أسئلة الأستاذة ريمة الخاني


السؤال الأول


مرج دابق/مرج التلول/هرمجدون.. كيف تقدم لنا صورة نموذجية منطقية عما تقاذفته الكتب- وكل كتاب حسب منطقه الخاص - عن نهاية الكون ولو بصورة تقريبية حسب ما تراه من منطلق المعطيات من حولنا ولاعلم إلا الله طبعا ولكن كرؤية موضوعية مستعينين بالادلة الرافدة بقدر الإمكان.


الإجابة


من الواضح من صياغتك للسؤال الأول، أنك ممن يؤمنون بما أطلقتِ عليه "نهاية الكون"!!


ومن المؤكد أن معتقدات مثل "آخر الزمان، مرج دابق، هرمجيدون، عودة المسيح، ظهور الدجال، ظهور يأجوج ومأجوج والدابة الأهلب، ما يسميه المسلمون الملاحم، الآيات الصغرى والكبرى للقيامة، المهدي المنتظر.. إلخ، تنطلق كلها من فكرة أساس آمن بها على نحوٍ مضطرب ومتباين، كافة أتباع الديانات السماوية الثلاث، وهي أن للكون نهاية تبدأ بها "الحياة الآخرة"، وبالتالي فلابد لهذه النهاية من أن تكون تراجيدية، ولابد لتراجيديتها بالتالي من أن ترتبط بأحداثٍ غرائبية!!


وهنا مكمن الخلل والخطورة والمأساة!!


فالكون ليست له نهاية، إنما النهاية للحياة الإنسانية بشكلها الراهن لتنتقل إلى شكل مختلف، داخل هذا الكون، وضمن حدوده، ووفق نواميسه.. هذا أولا.


ونهاية الحياة بشكلها الراهن، وانتقالها إلى شكلها اللاحق، لن يحصلا بصورة تراجيدية ومأساوية كما يفهم الجميع، بل بأكثر صور الانتهاء والانتقال رقيا وسموا.. وهذا ثانيا.


أما أسباب انتهاء الحياة بشكلها الراهن، وانتقالها إلى شكلها المرتقب، فليست ناجمة عن قرار إلهي مفاجئ محاط بالطلسمية والغرائبية والرعب، ولا بمظاهر الدمار والكوارث التي سيشهدها الكون كما تؤكد على ذلك معتقدات آخر الزمان في الأديان الثلاثة، بل بسبب تطور إنساني في سلم المعرفة، يُمَكِّنُ الإنسان من إحداث هذه النقلة التي ستجعل منه سيدا للكون ضمن سياقات محددة، هي في ذاتها جزء لا يتجزأ من نواميس الكون.. وهذا ثالثا.


لذلك فإن مربط الفرس في هذه النقلة النوعية الفارقة التي سوف تفتح الباب الكوني واسعا أمام هذا التغيير الجذري في نظام الكون، هو انتصار الإنسان في رحلة تقدمه المعرفية والعلمية، على ما تمكن تسميته بـ "قانون الموت" أو "ناموس الموت".. وهذا رابعا.


وهذا يعني، أن الإنسان نفسُه هو من سيُخَلِّد نفسَه بهذا الانتصار، قاضيا من ثم على كل العناصر المرتبطة بهذه الظاهرة المرهقة، ألا وهي ظاهرة "الموت". وليس لله رب العالمين دخل مباشر في إحداث هذه النقلة، ودوره إنما هو من حيث أنه هو من خلق كل النواميس والقوانين والسنن التي بثها في هذا الكون، وهو من أتاح للإنسان من ثم القدرةَ على النمو والارتقاء في استخدامها، إلى أن يصل بها ومعها إلى هذه النقطة الفارقة العظيمة.. وهذا خامسا.


من الواضح والجلي أن الخلاف بين ما أقول به هنا، وبين ما هو سائد ومنتشر من معتقدات دينية – لدى أتباع الديانات الثلاثة - لها علاقة بآخر الزمان، ليس خلافا بسيطا ولا خلافا ثانويا، لأنه خلاف يؤول إلى خلافات أعمق في تصور ورؤية وفهم الإله سبحانه وتعالى، وفهم غايته وصفاته وذاته وإرادته، وبالتالي إلى خلاف حتمي – نتيجة هذا الخلاف الأول – في فهم مهمة الدين والنبوة وغاياتهما. وبالتالي فالخلاف في أصول المعرفة والفهم، وليس في دلالة نصوص هنا ونصوص هناك فقط!!


ولقد تجلت هذه الخلافات على صفحات هذا اللقاء الشيق، عبر قضايا اجتماعية وتشريعية كانت أقل خطورة مما تثيره المسألة الراهنة، التي يبدو أنها ستجرنا – رغما عنا – إلى البدء من نقطة الصفر "الانطلاق" المعرفية، كي نبني هرمنا المعرفي بشكل واضح ومتكامل، وذلك بهدف أن يكون الحوار مؤسسا لا فوضويا، وبناءً لا هداما، ومنتجا للمعرفة لا طفيليا عليها، ومؤديا إلى الحقيقة لا مبعدا عنها.


ولكني أجد نفسي مضطرا لشرح المضمون المعتقدي للنقاط الخمس سالفة الذكر، بما يتيحه لي الاختصار، وبحسب المنهج الذي ثبَّتُّه في كتابي "تجديد فهم الإسلام"، فقط كي أعطي بعض المؤشرات على الوجهة العامة لمنهجي في مقولة "القيامة والبعث وآخر الزمان.. إلخ". فالرد على كل المعتقدات السائدة سيكون منطوى حتما في هذا المنهج، ولن يكون باللجوء إلى كل نقطة على حده.


فإذا كان الكون لن ينتهي على النحو التراجيدي المذكور، وإذا كان البعث وبالتالي الانتقال إلى الحياة الأخرى لن يتم على النحو المتعارف عليه، فإن كل تلك القصص والحكايا التي تزخر بها الأديان الثلاثة لن تخرج عن إطار "المسحة أسطورية"، هذا إذا تجاوزنا عن التوظيف السياسي الخطير وغير البريء والمضلل والكارثي، لتلك الأساطير!!


فلنتابع..


أولا.. تحليل منطقي لسؤال: هل هناك حياة قادمة بعد الموت؟


إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي إعادةَ صياغته، لأنه بما هو عليه مُبْهَمٌ وغير واضح الدلالة، ومثيرٌ لِلَّبْس والغموض. فمنذ أن نشأت علاقات وقوانين الحياة في المادة وراحت تُطَوِّرُها منتقلة بها من مادة حية غير حاسة "نبات" إلى مادة حية حاسة "حيوان" إلى مادة حية حاسة واعية "إنسان"، والحياة ذاتها وفي كل مستوى من مستوياتها الثلاثة النباتي والحيواني والإنساني، تتواصل من خلال عَيِّناتٍ حية منفصلة بعضها عن البعض الآخر، تتفكك وتتحلل بموجب قوانين محددة عائدةً إلى المستويين الذري وما قبل الذري للمادة، إماَّ لتبقى على هذا الشكل، وإما ليُقَدَّر لذراتها ولجسيماتها ما قبل الذرية، ولجزيئاتها ما بعد الذرية، أن تسهم من جديد في بناء "حيواتٍ" جديدة في عينات حية جديدة، بصرف النظر عن نوع أو صنف العين المُسْهَم في بنائها، مادام تواصل النوع قد تحقق وفق قوانين التناسل والتكاثر بمختلف أشكالها.


