"السفير المرافق": غازي القصيبي (2)
وصلني تعليق من إحدى بنياتي الكريمات .. ولعله يحتاج إلى (احتفال)!! فقد تعودت تذمر الإخوان والأخوات من طويل ما أكتب ... في زمن التصفح .. ولم يكن باستطاعتي إلا أن أعيد النظر أو أرافق (السفير المرافق) مرة أخرى ..
قلنا أن المقصود بعبارة المؤلف (البيت الأبيض .. بين سيدين) : الرئيس نيكسون والرئيس كارتر ... الأول قالت الصحافة عن رئاسته :
(إنها إمبراطورية،أي أنه كان يتقمص في تصرفاته شخصية"الإمبراطور". والواقع أن هذه الملاحظة لا تخلو من صحة،على الأقل خلال تلك الفترة. كان يتكلم بحساب،ويشير بيديه بحساب،ويحاول أن يضع بينك وبينه حاجزا من الهيبة.(..) كنا في قاعة من قاعات البيت الأبيض نتناول المرطبات قبيل حفل الغداء. ظهر رئيس البروتوكول في وزارة الخارجية الأمريكية وطلب منا أن نقف في صف واحد حسب التسلسل البروتوكولي لأعضاء الوفد. بقينا مصطفين كالجنود بضع دقائق حتى انفتح باب القاعة وظهر جندي ضخم يتردي زيا مزركشا وصرخ بصوت جهوري هز القاعة :
سيداتي وسادتي! رئيس الولايات المتحدة!
ودخل"الإمبراطور"يحف به الحرس والأعيان.){ص 10}.
ثم أفاض المؤلف في الحديث عن (الإمبراطور"ثم ذكر أنه زار واشنطن مرتين ... (في المرتين كنت مع الأمير فهد. المرة الأولى باعتباره نائبا ثانيا لمجلس الوزراء ووزيرا للداخلية،والمرة الثانية باعتباره وليا للعهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء. كان هدف الزيارة الأولى إعطاء شحنة من الحرارة للعلاقات الأمريكية / السعودية التي توترت نتيجة الحظر البترولي خلال حرب رمضان،خصوصا بعد أن اتضح للعالم أجمع أن أهمية البترول في تزايد،وأن أهمية المملكة في تزايد. جاءت الزيادة بمبادرة من الولايات المتحدة،وكانت الدعوة في الأساس موجهة إلى الملك فيصل.(..) وكانت أهم نتيجة تمخضت عنها الزيارة إنشاء اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي بين البلدين. أما الزيارة الثانية فقد جاءت بدعوة من الرئيس كارتر،وكان هدفها أن تتيح للزعيمين الفرصة للتعرف ببعضهما البعض ولبحث المعضلة الشائكة في الشرق الأوسط.){ص 12 - 13}.
ثم تحدث المؤلف عن اللقاء بكيسنجر ،وملاحظاته أو مداعباته .. قال للأمير فهد .. ( إنه لمن محاسن الصدف أن نجتمع أنا وسمو الأمير في واشنطن في يوم واحد.
وكان يشير إلى رحلاته "المكوكية"الشهيرة.
كما أنه بدأ جلسة المباحثات الرسمية بهذه الملاحظة :
لعلك لاحظت يا سمو الأمير أن كل وزارة في أمريكا تقيم لنفسها وزارة خارجية مصغرة،وقسما مصغرا للعلوم السياسية.
وابتسم الجميع عدا ضحايا الملاحظة : مندوبي وزارتي الدفاع والخزانة.){ص 13 - 14}.
