هو تحدي من الأكثرية الساحقة للشعب تجاه هذه الأقلية , وليس من فراغ رأينا أول عمل لأهل درعا التهجم على تمثال حافظ بالنعال وهدمه , وذاك الشاب الذي صعد إلى لافتة معلقة عليها صورة حافظ الأب في حمص وبدأ بضربها بقدميه حتى تمزقت اللافتة وسط تهليل الجماهير , وتم قطع رجلي هذا الشاب على يد النظام بعد أن امسكوا به ..
* هتاف " يلعن روحك يا حافظ " , يمثل بداية نهاية حالة الرعب من سطوة المخابرات السورية ذراع النظام الضارب وعيونه المتغلغلة في كل دهاليز المجتمع , فالمخابرات السورية هي الأشد وحشية في المنطقة , وكل متظاهر كان يخرج في الحراك الشعبي ويردد هذا الهتاف , كان يُعرض نفسه لقطع لسانه وجَزّ حنجرته فعلياً لا مجازياً , وبالرغم من هذا ما انفكت حناجر المتظاهرين تصدع بهذا الهتاف .
* هتاف " يلعن روحك يا حافظ " , يمثل فاصلاً بين مرحلتين تارخيتين مختلفتين تماماً , بين مرحلة الرعب من أقبية المخابرات وأساليب التعذيب وبين مرحلة كسر حاجز الخوف ,مرحلة استمرت مُنذ منتصف الثمانينيات , حيث استقر الحُكم لحافظ الأسد بعد أغتيال وتهجير كل حزب وهيئة وشخصية لا تدين بالولاء المطلق لحافظ الأسد حتى انطلاق الشراشة الأولى للثورة من درعا , هناك جيل شاب تتراوح أعمارهم بين ال 15-25 عاماً يشكل النواة الصُلبة للحراك الشعبي في المدن السوري , جيل لم يعايش مجازر حافظ الأسد ولكنه سمعَ عنها , وهذا الجيل الشاب فشلَ النظام في تديجنه وتهجينه كما نجح مع جيل آباءهم .
المُلاحظ أنه بعد انتشار الثورة في اغلب المدن والمحافظات وتعاظم قوة الجيش الحر وبدء تهاوي النظام الأسدي خفت هذا الشعار وقلَّ , لأنه كان تعبيراً عن حالة القهر , والقهر مع بروز طلائع النصر يقل , وحتى يصل الشعب السوري إلى النصر الكامل , وقتها ستنتهي حالة القهر , ومعها سيختفي هتاف " يلعن روحك يا حافظ " تدريجياً , ويتحول إلى أيقونة فلكلورية تتذكرها الأجيال .