وإذن فإذا كان المقصود من وراء طرح سؤال.. "هل هناك حياة بعد الموت؟"، هو التَّعَرُّف على ما يَحدث للكائن الحي بعد تَفَكُّكِ علاقات وقوانين الحياة فيه. أي – وبكلمة أخرى – ما يَحدث للمادة الحية بكل مستوياتها بعد أن يتحطم البناء الحيوي فيها، فمن الواضح أن الإجابة ستكون غاية في السهولة في ضوء الواقع المشاهد المحاط بدوائر حواسنا وتجاربنا، وهو على وجه التحديد ما ذكرناه في الفقرة السابقة. فمن ذا الذي يستطيع أن يَجزم أن إحدى الذرات المُكَوِّنَة لأنف الملكة إيليزابت الثانية، لم تكن قبل ستين مليون سنة، هي ذاتها إحدى الذرات المُكَوِّنَة لطُحلب إسكندنافي، لتغدو بعد ذلك بمليون سنة، ذرةً في براز قرد إفريقي منقرض؟!


وهل من غير الممكن أن تكون إحدى الذرات المُكَوِّنَة للحِبْر الذي طُبِعَت به رواية "الجريمة والعقاب" في ترجمتها الصينية الأولى، قد جاءت عبر رحلة طويلة في الزمان والمكان "التاريخ"، كانت فيها قبل مائة مليون عام، ذرة في أحد النيازك التي اصطدمت بالأرض في منطقة أستراليا، بعد أن أصبحت فيما بعد ذرة في وبر دب قطبي، ثم ذرة في سمكة سلمون اصطادها دب آخر، لتنتقل إلى ذرة في كبدِ أحد رجال "الإسكيمو" الذين غزوا آلاسكا، فكان وجبة دسمة لذئب مفترس أوصله الترحال إلى أن يموت في هضاب الأريزونا، لتستقر هذه الذرة في أحد مناجم الفحم، قبل أن تصل على شكل أحبار في رحلة تصنيعٍ طويلة، إلى المطبعة التي تولت طبع الكتاب المذكور؟!


هذا هو على وجه التحديد ما نعنيه بالتَّحَلُّل، وبحالة المادة التي كانت حية بعد أن تخضع لقوانينه، أي لقوانين التحلُل. إنها تعود إلى طبيعتها ما قبل الحية لتخضع من جديد إلى قوانين الطبيعة التي قد تذروها إلى حيث لا يتوقع أحد.. أما إذا كان المقصود من طرح السؤال، هو معرفة ما إذا كانت علاقات الحياة تعود لتُبْنَى من جديد، مُرْجِعَةً إلينا لا حياة جديدة عبر آلية التوالد والتناسل النوعي، بل الحياة التي تَفَكَّكَت بعينها بالموت، فنحن بالفعل أمام قضية تتطلب التحليل الدقيق.


كي تعودَ عَيِّنَةٌ حية بذاتها إلى الحياة بعد التَّحَلُّل يجب أن تكون عينةً على قدرٍ من الأهمية بحيث لا يستقيم الأمر بمجرد استمرارها في عَيِّناتٍ أخرى لاحقة تظهر إلى حيز الوجود بالتوالد والتناسل. وهذا بدوره يعني أنه كي تكتسب عينةٌ حية بذاتها أهمية البحث عن عودتها ذاتها إلى الحياة بعد أن تموت وتتحلل، يجب أن تكون هذه العينة مُتَّصِفَةً بصفة أساسية، كشرط موضوعي بدونه لا يغدو لطرح السؤال أي معنى على الإطلاق. وهذه الصفة الشرطية هي أن "تعيَ هذه العينة الحية ذاتَها" وأن "تعيَ أهمية هذه الذات"، وأن "تعيَ بالتالي الفروقات الماهية بينها كذاتٍ مُحدَّدَةٍ وبين غيرها من الذوات، سواء كانت ذواتٍ من نفس صنفها ونوعها أو من أصناف وأنواع أخرى". أي أن تستشعرَ هذه العينة الحية "أناها"، أي "الأنا" الخاصة بها.


إن هذا يعني قطعا أن يكون السؤال.. "هل هناك حياة قادمة بعد الموت؟" مطروحا من حيث المبدأ من قِبَلِ العيِّنَة المبحوثَ عن إمكان حياتها بعد الموت ذاتِها، وهي تستفسر عن حياتها هي بالذات بعد أن تَموت.


وإذا لم يتحقق هذا الشرط فلا معنى لهذا السؤال على الإطلاق.


إذ ما معنى البحث عن حياةٍ قادمةٍ بعد الموت لعَيِّنَةٍ حية لا تعي ذاتها، ولا تعرف إن كانت موجودة أو غير موجودة، ولا تُفَرِّقُ أدنى تفريق بين نفسها وبين أَيِّ عَيِّنَةٍ حيَّة أخرى سواء من جنسها أو من أي جنس أو نوع آخر من الأنواع الحية؟ بل ما معنى ذلك لعينة حية لا تعرف أن هناك ظاهرة اسمها الموت بكل دلالاتها التي نعرفها؟ أي ما الفرق بين زهرة نرجس وأخرى، أو بين شجرة بلوط وأخرى، أو بين قط وآخر، أو بين بعوضة وأخرى، من حيث أهمية العودة إلى الحياة بعد الموت بالمعنى الذي قصده السؤال، مادامت كل أزهار النرجس متشابهة ومتساوية في كل شيء ضمن دائرة تقع بالكامل خارج حدود الوعي والإرادة، وخارج دائرة الإحساس بالأنا والوعي بها، ومادامت أيُّ بعوضة منذ لحظة وجودها كعينٍ حيَّة ولغاية تفككها بالموت، لا تعي من وجودها ومن وجود ما حولها شيئا على الإطلاق، ومادام كل أدائها الحركي في الحياة، هو أداء تلقائي لا مكان للإرادة والوعي فيه، وبالتالي فلا مكان فيه للهوية من حيث المبدأ؟


إن تجاوز مسألة "الأنا" و"الهوية" في موضوع "عودة الحياة بعد الموت"، يؤدي قطعا إلى اعتبار تاريخ التطور المديد مجردَ لغوٍ، لا قيمة ولا معنى ولا هدف له سوى العبث.


فحيث لا وجود لـ "الأنا"، لا قيمة للموجود الحي، خارج حدود حياته المشاهدة، وخارج حدود دوره غير الواعي المنوط به في السياق التاريخي للمادة.


فإذا كان كل قط مشابه في تكوينه وفي أدائه لأي قط آخر دون أدنى فروقات، فما معنى أن يعود قط بعينه بعد تَفَكُّكِهِ بالموت إلى الحياة؟ هل هناك فرق بين أن يُعاد بناء الذرات التي تفككت لتصبح قطا هو ذاته القط الذي تفكك، وبين أن يولد قط من قط آخر بظاهرة التناسل وآلياتها وعلاقاتها وقوانينها، مركب بنفس طريقة تركيب القط الذي مات؟! إن إعادة بناء ذرات القط الذي مات تغدو لها قيمة ودلالة، إذا كان هذا البناء سيعيد قطاًّ يختلف – إن في الكثير أو في القليل – عن قط آخر مات أو عن قط آخر على قيد الحياة، اختلافا يدركه ويعيه القط العائد ذاتُه وتعيه القطط الموجودة الأخرى ذاتُها.