نستطيع أن نتجاوز إشادة المؤلف بذكاء كيسنجر،لنصل إلى زميله .. (وزير الدفاع شليسنجر فقد كان شديد الغرور دون أن يشفع له ذكاء أو مرح.لقد قابلت شليسنجر مرتين مرة في واشنطن في ذلك الصيف،ومرة أخرى بعدها بأربع سنوات عندما زار الرياض كوزير للطاقة في عهد كارتر. وفي المرتين لم أحس بأي احترام له،ولا لما يقوله. كان يتكلم ببطء وبعنجهية واضحة،ويقف بين الفينة والفينة ليمتص غليونه،وكان يتصرف كما لو كان يدرس مجموعة من الأطفال المتخلفين عقليا. عندما جاء إلى الرياض حمل معه اقتراحا غريبا و أكاد أقول اقتراحا جنونيا. اقترح أن تتولى المملكة على نفقتها الخاصة بناء المخازن المعدة للاحتياطي الاستراتيجي البترولي في أمريكا. ثم تشحن البترول على نفقتها الخاصة إلى الولايات المتحدة لوضعه في هذه المخازن. ثم تبيع البترول إلى الولايات المتحدة من هذه المخازن. وقد قال عن هذا الاقتراح العجيب إنه يضمن تدفق البترول في حالة وقوع اضطرابات تسد مضيق هرمز. ثم قدم تبريرا غريبا غاية الغاربة. قال أن المخزون الاستراتيجي سوف يتيح للولايات المتحدة وللعالم الحصول على البترول فيما لو كان هناك حظر نفطي،وبالتالي فإن أي حظر نفطي لن يقابل بإجراءات عسكرية،وبالتالي فإن بوسع المملكة أن تمارس حقها في الحظر النفطي ! أي والله هذا ما قاله (..) عندما بدأ شليسنجر بشرح "نظريته "تبادلنا النظرات ونحن لا نكاد نصدق آذاننا. ولقد حسدنا الأمير فهد على سعة صدره وهدوء أعصابه ورباطة جأشه. فقد قال للوزير الأمريكي :
- هذه على كل حال فكرة تستحق الدرس والعناية. وسوف ندرسها ونخبركم بما يستقر عليه الرأي. ولا أظنني بحاجة إلى القول إن الفكرة ماتت بنهاية الاجتماع.){ص 16 - 17}.
حقيقة قد أفهم الأوصاف التي نعت بها المؤلف الملك فهد،باستثناء (رباطة الجأش)!! في حضور ذلك الوزير المتعجرف،ولا أدري هل إشارته إلى (إجراءات عسكرية) يدخل ضمن (التهديد)؟!!! وهنا أتذكر بكل حزن – راجيا أن يكون وود وورد يكذب – أن مؤلف كتاب عن حرب الخليج أو تحرير الكويت .. زعم أنه قبل اتخاذ قرار استقبال القوات الأمريكية،والتي كانت على خلفية أن القوات العراقية ننوي أن تواصل زحفها إلى المملكة .. "زعم"المؤلف أن السعودية طلبت أن تقدم لها الوثائق (صور الأقمار الصناعية) التي تثبت نية (صدام) عبر شخص أقل من (وزير الدفاع) للتحرج من رفض طلبه!!
ننتقل إلى (واشنطن كارتر فقد كانت ذات مذاق آخر. ليس هناك أباطرة ولا نجوم. استغل كارتر كره الأمريكيين لنيسكون والسمعة السيئة التي رافقت حكمه،,جعل شعاراته الانتخابية"الحب"و"النزاهة"و"الصدق"(..) وأصبح "جيمي"سيد البيت الأبيض. حاول الرئيس الجديد أن يقنع الأمريكيين أنه مختلف عن سلفه. بدا في التلفزيون وهو يحمل حقيبته بنفسه وأصر على أن يناديه الناس – كما كانوا ينادونه قبل الرئاسة "جيمي".
في السيارة من المطار إلى الفندق كنت أناقش هذه الظاهرة مع أحد مستشاري كارتر،قلت :
يجب ألا يفرط الرئيس في هذا الاتجاه. إن الشعب الأمريكي يحيط الرئاسة بهالة كبيرة ليس من المناسب لأي رئيس أن يبددها مهما كان السبب.){ص 18 - 19}.
طبعا تراجع "جيمي"عن بعض تلك السلوكيات التي لم تعجب المؤلف .. ومع ذلك فقد لمزه المؤلف ..(وكان كارتر مفرطا في تواضعه وكأنه كان يشعر في أعماقه أنه قد وصل إلى منصب لا يستحقه،وبالتالي لا يستحق ما يواكبه من مظاهر وهالات.){ص 21}.
