من كوبنهاجن إلى صنعاء(4)
يبدو أن صفحت (أطيب شعب){وبالنص : (واتفقت أراء جميع أعضاء البعثة في أن هذا البلد فريد في نوعه،فطيبة سكانه لا يمكن مقارنتها بطيبة سكان بلد آخر زاروه في رحلتهم الطويلة.)ص 223} قد طويت،فلا أحد (من الطيبين) يقبل حمل (مسيحي) مريض أو ميت،كما حدث مع( فورسكال) نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي... وإما أن المسلمين لا يرضون تحقير أنفسهم بحمل رجل مسيحي (..) لم ينجحوا في حث أحد من الحاضرين المسلمين على المساعدة في حمل الرجل المريض من الفندق إلى البيت. وكان الناس يحيطون بهم في سلبية،وفي فضول وحب استطلاع.){ص 285 - 286}.شيء مؤلم بطبيعة الحال،حين نقارن هذا التعامل مع "عيادة" خير خلق الله – صلى الله عليه وسلم – لجاره اليهودي .. ولكن لا عجب فالأمر طبيعي جدا ... حين يستبد الجهل بالأمة ... وتستعيض بقوة (التعصب) عن القوة (المادية) التي تجعلك لا ترى في غير المسلم أكثر (إنسان) ضل سواء السبيل،وتتمنى له الهداية ... إذا لم تسع إلى ذلك. تتواصل معاناة البعثة،وينتهي مرض فورسكال في .. (... اليوم العاشر من تموز (يوليو) لعام 1763،وان سواد الليل يغطي المدينة (..) وفي الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي توفي فورسكال في مدنية يريم،باليمن السعيد وقد بلغ من العمر واحدا وثلاثين عاما. وكان على نيبور في هذا اليوم أن يكتب تقريرا عن موته إلى السلطات اليمنية فأرسل أحد الخادمين الذين معهم،إلى حاكم المدينة و إلى قاضيها. فلم يستقبله الأول،أما الثاني فقد أشار عليه بالاتصال بأحد المواطنين،ظنه سيبيعهم قطعة صغيرة من الأرض يدفنون فيها الرجل الميت. وذهب نيبور في الحال واشترى الأرض،ولكنه بعد ذلك بقليل اضطر إلى إلغاء الصفقة،لأن قطعة الأرض هذه كانت تقع قرب قناة تمد بعض المزارع بالماء،وقد هدد أصحاب هذه المزارع بائع الأرض في أنه سيكون مسؤولا في حالة بيعه الأرض لدفن رجل مسيحي فيها،إذا جفت مياه هذه القناة،أو تلوثت. وفي هذا الوقت وصلتهم رسالة من الحاكم (..) أخبره الحاكم بأنه بمقتضى قوانين البلاد،فإنه نفسه الوريث الوحيد لمن يموت من في مقاطعته من البينيان أو اليهود. (..) أجاب نيبور بأن المتوفى ليس يهوديا ولا من البينيان،ولكنه أوربي،وأن حاكم المخاء،حيث فقدوا زميلا آخر من زملائهم،لم يذكر مثل هذا الإدعاء فيما يخص ثروة المتوفى. عندئذ قال ابن الحاكم في لطف بأن كلمات والده لا يجب أن تفسر حرفيا وأن كل ما قصده هو أنه توقع بعض الهدايا الهامة بمناسبة الوفاة. {هذا ما يسميه إخواننا في مصر "موت وخراب ديار"}فأجاب عليه نيبور، بأنه كأمين صندوق البعثة لا يستطيع أن يتصرف في أي مبلغ من المال دون أن يستلم وصلا في مقابل ما دفع،وهو لهذا يطلب من الحاكم أن يطلعه كتابة عن المبلغ الذي طلبه. بعد هذا الجواب لم يطلب منه شيء،فالحاكم يعرف معرفة جيدة بأن نيبور يريد أن يحصل على إثباتات يقدمها للإمام في صنعاء،وهو يخاف كثيرا أن يصل إلى علم الإمام مثل هذه الأمور.