لكن مادام القط الذي مات مستمر بكامل مواصفاته في قط آخر، فإن الحديثَ عن إعادة البناء للعين نفسها هو حديث عابث لا معنى له. إن الفروقات بين الأعيان المادية تبدأ معانيها ودلالاتِها بالتَّشَكُّلِ عندما يكون مُكونُها الأساس قائماً على الفروق "الأنوية"، المرتكزة إلى فكرة "الأنا" والوعي بها، وفي غير هذه الحالة فالفروق عديمة الأهمية وبلا أدنى قيمة.


ثانيا.. الفرق بين الإحساس باللذة والوعي بها، هو مربط الفرس في حتمية البعث


إن الطبيعة تعيد الحياة باستمرار للنرجس وللقطط وللفئران وللبعوض وللطحالب وللديدان وللأزهار المختلفة، من خلال استمرار وتواصل دورة التفكك والترابط، لاستمرار النوع المؤدي لوظيفة مُحددة اقتضتها طبيعة المادة وقوانينها المودعة فيها. وإذن فلن يوقفنا إطلاقا مفهوم العين بذاتها، لأن أهمية النرجس تغدو أهمية نوع وليست أهمية عَيِّناتٍ بذاتها من هذا النوع. وكذلك كل أهمية لأي نوعٍ حي، باستثناء "الإنسان".


إن كل نوع من تلك الأنواع موجود ومستمر بالتكاثر لأداء دوره من غير وعي ولا إرادة ولا إدراك. وربما ينقرض هذا النوع إذا انتفت حاجة الطبيعة إليه، ولكن لا مكان لأعيان ذلك النوع في سُلَّم الأهمية القائمة على الوعي بالأنا، وعلى استشعار الهوية الذاتية، ليس داخل منظومات الكائنات ككل فقط، بل وداخل منظومة النوع الذي تنتمي إليه العينة ذاتها بالدرجة الأولى. أما بالنسبة للإنسان فإن الوضع مختلف اختلافا كُلَّياً، لأن الشرط المطلوب لتحقق أهمية السؤال ومعناه، متوفر ومتحقق توفراً وتَحققاً كاملين.. فكيف ذلك؟


إن كل عينٍ إنسانية هي عينٌ واعية بذاتها وبأهمية هذه الذات، كما أنها واعية أيضا بغيرها من الأعيان الإنسانية وغير الإنسانية، ومستشعرة للفروق بينها كذات وبين باقي ذوات نوعها من جهة، وبين ذوات نوعها وباقي الأنواع من جهة أخرى. إن "الأنا" إذن متحققة وتستغرق هذه المادة الحية المُسَمَّاة "إنسان"..


أليس كل إنسان يطرح سؤال.. "هل هناك حياة قادمة بعد الموت؟". وأن أي إنسان عندما يطرحه إنما يطرحه باحثا ومستفسرا عن مستقبله هو بالذات بعد الموت بالدرجة الأولى. أي أن لطرح السؤال بُعْدًا عينيا. بمعنى أنه يطرحه ليتعرف إذا كانت هناك حياة بعد الموت له هو ذاته بعيدا عن معاني تواصل الجنس البشري بالتناسل والتوالد.


وإذن فالإجابة على هذا السؤال يَجب أن تكون عليه بهذا المعنى، أي هل هناك حياة قادمة بعد الموت لكل عين إنسانية ماتت؟ هل تعود هذه العين بذاتها كي تُمارسَ الحياة بعد أن تموت؟ إن هذا يتطلب منا أن نتقدم خطوة في التحليل للتعرف على مدى ضرورة وأهمية الحياة بعد الموت..


فهل هناك حاجة وضرورة لأن تكون هناك حياة قادمة بعد الموت؟


لكي نجيب على هذا السؤال دعونا نتصور الحالة التي تخلو من الحياة بعد الموت.


وقبل ذلك فلنحدد ماهية الحياة قبل الموت.


إن المادة المُتَأَنْسِنَة قبل الموت، أي قبل تَحَلُّلِ الحياة الحاسة الواعية "المتروحنة" تمتاز عن الحيوات الحيوانية والنباتية التي لا معنى لعودة أعينها بعد الموت, بحقيقة بالغة الأهمية هي بيت القصيد في الموضوع كله. إنها "الوعي باللذة". وبالتالي بنقيضها أو بضدها "الوعي بالألم". إن الحيوانات وهي المرحلة المادية التي تحس باللذة ومن ثم بالألم خلافا للنباتات التي لا تحس باللذة وبالألم أساسا، فإنها تحسها دون أن تعيَها. والإحساس باللذة أو بالألم مهمة غير وعيوية. ولهذا السبب فإن تَحَلُّلَ الحياة وحدوث الموت في الحيوانات والنباتات ليس أكثر من تفكك وتحلل علاقات مادية قائمة بدون أن تكون هذه العلاقات واعية بذاتها على الإطلاق. فسواء كانت أو لم تكن فهي عند ذاتها سِياَّن. إن كينونتها لم تُضِفْ أيَّ شيء غير حسي أو غير حيوي إلى ذاتها، خلافا للإنسان الذي أضيفت إلى كينونته المادية الحية الحاسة حقيقة وعيها بذاتها، وهي المهمة المضافة بإسباغ صفة الألوهية عليها.


إن الفرق بين "الإحساس باللذة والألم" وبين "الوعي بهما"، هو أن الوعي مرحلة متقدمة على الإحساس. فلا يمكنه أن يعي اللذة إلاَّ كائن أحسها ابتداء. لكن ليس كل كائن أحسها فهو واع بها بالضرورة. إن مفهوم اللذة يتضح أكثر من خلال تصور الحرمان. فكائن ما واع باللذة، هو كذلك إذا كان قادرا على تَخَيُّل انعدامها. وهو بالفعل قادر على ذلك. الأمر الذي يَجعله قادرا من ثم على إجراء المقارنات بين الحالتين. أما إذا لم يكن الكائن قادرا على ذلك، فهو كائن غير واع بها, ولا تتجاوز علاقته باللذة عندئذ مُجرد الإحساس بها فور حدوثها أو فور إحساسه بالحاجة إليها وبشكل تلقائي وغريزي.


إضافة إلى ذلك، فإن هنالك أمورا هي عند الكائن الواعي عبارة عن لَذاَّتٍ، بينما هي عند الكائن غير الواعي ليست لَذاَّتٍ يحس بها أساسا، لأن هذا النوع من اللذات لا يتم الإحساس به إلاَّ إذا تم الوعي به أولا، كلذة الوجود والحياة، وكلذة المعرفة والوعي، وكلذة التفكير، وكلذة الوعي بالأنا وبالهوية، وكلذة إدراك الله والتأمل فيه وفي مطلقيته.. إلخ. إن هذه اللذات لا يمكن أن يُحِسَّ بها في الأساس إلا كائن واع بوجوده وبالوجود من حوله. والحيوان لا يعي شيئا من ذلك، فهو محروم قطعا من الإحساس بهذا النوع من اللذات.