طبعا حيرنا علم النفس هذا!! وربما صدق (كارل بوبر) حين وصفنه بأنه ليس "علما" .. كان لشخص آخر وصل إلى منصب لا يستحقه أن يبالغ في (الأبهة) وسيقال عندها .. انه يحاول سد النقص الذي يشعره به .. لحصوله على منصب لا يستحقه!! أطلت المكوث في هذا الفصل ،وآن لنا أن ننتقل إلى الفصل الثاني (مع سيدة الهند الحديدية) .. والذي استفتحه المؤلف بهذه العبارات .. ("الأصل"يختلف عن "الصورة"لا أقصد"بالصورة"معناها الفوتوغرافي المباشر،ولكنني أقصد ذلك"الانطباع العام"الذي يتولد في الأذهان عبر السنين عن طريق وسائل الإعلام المختلفة،والصحافة بوجه خاص.
"الصورة" : امرأة قوية الشخصية،متعطشة للقوة،شديدة الدهاء،حديدية الإرادة،قاسية القسمات،لا حد لطموحها،أو لعنادها. "الأصل" : امرأة في الرابعة والستين،ضئيلة ضئيلة،تتحدث بصوت هامس لا يكاد يسمع،لا يدل شكلها على إرادة عاتية ولا يوحي مظهرها بأي تعطش إلى السلطة. لا يملك المرء إلا أن يشعر بالشفقة على هذه المرأة،التي تذكره بأم حانية،وضعتها الظروف موضع القيادة في أمة من سبعمائة مليون من البشر،كلهم يريدون الطعام والمأوى والتعليم وطيبات الحياة؟
كانت زيارة أنديرا غاندي للرياض في ربيع سنة 1982م فرصة للتعرف على"الأصل". ){ص 35}.
وقد أفاضت للمؤلف أو قالت له لم تقل لغيره ..(أشعر أحيانا أنها قالت لي ما لم تقله من قبل لمسؤول أجنبي،أو لصحفي ،أو كاتب!){ص 36}.
مما أفاضت به قلقها من كثرة السكان أو الانفجار السكاني،وقد أشار إلى ما قيل عن تعقيم الهنديات،وهي إشاعة ساهمت في إسقاط حكومتها،فنفت أن يكون قد تم تعقيم أي امرأة بغير رضاها،وأن الأمر كان مجرد مشروع .. وهي تؤمن بأن التطور لا يمكن أن يفرض .. ( لقد كانت الرغبة في فرض التطور غلطة الشاه الأساسية. وكانت غلطة أتاتورك قبله. لقد تصورا أن التغيير يمكن أن يتم بقرار حكومي.){ص 37}.
وكما رأينا المؤلف ينصح الأمريكان بشأن تواضع "كارتر"هاهو ينصح الهنود أيضا .. (الواقع أنني تنبأت أن إسراف المعارضة في الهجوم عليها سيؤدي إلى تعاطف الناس معها. قبل ثلاث سنوات أرسل رئيس الوزراء ديساي وزير الصناعة الهندي برسالة إلى حكومة المملكة. وقابلت الوزير الذي قضى في المملكة ثلاثة أيام. كان قبل الوزارة رئيسا لنقابات السكك الحديدية. وكان رجلا مغرورا إلى درجة رهيبة.قلت له :
- أنتم في الحكم. لماذا تتصرفون كما لو كنتم في المعارضة؟ إن أنديرا غاندي ذهبت بخيرها وشرها. لماذا هذه الحملة القاسية عليها وعلى أسرتها؟ إنكم بهذا سوف تجنون على أنفسكم وسوف توجدون لها شعبية جديدة.
وصح ما توقعت.){ص 39}.
ثم عزاها في ابنها،وأشار – ضمن الحوار – إلى علاقتها بأرملة ابنها .. ( هنا بدأت تتحدث بانفعال وحيوية. طيلة الزيارة لم أرها تتحدث بهذه الحدة،وبهذه السرعة،وبهذه الطريقة العاطفية. نسيت – للحظة – أنني أمام رئيسة وزراء دولة من أكبر دول الأرض. تصورت أنني مع أم عادية في الحي تشكو من متاعبها مع زوجة ابنها.){ص 40}.