(..) حين ترك نيبور الحاكم ذهب إلى المدينة ودبر الحصول على قطعة أرض لا تقع قرب قناة خاصة بالزراعة أو قرب حقول مزروعة. وبقيت أمامهم مشكلة أخرى،هي حاجتهم إلى ستة رجال يحملون جثة فورسكال إلى القبر. وأبدى نيبور استعداده لدفع مبلغ كبير من المال لمن يقوم بهذا العمل،وأكد أن الدفن سيكون في منتصف الليل حتى لا يلحظ أحد،لكن دون جدوى. ولم يستطع إلا في اليوم التالي أن يجر أمامه ستة عمال من الفقراء،وافقوا على حمل الجسد.(..) في عجله،ثم دفنوه في سرعة خاطفة في ذلك القبر الذي لم يتجاوز عمقه القليل من الأقدام. (..) وبعد الدفن بعدة أيام وصل إلى علمهم أن جسد فورسكال قد أخرج من قبره في الليلة التالية لدفنه،فقد اعتقد بعض العرب أن بعض الأشياء القيمة قد دفنت معه حين لا حظوا أن دفنه قد تم داخل تابوت. ){ص 287 - 289}. يستطيع المرء ببساطة أن يفرق بين استنكار (الفعل) – ما فعله السكان بالبعثة – وبين من وقع عليهم الفعل ... خصوصا حين أتذكر (فورسكال) – ومعه بورنفانيد – وهو يرسم (ختان) تلك الفلاحة الفقيرة!!!!!!وأخيرا وصلت البعثة – أو من تبقى من أعضائها – إلى عاصمة العربية السعيدة : ( وبعد آخر منحنى في الطريق إلى صنعاء امتد أمامهم منظر فسيح،توقف الرجال الثلاثة عنده وأطلوا على واد به عدة منازل،وشاهدوا الدخان المتصاعد من مداخن البيوت والمختلط ببخار المطر،يغطي جوانب التلال. وكان كل شيء هادئ لا يتحرك،وطائر الوروار يجثم على أحد الغصون،وقد مضى بعض الوقت قبل أن يستطيع المسافرون المنهكون تصديق ما تشاهده أعينهم. أجل. لم يكن ما يرونه أمام أعينهم من صنع تصورات الحمى،إنها حقا مدينة،فهذا شذى الأرض الطري ينقله الهواء حولهم،وهذه هي فعلا قطرات المطر المتساقطة من الأشجار،وهذا طائر الوروار الأخضر يطير مرارا ليعود إلى نفس الغصن الذي طار منه.إنهم ليسوا في حلم،فهم الآن أمام مدينة صنعاء عاصمة العربية السعيدة،التي وصلوها أخيرا بعد رحيل دام سنتين ونصف.(.) ونامت البعثة تلك الليلة على سرر نظيفة لأول مرة منذ زمن طويل،وحين جلسوا صباح اليوم التالي يشربون القهوة،وصلت إليهم هدية الإمام ترحيبا بمقدمهم. وكانت الهدية عبارة عن خمسة أغنام و 3 جمال محملة بوقود الطبخ،ومجموعة من الشموع وأكياس الأرز وجميع أنواع الخضروات،وطلب الإمام أن يعفى لعدم استطاعته رؤيتهم لفترة يومين،لأنه كان مشغولا جدا بدفع مصروفات جنوده.(..) وصف نيبور أحوالهم بقوله : "لم نعش مثل هذه الراحة من منذ زمن طويل،لقد كان للبيت غرف جميلة وكان محاطا بحديقة مليئة بجميع أنواع الفواكه التي يبدو أنها تنبت على الطبيعة دون عناية. إنها حديقة على الطريقة العربية،بها نافورات وبرك حيث يفضل المرء الجلوس في الظل على أن يمشي". ){ص 307 - 309}.ثم جاء وقت لقاء الإمام نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيونورد فيما يلي وصفا للقاء الذي تم بين الشاب فلاح المستنقعات الذي علم نفسه بنفسه وبين صاحب السمو الملكي إمام العربية السعيدة : "جرت المقابلة الرسمية في قاعة مستطيلة تحت سقف له قناطر،وفي الوسط كانت نافورة تقذف ماءها في الهواء مسافة أربعة عشر قدما،وخلف بركة النافورة ترتفع منصة،يقع خلها منصة أخرى،بها مجلس العرش،وقد غُطيت كل الأرضية حول النافورة والمنصة المرتفعة بالسجاد العجمي،أما مجلس العرش فلم يكن إلا منصة مربعة مغطاة بالحرير،وعليها ثلاث مخدات كبيرة،أحدها