إن الكائن غير الواعي باللذة هو كائن تنعدم لديه ملكة التخطيط للحصول عليها أو تطويرها أو العمل على تَجَنُّبِ انعدامها وفقدانها.. إلخ. وبالتالي فوجودُها في حياته أو عدم وجودِها سِياَّن لديه. وهي – أي اللذة – لا تعنيه إلاَّ عند الإحساس بضدها أي بالألم، أي عندما تضغط وتلح عليه، فيندفع نحو البحث عن إشباعها بغير وعي، وتنقطع كل ظلالها في حياته حال تَحقق هذا الإشباع، خلافا للواعي بها، فهو لا يفتأ يخطط ويفكر ويعمل لأجلها، بحيث أنه رغم إشباعه لها، فإنه يستمر في التفكير في كيفية معاودة إشباعها عندما تعود لتُلِحَّ عليه، لأنه يعي جيدا أنها ستعاود الإلحاح عليه. الوعي باللذة يترتب عليه القلق والخوف من انعدامها ومن فقدانها أو من عدم القدرة على الحصول عليها أو إشباعها.


هل من الصعب أن ننتبه إلى أن كل إنسان يصاب بالرعب إذا تَخيل أنه قد يعيش بدون الإحساس باللذة الجنسية بعد أن أحسها ووعاها. كما أنه يصاب برعب شبيه إذا عانى من تَخيل عدم القدرة على إشباعها وهو يحس بوقعها عليه. إن هذه الأحاسيس طبيعية وضرورية لدى الكائن الواعي باللذة.


إن اللذة ترتبط لدى الكائن الواعي بها بالحياة نفسها، وبهذه العلاقات التي منحته الحياة والإحساس، وانعدامها بالتالي يرتبط بانعدام الحياة وتفكك علاقاتها وعلاقات الإحساس من ثم. الخوف من الموت لدى الإنسان راجع إلى هذه النقطة بالذات. ليس في الموت ما يبعث على التفكير والقلق والخوف لدى هذا الكائن الواعي أكثر من فكرة "مستقبل اللذة"، التي ارتبطت في ذهنه بالحياة نفسها، باعتبار هذه الحياة الحاسة الواعية نفسها هي أكبر اللذات التي يعيها الإنسان. ونحن هنا نتحدث عن اللذة بأوسع معانيها.


إن الوعي باللذة مفهوم واسع سِعَة مفهومِ اللذة ذاتِها. فالوعي بالواقع والوعي بالحياة والوعي بالذات والوعي بالجمال والوعي بالله والوعي بالوعي ذاته، كل ذلك عبارة عن مظاهر وعي بأشكال مختلفة من اللذة. كذلك الوعي بالأحاسيس الغريزية هو أحد أهم أنواع الوعي باللذة الناتج عن الإحساس بأهمية لذة إشباع تلك الأحاسيس.


إن الوعي باللذة إذن يغطي كل نشاط الذهن الإنساني. وعندما ترتبط ظاهرة الموت بضياع هذه اللذة التي هي جوهر الحياة بالصورة التي يعيها الإنسان، فمن الطبيعي أن يصبح الموت بشعا ومخيفا ومقلقا ومرعبا ومثيرا لأقسى أنواع الرهبة والوحشة. إن فقدان اللذة التي تم الوعي بها وبروعتها وبجمالها وبأهميتها وضرورتها في حياتنا، والوقوع في دائرة الحرمان، هو أمر مؤلم ومخيف، مادام هناك وعي باللذة وبمعنى الحرمان منها. وهو ما ينطبق على الإنسان بكل تأكيد.


يُرْوى أن "محمد على باشا الأرناؤوطي" مؤسس مصر الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر، كان يَمر في موكب له في وسط مدينة القاهرة، فإذا برجل من العامة تبدو عليه علامات الصَّعْلَكَة والفقر المدقع يشتمه ويسبه بأقذع المسبات وبأنبى الكلمات، ويتهمه بإهمال شعبه وإفقاره من أجل إشباع طموحاته العسكرية. فما كان من "محمد على باشا" إلاَّ أن حال بينه وبين حرسه الذين حاولوا قتله، وأحضره إلى قصره، وبدأ في رفع مكانته وقدره، وراح يغرقه في ملذات الحياة من مال ونساء ونفوذ وجاه. وما هي إلاَّ سنة أو اثنتان حتى غدا هذا الرجل من أهم رجالات البلد وأغناهم وأكثرهم مالا وجاها وامتلاكا لمتع الحياة. عندئذ أحضره "محمد على" وقال له.. "الآن سأقتلك عقابا لك على شتمك لي قبل سنتين". فما كان من الرجل إلاَّ أن انهار وبدأ يرجو مولاه أن يعفوَ عنه. لن نكمل القصة فنهايتها لا تهمنا.


إن كل الذي يستوقفنا في هذه الرواية – إن صحت – أن محمد على باشا أدرك أن هذا الرجل المِشْتام ما كان ليحس بأنه خسر شيئا لو أنه قتله فور شتمه له وهو على فقره وصعلكته. بل ربما أنه كان يتوقع الموت في تلك اللحظة غير مبال به، إذ ما الذي سيخسره بهذا الموت. ولكي يجعل من قرار قتله مصدر ألم له، أحياه اللذة بكل أشكالها. ولهذا السبب فإن الرجل قد شعر بعد أن عاش اللذة ووعاها – إن صح التعبير – أن الموت خسارة حقيقية لشيء كبير ومُحَبَّب يَحرص على ألاَّ يفقده، وكان لفقدانه له معنى موحشا ووقعا مؤلما. إنه مجرد مثال لتقريب الصورة التي من المؤكد أنها اتضحت.


إن التطور الذي وصلت إليه المادة بأن أصبحت كلُّ عين إنسانية واعية باللذة، هو تطورٌ باتجاه "الفردانية". ولا يُرَدُ على ذلك بالقول باستمرار الوعي باللذة في أعيانٍ أخرى، لأن الأعيان الأخرى تعي لَذاَّتِها هي ولا تعي لَذاَّتِ الأعيان الميتة، وإن كانت تعي أن لتلك الأعيان لَذاَّتِهاَ أيضا. وبكلمة أخرى فإن الإحساس بالأنا والوعي بها هو قضية فردية لا تتحول بأي شكل من الأشكال إلى قضية جماعية، ولا يُغْني وعيٌ بـ "أنا" عن الوعي بـ "أنا" أخرى أبدا. إن الوعي باللذة إذن هو مُعْطىً فرديٌّ وليس معطىً جماعياًّ. ليست هناك روح جماعية – على وجه الحقيقة – تعي اللذة في سياق جماعي. حتى الإحساسُ بِمتعة التَّجَمُّعِ وبلذة التَّجَمْهُرِ وبضرورة التَّكَتُّلِ، هو إحساسٌ فردي يستغرق الأفرادَ واحداً واحداً، ولا معنى للقول بأنه إحساسٌ جمعي.