وأخيرا .. ( طيلة المباحثات لم تشر من قريب أو بعيد إلى العلاقات الاقتصادية بين المملكة والهند. ولم تطلب قرضا،ولم تطلب مساعدة،ولم تتحدث عن اختلال الميزان التجاري. لقد جاءت زعيمة الهند إلى المملكة لكي تناقش وتبحث لا لكي تطلب مساعدة. أكبرت فيها هذا الموقف. تمنيت لو كان كل زوارنا مثلها.تذكرت الحرج الذي يحيط بالمباحثات كلما زارنا رئيس دولة يصر على أن يعود إلى بلاده"بنتائج ملموسة" (..) في المطار كانت السيدة الضئيلة تصافح مودعيها. وتوقفت عندي قليلا :
- أشكرك كثيرا. لقد سعدت بلقاء زوجتك البارحة. وارتقت سلم الطائرة. وبدأت الأم الطيبة تتلاشى – مع كل درجة من درجات السلم – في نهاية السلم لم تكن هناك عجوز رقيقة.
كانت رئيسة وزراء الهند هي التي تقف منتصبة على مدخل الطائرة. وتلوح بتحية الوداع.){ص 48 - 50}.
الفصل التالي – ( مع المجاهد الأكبر ) - هو تحقق أمنية أخرى للمؤلف .. (كنت أتمنى أن أقابل الرئيس الحبيب بو رقيبة،زرت تونس،للمرة الأولى،سنة 1977م. وزرتها،للمرة الثانية،سنة 1979م ولم يتح لي أن ألقاه. (..) لهذا كانت سعادتي بالغة عندما أخبرني مضيفي الأستاذ عبد العزيز الأصرم وزير الاقتصاد التونسي،خلال زيارة رسمية قمت بها إلى تونس في ربيع سنة 1982م،إنه حدد لي موعدا للسلام على الرئيس.
قال لي الوزير التونسي إننا سنذهب إلى الرئيس في الواحات،وإننا سنستقل طائرة صغيرة ذات خمس مقاعد،ورجاني ألا يزيد عدد أعضاء الوفد الذي معي عن اثنين. يبدو أن الحديث عن الطائرة الصغيرة أرعب أعضاء الوفد وهم جميعا من المؤمنين بنظرية شوقي :
أركب الليث ولا اركبها *** وأرى ليث الشرى أوفى مننها ذماما
بدأت بالدكتور محسون جلال فقال إنه سعد بلقاء الرئيس أكثر من مرة ويود أن يفسح المجال للآخرين. ماذا عن الآخرين؟ الأخ عبد العزيز الزامل وهو يخاف خوفا شديدا في الطائرة العملاقة،فما بالك بالصغيرة،أبدى اعتذاره الحار.الأخ فهيد الشريف،وهو لا يقل خوفا عن عبد العزيز،اعتذر بدوره.
خلال الرحلة كنت أفكر في الرجل العجيب الذي سألتقي به اليوم. هذا الرجل الذي جاوز الثمانين،بسنوات،وما زال يتشبث بالحياة وبالحكم بكل عنفوان. هذا الرجل الذي أصبح جزءا من الحياة اليومية لكل مواطن تونسي. هذا الرجل الذي اتهمه أعداؤه بالخيانة ثم أظهرت الأحداث أنه أكثر وطنية من أكثر المزايدين على الوطنية. هذا الرجل الذي حارب فرنسا وهادنها وحاربها وهادنها. استطاع أن يمسك بيديه خيوط اللعبة السياسية في تونس طيلة ثلاثين عاما. هذا الرجل الذي كان قبل أن تمنعه السن،يتحدث بالساعات الطوال إلى مواطنيه فيقول لهم كل شيء : أسرار الدولة وأسراره الخاصة. قال لهم مرة إن ذكاء رئيس وزرائه لا يزيد عن "ذكاء الحمار"! وقال لهم مرة أنه شك في نسبة ابنه إليه لأنه"بخصية واحدة فقط"ولم يتوقع أن ينجب){ص 52}.
إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))Mahmood-1380@hotmail.com