خلف الإمام واثنتان على جانبيه،وكلها مغطاة بأشياء جميلة. وكان الإمام جالسا على عرشه هذا بين الوسائد وقد لف ساقيه تحته على الطريقة العربية في الجلوس،وكان مرتديا قميصا أخضرا خفيفا له أكمام طويلة فضفاضة،وعلى يمينه وعن يساره إخوته،وأمامه على المنصة المستطيلة يقف وزيره لشؤون الدولة الفقيه أحمد،وفي مكان منخفض عن المنصة المستطيلة أخذ أعضاء البعثة أماكنهم،وعلى امتداد الجدران يقف صفان طويلان من الزعماء العرب،وأخذونا مباشرة إلى الإمام لتقبيل يده اليمنى،باطنها وظاهرها،وتقبيل ثوبه أيضا المتدلي على ركبتيه،وتقبيل ظاهر اليد أمر عادي حين يقابل المرء أمراء العرب،ولكن تقديم باطن اليد للأجنبي لتقبيلها لدليل على تكريم كبير غير عادي.وكان يسود القاعة صمت عميق،ولكن في اللحظة التي كان يلمس فيها أحدنا يد الإمام كان يعلو هتاف المنادي ببعض كلمات يبدو أنها تعني : "الله يحفظ الإمام"ويردد بعده جميع الحضور هذه الكلمات بأعلى أصواتهم وبكل قواهم. لا أستطيع أن أنكر أني كنت منزعجا بعض الشيء بسبب ذلك الصراخ المروّع،خاصة،في اللحظة التي لمست فيها يد الإمام،ذلك لأني كنت أول من تقدم منهم،وكنت عندئذ مركزا تفكيري فقط في كيف أعبّر عن تقديري وتحياتي في لغة عربية ممتازة،كما كنت مأخوذا بروعة المشهد،الذي لم أشاهد له مثيلا من قبل بالجزيرة العربية،وعلى أي حال،لقد استعدت في سرعة هدوئي،وحين أخذ الناس يهتفون مرة أخرى،حين لمس رفاقي يد الإمام شعرت أن ما يحدث في حفل الاستقبال هذا،يشبه نوعا ما الهتاف ثلاثا في بلادنا.(..) فقد أوضح للإمام أنهم من الدنمارك وأنهم قد سافروا عبر البحر الأحمر،لأنه أقصر طريق إلى المستعمرة الدنماركية،ترنكبار،وفي طريقهم أحبوا القيام بزيارة بلاد اليمن الواسعة المشهورة بثرائها وجمالها. ولم يذكر نيبور أنهم اضطروا إلى أن يدفعوا مقابل هذه المتعة حياة اثنين من رفاقهم،ولا أن بقاءهم في المخاء قد كلفهم خمسين دوكات فينيسية،ولا أن الأهالي في يريم وذمار قد استقبلوهم بالحجارة. كل ما ذكره أنه لا يستطيع أن يخفي إعجابه بحالة الأمن أثناء رحلتهم،وكرم الضيافة التي قابلوها في كل مكان نزلوا فيه..(.. )"بعد هذه المقابلة أذن لهم أن يتجولوا بحرية في العاصمة،وبدأ نيبور في الحال في إعداد خريطة أولية للمدينة (..) فزار السوق الكبير،ووصف أزقته المتخصصة في بيع الوقود والفحم والحديد والعنب والذرة،والزبدة والملح والخبز،الذي تقتصر التجارة فيه على النساء،كما هو غالبا في كل مكان في جزيرة العرب،كما يوجد سوق خاص لإبدال الملابس القديمة بأخرى جديدة،ويوجد فيه أكشاك للبضائع التركية والهندية والإيرانية. ويوجد بالمدينة أعشاب وعلاجات وفواكه مجففة وطازجة كالكمثرى والمشمش والخوخ والتين،وتوجد شوارع خاصة للأعمال المهنية المختلفة،للحدادين والإسكافيين وصانعي السروج،والخياطين،وصانعي القبعات والبنائين و الصاغة ومجلدي الكتب والكتبة،وفي كل مكان توجد الخضروات الطازجة بكميات كثيرة،واستطاع نيبور أن يحصي أكثر من عشرين نوعا من العنب.){ص 310 - 312}.على مائدة (عشرين نوعا من العنب) أترككم .. على أمل أن نكمل (سياحتنا) في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 7/2/1432هـ