ففكرة "الجَمْعِيَّة" هي فكرةُ قراءةٍ في تراكمِ النشاطات الفردية ضمن ما يَحكمها من قوانين كاشفةٍ لآليات تراكمها. وبالتالي فمن الخطأ القول بأنه مادامت الجماعة مستمرة في جماعة أخرى لاحقة، ومادام كل فرد لاحق سوف يعي لَذَّتَه، فليست هناك مشكلة في موت الأفراد السابقين موتا نهائيا لا رجعة لهم بعده. نعم، إن هذا القولَ خطأٌ، لأن المهم في حادثة الموت هو الفرد الذي مات من حيث وعيه هو بلذته بصورة فردانية مَحض. فإذا لم تستمر حالة الوعي باللذة، أو إذا لم تعد مرة أخرى في كل فرد على حِدَه، فإن هناك معضلةً أخلاقيةً حقيقيةً. ولن يكفي وجود واعين آخرين بِلَذاَّتِهم جاءوا بعد الميت الذي انقطع وعيُه بِلَذاَّتِه لحظة موته كي نعتبر أن المعضلة قد حُلَّت.


إن الوعي باللذة في المحصلة ليس كيانا مستقلا موجودا داخل الجماعة بانفصالٍ تام عن كل الذوات والأعيان الواعية. إنه ليس مؤسسة جماعية لا يهمنا فيها إلاَّ وجودُها في قلب الجماعة. بل هو كينونة فردية متأصلة ومتجذرة في أعماق كل فرد وفي "أناه". وبالتالي فإذا كان هذا هو حال الوعي باللذة وهذه هي حقيقته، فإن حرمان الإنسان منه ومنها – أي من الوعي باللذة ومن اللذة نفسها مادام الوعي بها قد تَحقق – بصورةٍ عينيةٍ فرديةٍ، ظلمٌ يتعارض منذ البدء مع مفهوم العدل الإلهي.


قد يقول قائل إنه بعد الموت وتفكك علاقات وقوانين الحياة والإحساس فلا وجود للوعي باللذة ولا للذة أساسا، لأن الذات الواعية "المتروحنة" لم يعد لها وجود. فلا توجد لذة إذن كي يتم الوعي بها، ولا يوجد وعي ولا توجد أداة وعي كي يتم هذا الوعي. وبالتالي فليس هناك إحساس بالحرمان أو وعي بهذا الحرمان المتحقق بالموت. وإذن فليست هناك مشكلة في عدم عودة الحياة بعد الموت على المستوى الفردي العيني، لأن معنى الظلم غير متحقق في فعل الخلق الإلهي. وليس في ذلك ما يتعارض مع مفهوم العدل الذي هو مقتضى ذلك الفعل.


إن هذا القول غير صحيح البَتَّة، وهو يغفل عن حقيقةٍ غايةٍ في الأهمية. فلو كان الإنسان أثناء الحياة وخلال وعيه بلَذَّتِه يعرف يقينا أنه سيُحْرَم من هذه اللذة بعد الموت حرمانا نهائيا بعدم عودة الحياة إليه، حتى وإن كان يعي أيضا – وهو بالفعل يعي – أنه لن يُحسَّ بالحرمان ولن يعيَه بسبب فقدان الإحساس والوعي به بعد الموت، فإنه سيتألم في حياته رغم ذلك، وسيعتبر أن هناك مؤامرة تُحاكُ ضده مستغلةً عجزَه عن مواجهتها، ومستغلةً طبيعته المفروضة عليه، وذلك للتلاعب بمستقبله وبِمشاعره وأحاسيسه ووعيه، غير مباليةٍ بآلامه وعذاباته، كل ذلك في مستوىً من الاستهتار واللامسؤولية يعصى على الفهم ويَمتنع في حق الخالق العادل.


إن الإنسان يرى أن من حقه ألاَّ يتنازل عن المستوى الذي وصل إليه في سُلَّمِ التطور. فإذا كانت ملذاته وإذا كان الوعي بها هما هذا المستوى، فإنه يستشعر بالتالي أن من حقه المحافظة على هذه الملذات وعدم حرمانه منها حرمانا أبديا بعد أن عاشها وأحسها ووعاها. إنه يفهم جيدا وبصورة حاسمة قاطعة أن حرمانه منها ظلم. إن المعاناة التي سيعانيها لمجرد هذا التصور، هي نوع من التعذيب والإيذاء لا يتصف بهما فعل الله لأنهما يجعلانه متعارضا على الفور مع مقتضاه العادل بالضرورة.


إن قبول الإنسان بفكرة السُّبات بعد الحياة من خلال ظاهرة الموت استعدادا لحياة أخرى قادمة في زمن ما، لا يعني أنه قبل الحرمان بمعناه المطلق الذي تفرضه معادلة "لا حياة قادمة بعد الموت"، لأنه كما يقبل أن ينام فيحرم من اللذات مؤقتا كل يوم لتحقيق لذة أخرى قد تكون هي الراحة من متاعب ذلك اليوم، فإنه لن يعجز عن النظر إلى مرحلة السُّبات بعد الموت وما قبل الحياة الأخرى باعتبارها مُجرد فترةِ راحةٍ من عناء المتاعب والهرم الذي قُدِّرَ له أن يكون رفيقا للمادة الحية الحاسة الواعية لحقبٍ طويلة من الأزمنة وهي تتطور نحو الخلود والبقاء والديمومة، ليعود يوما ما إلى حياةٍ لا هرم فيها ولا موت.


إن حقيقة فقدان الوعي المؤقت خلال فترة سبات الموت، بكل ما يعنيه ذلك من حرمان مؤقت أيضا، لا تتعارض مع حقيقة أخرى تنطوي على طموح الإنسان بحكم طبيعته المقررة لحظة الخلق الأولى إلى العودة إلى نوع من الحياة الدائمة الخالدة تتيح له التَّمَرُّغ في لذاته وفي وعيه بها، شأنه في ذلك شأن قبوله بالنوم أثناء حياته كل يوم كي يعاود الانطلاق من جديد إلى عالم اللذة والوعي بها.


أما إذا كان الله سَيُفْهِم الإنسان بشكل من الأشكال، سواء بالتحليل المنطقي العقلاني كالذي نقوم به هنا، أو من خلال الاتصال المباشر كما نصت على ذلك النبوات، أنه سيعيده إلى الحياة بعد الموت، كي يُخففَ عنه عبء القلق من الموت، ثم لا يعيده إلى الحياة مرة أخرى رهانا منه – أي الله – على أنه أحيى الإنسان بعيدا عن القلق والخوف والوحشة ثم أماته على هذه الحالة الآمنة، وأفقده وعيه، وبالتالي فليست هناك عذابات عانى منها. فهو – أي الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا – ليس في واقع الأمر سوى مُخادع كبير، وهو صورة طبق الأصل عن "محمد علي باشا الأرناؤوطي" في مثالنا السابق. ولن نعيي أنفسنا في إثبات أن هذا التصور أبعد ما يكون عن الحقيقة لتعارضه أشد التعارض مع ألوهيته.


هذا إذا تجاوزنا عن حقيقة هامة ينبض بها الوجود في كل لحظة، وهي أن الإنسان في كل مرحلة من مراحل حياته هو أكثر رقيا وتقدما واستمتاعا بالحياة وبِملذاتها من الإنسان في مراحل سابقة، بِما في ذلك أن الإنسان في يوم من الأيام سيحقق لنفسه الخلود منتصرا على الموت، وهو ما يعني قطعا أن الكون كله مركب بطريقة خاطئة قوامُها الظلم والأنانية والمحاباة والاستعباد. إذ ماذا يمكننا أن نسمي ظاهرةً مفادها أن يُسْهِمَ عشرات المليارات من الناس بجهودهم المتواصلة عبر التاريخ في القضاء على الموت وتَحقيق الخلود لهذا الكائن الواعي، في الوقت الذي لن تُتاَحَ لأيٍّ من أولئك الضحايا في هذه الرحلة الطويلة والمريرة، فرصةَ الاستمتاع بهذا الإنجاز الذي لن يستحوذ عليه إلاَّ جيل محظوظ وحيد هو الجيل الذي تم حقنه بِحُقَنِ الخلود، والذي تم بالصدفة المحضة أن تواجد في الزمن الذي اسْتُكْمِلَ فيه هذا الإنجاز؟؟!!


من جهة أخرى، لست أدري لماذا يَجب أن أحترم القوانين الناظمة لحياة الإنسان الاجتماعي، ولا لماذا عليَّ أن ألتزم بالحصول على الملذات في حدود ما تتيحه تلك القوانين فقط. لا بل ليس مِماَّ بوسعي أن أفهمَه، تنازلي عن حَقٍّ أفترضه لنفسي تُعَسُّفاً وبدون استشارة أحد أو النظر في مصلحة أحد أو مراعاتِها، وهو حقي في استعباد كل البشر وامتلاك كل النساء والتحكم في كل شيء في هذا العالم لملذاتي ونزواتي ومنافعي الخاصة، حتى لو كان ثَمن ذلك موت ملايين البشر مسحوقين تحت أقدامي جوعا وعطشا وقهرا. أي أنني لست أدري لماذا لا أكون مركز العالم وإلهه وربه الأعلى الذي لا يُرَدُّ له طلب، حين يطلب والذي لا يسأل عما يفعل عندما يفعل مهما فعل، مادمت لن أعيش سوى فترةٍ محدودة من الزمن سأُحْرَمُ بعدها من كل الملذات التي أحبها وأشتهيها، مُتحولا فجأة إلى ذراتٍ لا تحس ولا تعي ولا تنتظر لا بعثا ولا حسابا ولا عقابا على فعلٍ اقترفته، وينتهي الأمر؟ هل يستطيع عاقل أن يتصور شكلَ العالم لو أن كلَّ إنسانٍ علم أنه لن يعود ليعيش بعد الموت، وفكر مثلما فكرت أنا هنا؟ إنني أترك ذلك لخيال القارئ.


إن الأخلاقَ وكلَّ ما ينبثق عنها من مفاهيم ونظم وآليات، تقتضي حتما وجودَ حياةٍ قادمة بعد الموت. وتفقد هذه الأخلاقُ وكاملُ حيثياتِها قيمتَها وأهمِيتَها وضرورتَها لولا ارتباطها السحري الغامض – بالشكل الذي ارتآه الله عندما قال للمادة كوني فكانت – بِحَبْلٍ سِرِّيٍّ من المعاني الغامضة واللامرئية بهذه الرغبة العارمة والشوق الشَّبقي إلى تلك الحياة. ولقد أشبعت فكرة دور الأخلاق في إقرار فكرة الخلود بحثا على مدى التاريخ، فلن نطيل فيها الحديث.


نعم.. إنه لا يوجد سوى حلٍّ وحيد لفك كل هذه التعارضات ولحلِّ كل هذه التناقضات، ولكي تستقيم الأمور بصورة موزونة ومنسجمة مع الله وصفته وفعله ومقتضى فعله، وهذا الحل هو أن يعود الإنسان الميت إلى الحياة بعد الموت واعيا باللذة وحاسا بِها بطبيعة الحال، مادام لن يعيها دون أن يُحس بها، ومادامت أناهُ لن تتحقق حتى بعودته حيا لو فقد ذاكرته ونسي ماضيه. فتاريخ الإنسان العيني والفردي جزء لا يتجزأ من تركيبة ذهنه ووعيه عندما يعود إلى الحياة مُجددا، إلاَّ فيما يُعتبر نسيانه وشطبه من الذاكرة تَحقيقا لمصلحته وإكراما لشخصه ولذاته وحفاظا على كرامته.


تُرَى ما هو إحساس إنسان عودناه على الدفء وغمرناه به إلى أن بات الدفء في حياته واقعا لا ينفصل عنها ولا يتصور لها استمرارا بدونه، لكنه يعلم مع ذلك وخلال فترةِ تَمَتُّعِه بِهذا الدفء الغامر أنه سينتقل حتما بعد برهة من الزمن إلى مكان سيبقى فيه على الدوام وسط صقيع قاتل؟ ألا يشبه هذا الإحساسُ إحساسَ الإنسان وهو يعي لَذاَّتِه التي يُحسها ويعيشها ويفهم مع ذلك أن نهايتَه عدمٌ وفناءٌ بارد كالزمهرير، لا إحساس فيه ولا حياة ولا وعي؟


خلاصة القول إذن أن الاعتقاد بعدم وجود حياة قادمةٍ بعد الموت للأفراد بأعيانهم هو اعتقاد غير عقلاني، وفيه مخالفة قاطعة وصريحة لنظام الكون ولصفة الله "الألوهية". فلابد لكل إنسان من أن يعيش مرة أخرى بعد الموت. أما كيف سيكون ذلك، وما هي طبيعة تلك الحياة، ومتى ستكون، فهذا موضوع آخر مختلف سنتطرق إليه فيما يلي..


فما هي أولاًّ طبيعة الحياة بعد الموت؟


ثالثا.. فكرة تخليد الحياة ودور الإنسان فيها


لو كانت الحياة التي سيعيشها الإنسان بعد الموت تأتي في التوقيت الزمني بعد الموت مباشرة، لما كان هناك داعٍ لأن يَموت أساسا. لأنه كي يعيش ويُحس باللذة ويعيها وفق مستوى العلاقات والقوانين المادية الحية الحاسة الواعية، وجبَ أن يعاد تركيبه من جديد وعلى الفور وبنفس طريقة تركيبه في الحياة، أي إعادته إليها فور خروجه منها، وعندئذ فلماذا حصل الموت إذن من حيث المبدأ؟ في ضوء هذه الحقيقة فلا حياة بعد الموت مباشرة. فبعد تَحَطُّمِ علاقات الحياة في الإنسان وتَحَلُّلِ وتفكك المادة المُتَأَنْسِنَة لتعود إلى أصلها الذري وما قبل الذري، يبقى الحال – حال المادة الميتة – على ما هو عليه إلى إشعارٍ آخر. وإذن فمتى سيبعث الإنسان الميت إلى الحياة مرة أخرى؟


فلنتابع مرة أخرى حياة الإنسان..


الإنسان – العين – يبدأ بالتكون عبر التواصل الطبيعي بين الذكر والأنثى. وهو خلال حياته يستخدم وعيه "ألوهيته الصغيرة" في تطوير ذاته وواقعه باتجاه الكمال سواء على مستواه العياني أو على مستواه النوعي. إن في وعي الإنسان نزعة طبيعية بِحكم ألوهية هذا الوعي للتَّطَلُّع إلى الألوهية ذاتها. وبما أن الوعي مسألة فردية عيانية، فإن نزعة الألوهية "التَّأَلُّه" لديه هي نزعة فردية في الأصل وفي الغاية. فالإنسان – العين – ينزع إلى أن يكون "إلها" بذاته وبعينه كفرد، دون الاكتفاء بأن تَتَّصِفَ الجماعة الإنسانية بذلك. إن الصفة الجماعية في حياة الإنسان هي لحظة مؤقتة مهما طالت، اقتضتها وتطلبتها طبيعة السياق التطوري الدافع باتجاه الألوهية الفردانية "التأله الفردي".. ماذا يعني هذا؟


إنه يعني حقيقة مهمة، هي أن الحالة المجتمعية هي حاجة فردية في الأساس. أي أن المجتمع الإنساني هو في الأساس دفعة تاريخية باتجاه خدمة "الفردانية العيانية" وهي تصبو إلى الكمال، إلى التَّأَلُّه، إلى تخليد الحياة الحاسة المتأنسنة وإنقاذها من الخضوع المرعب - الذي رافقها منذ بدأت - للموت والتَّحَلُّل. وعندما يتحقق ذلك – أي الانتصار على الموت – تنتفي الحاجة إلى المجتمع، أو على الأقل تبدأ مسيرة العد التنازلي المتسارعة في عمر اللحظة الاجتماعية من عمر الإنسان "النوع". أو بتعبير آخر تكون اللحظة الاجتماعية في تاريخ تطور المادة قد أدت الغرض منها وانتهت الحاجة إليها، فيزول المجتمع من الواقع ويغدو البشر أفرادا "آلهة صغيرة" خالدين لا يموتون وفي غير حاجة إلى أكثر من الوعي باللذة التي يحيونها ويُحسون بها والتي ستترتب على هذا الخلود شكلا ومضمونا.


أليس مِماَّ يساعدنا على تخيل هذه الحقيقة استحضار تلك الصور التي تطرحها الأديان عن الحياة في الجنة؟ الخلود لكل فرد، الحديث كله عن الإنسان الفرد. لا حاجة للجماعة كبناء مَصْلَحي. وإذا كان الأفراد يتواجدون متجاورين، فإن تَعاَيُشَهم على هذا النحو من التجاور ليس أكثر من أمرٍ واقع لا ينطوي على معنى حاجة أي منهم إلى الآخرين، إلاَّ في حدود طبيعة الملذات وطريقة إشباعها. فإن كانت هناك لذة جنسية بمعناها الحالي، فربما كانت هناك حاجة لأن تتولد أشكال من العلاقات بين الرجال والنساء تعبر عن الحاجة المتبادلة.


مع مرور الوقت سيتوصل الإنسان إلى حالة "عدم الموت"، وذلك بتخليص الكائن الواعي "الإنسان" من مُسَبِّبات الموت الثلاثة الشهيرة والمعروفة، وهي "الهرم" و"المرض" و"الحوادث" وهي "الإرتطام والاحتراق والاختناق والتبخر والذوبان والتمزُّق.. إلخ". أي أنه سيتمكن من القضاء على كل الأسباب الداعية إلى تَحطم قوانين الحياة والتي تُحَلِّل وتُفَكٍّك المادة الحية الحاسة الواعية، في هذه الدورة الرتيبة من الولادة والموت، أو في تلك المعركة الأبدية مع المرض، أو في مواجهة كل أنواع الحوادث التي اعتبرت ولا زالت أكبر من قدرة المادة الحية على مقاومة هجمة الموت المفاجئة.


وبهذا فإن الإنسان يُحقق لها – أي للحياة – بالتالي الخلود "البقاء". والخلود أو البقاء هو بتعبير أكثر دقة ودلالة، تحريرٌ للمادة من الخضوع للقانون المضاد. فقانون الجاذبية مثلا يقضي بسقوط الأجسام نَحو الأسفل. فإذا كان الموت بالنسبة للأجسام في إطار ظاهرة الجاذبية يتمثل في سقوطها نحو الأسفل، وهو ما يُمكن اعتباره بمثابة قانون موتها الخاص. فإن تَحَرُّرَها من هذا القانون وعدم انجذابِها نحو الأسفل – أو عدم موتِها الموت الخاص بها – إن صح التعبير، هو تخليد لها، لأنها انعتقت في الواقع من مُسَبِّبِ الموت الخاص هذا.


إن اكتشاف أي قانون طبيعي عندما يعني توظيفَه والاستفادةَ منه، فهو إنما يعني التحرر من أَسْرِه ووطأته علينا، وبالتالي من تأثيره في حياتنا. إن سيطرةَ الإنسان على المادة تنمو، ما يعني أن تَحرره من وطأة قوانينها وعلاقاتها ينمو كلما اكتشف تلك القوانين والعلاقات وفهمها. وبالتالي فكما أن الإنسان حرَّرَ ذاتَه من أَسْرِ الجاذبية، أي حرَّرَ مادته من أسر هذا الموت الخاص وهو الانجذاب إلى الأرض، فليس هناك ما يَمنع من حيث المبدأ من أن تستمر عملية تحرير المادة الواعية من القوانين التي تَخضع لها، إلى أن تصل إلى التحرر من كل القوانين، فتصبح مادة فوق القانون، أي مادة مُتَأَلِّهَةً قادرة على خلق القوانين بعد أن كانت فيما مضى خاضعة لها.


إن آخر ما يمكن للإنسان أن يتحرر منه من بين مَجموعة القوانين التي تَحكم حياته هي قوانين الموت، لأنها أكثر القوانين تعقيدا وسطوة وقهرا. لذلك كان الخلود، أو تخليد الحياة الواعية، مرحلةً متقدمة جدا في حياة الإنسان وفي سُلَّمِ تطوره. إنَّها مرحلة لا نستطيع تَخيل شكل الواقع المحيط بالإنسان لحظة وصوله إليها.


إن حالة عدم الموت ستتلاقى قطعا مع مجموعة علاقات هامة ذات صلة مباشرة بها. فحيث الخلود واللاموت مثلا، فلا معنى لوجود ظاهرة الولادة والتناسل والتكاثر، ولا معنى من ثم لوجود المؤسسات التي ابتكرها الإنسان مما له علاقة بالحياة والموت والولادة، وعلى رأسها بطبيعة الحال مؤسسة الأسرة. إن تصور حالة انتفاء الموت وبقاء واستمرار عملية التوالد والتناسل هو تصور مفعم بالتناقضات. فهذه العمليات وما ارتبط بها من مؤسسات كانت أداء طبيعيا للمادة المتطورة وهي تصبو بالحياة إلى هذه المرحلة، مُحَافِظَةً من خلالها على النوع الإنساني الذي من غير المحافظة عليه كنوع ما كانت لتحققَ الغاية من وجوده أساسا، بل لما وُجِد هو في الأساس.


وإن انتفاء الموت في واقع الحياة يعني وصول المادة الحية الحاسة الواعية إلى درجات متقدمة جدا في مسيرة الكمال في طبيعة الحياة، وليس في مستوى الوعي فقط. ويعني من ثم تَحررها من وطأة قانون النمو الذي ينطوي الخاضع له على نقص يتعارض منذ البدء مع مستوى الكمال الحياتي المفترض في حالة الخلود. وبالتالي فلا يمكن أن تجتمع ظاهرة خلود المادة الحية وتحررها من وطأة الموت، مع ظاهرة التناسل والتوالد والنمو في واقع واحد، فهذا مستحيل وغير منسجم مع طبيعة الأمور. وإذا كان الموت بطبيعته هو نتاج واقع تهيمن عليه ظاهرة النمو في المادة الحية، فإن حالة اللاموت ستتحقق، وما كانت إلاَّ لتتحقق في واقع تحرر من علاقات النمو المعروفة بالكامل، وإن كان من الممكن أن تَحكمه علاقات نُمُوِّ من نوع مختلف لا تخطر لنا على بال، تجعله ينمو ضمن معادلة الخلود ذاتها، مع اعترافنا بعدم أهمية وجدوى البحث في هذه المسألة حاليا.


وإذن فإن العمليات الحيوية التي ترتبط بالنمو سوف تؤول قطعا إلى زوال، كالتغذية والتنفس وإفراز الفضلات الزائدة من الجسم. ولن تكون هناك أمراض ولن تكون شيخوخة ولا هرم. ألا يُذَكِّرُنا هذا الوضع المُبْهِرُ للحياة، بطبيعة الحياة في الجنة كما ذكرتْها الأديان، وكما تحدث عنها الأنبياء؟! حيث تتحول الملذات المرتبطة بظاهرتي النمو والتوالد من متع وملذات متعلقة بغيرها إلى ملذات مطلوبة لذاتها، وإن كنا لا نستطيع أن نتصور كيف سيكون حال تلبيتها واستشعارها وتَحقيقها في حياة الإنسان آنذاك. ناهيك عن أننا لا نستطيع أن نجزم بعدم ظهور حشد جديد من المتع والملذات ترتبط بطبيعة وكينونة الحياة والإحساس والوعي الذي سيكون قد وصل إليه الإنسان في ذلك الوقت.


إن هذا المستوى من التطور – تخليد المادة الحية الحاسة الواعية – هو في الواقع نتاجٌ لدرجة عالية من الوعي وهو يعمل في المادة حفرا ونَحتا وتجميلا باتجاه الكمال. هذا يعني قطعا أن الإنسان عندما يصل إلى هذا المستوى من التطور سيكون قد قطع أشواطا كبيرة جدا من التطور في مجال السيطرة على الطبيعة واستخدامها لملذاته. وسيكون بتخليده لحياته قد استغنى أيضا عن القانون "التشريع" أساسا، لأن الحاجة إليه ستنتفي. لن يكون هناك قاتل ومقتول، ولا سارق ولا مسروق، ولا مُغْتَصِب ولا مُغْتَصَب، ولا معتدٍ ولا معتدىً عليه. حتى اللذة الجنسية سيكون التطور قد نظمها ونَما بِها إلى صيغة يُقْضَى فيها على كل معاني ومفاهيم الاعتداء الممكنة والمتصورة، بحيث تنعدم فيها الأحاسيس المؤلمة كالغيرة، ولن تكون هناك حالة اسمها الخيانة الزوجية أو الخيانة الجنسية عموما.


أما كيف سيكون ذلك وكيف يُمكنه أن يتحقق فهو مِماَّ يخرج عن موضوعنا هنا، بل هو مِماَّ يخرج عن حدود إدراكاتنا الحالية. يكفينا أن نقرر في هذا الصدد أن ظاهرة الموت هي أساس كل النواقص التي تعتري حياة البشر. وبالتالي فحيث لا وجود لظاهرة الموت فلا وجود حتما لكل ما يعانيه البشر بسببها من تعادٍ واقتتال وتصادم وخوف وقلق.. إلخ. فنحن نَختلف ونتصارع ونقتتل ونتنافس لسبب بسيط هو أننا نَموت، ولو لم نكن نَموت لما كان هناك من داعٍ لأيِّ شكل من أشكال الصراع. فالخلود الذي هو نقيض الموت عُلُوٌّ وسُمُوٌّ على كل قوانين الحياة المرتبطة بظاهرة الموت.


الخلود تَحَرُّرٌ، والتحرر انعتاق من القانون المُقَيِّد للحركة، وإن كل إحساس مقيد للحركة وللانطلاق هو نتاج حالة أو علاقة سيكون الخالد قد تَحرر منها حتما. أما كيف سيكون ذلك، فهذا ما لا نعرفه حاليا وما لا نعتبر أن معرفتنا به وبتفاصيله بمستوى وعينا وتطورنا الحالي ذات أهمية. فتصورنا للعالم كيف سيكون بعد ألف عام يعتبر ضربا من ضروب العبث ويُعتبر عملية مرهقة للذهن، وهو مع ذلك بلا معنى وعديم الفائدة على الإطلاق. فكيف بتخيل حالته وصورته بعد مليون سنة أو بعد مليار سنة مثلا؟!


في ضوء ما سبق من تَصَوُّرٍ كُلِّيٍّ للمستقبل الإنساني، تغدو الحياة بعد الموت عملية استعادة لأولئك الذين ماتوا قبل أن يتوصل الإنسان إلى هذا المستوى من التقدم، وهو تخليد حياته. وهذا حقهم بمقتضى صفة العدل في فعل الخلق. فمنذ اللحظة التي ظهرت فيها أول حياة حاسة واعية "أول إنسان" ولغاية اللحظة التي سيموت فيها آخر إنسان، هناك عدد كبير من البشر عاشوا وماتوا وأسهموا بشكل أو بآخر في النتيجة "الخلود". الحياة بعد الموت تَخصهم هم على وجه التحديد. إن ما تسميه الأديان بـ "البعث" أو ما تسميه بـ "يوم القيامة" أو بـ "اليوم الآخر" أو "النشور".. إلخ، إنما يعنيهم هم ولا يعني أحداً غيرهم.


وهكذا فعندما يصل الإنسان إلى الخلود، سنكون بصدد واقع فيه عدد من أعيان الناس على قيد الحياة لا يعتريهم الفناء والموت وهم خالدون، وعدد آخر مِمَّن ماتوا عبر مسيرة التطور المديدة، وهم يَملكون حق العودة إلى الحياة كي يستمتعوا إلى جانب الأحياء بِمميزات الحضارة والتطور التي أسهموا فيها فيما كانوا بِحكم طبائع الأمور محرومين من أعظم نتيجة لها "الخلود". لتبدأ بعد ذلك ومنذ البعث مرحلة جديدة من تاريخ الوعي الإنساني، قائمة على خلود المادة الحية الحاسة الواعية، وهي المرحلة التي سينشغل فيها هذا الوعي بقضايا مختلفة وجديدة بعد أن يكون فد تحرر من أهم وأخطر حلقات القوانين المادية، مُسَرِّعاً خطاه في رحلة لا تنتهي نحو الله الذي لن يُدْرَك أبدا.


وختاما لهذا الموضوع – البعث – نجد لزاما علينا أن نتطرق لمسألة هامة ذات علاقة وثيقة به، ألا وهي مسألة مستويات التطور التي سيخضع لها الوعي والتي ستخضع لها المادة الواعية بعد تخليد الحياة والقضاء على الموت.


إذا كان تخليد المادة الحية الحاسة الواعية هو بِمثابة تدشينٍ لمرحلةٍ من تاريخ هذه المادة تعتبر أهم سِمَةٍ من سِماتِها الفردانية على حساب الجماعية، ودخول الإنسان مرحلة الخلق بعد مرحلة الاكتشاف والسيطرة على القانون والانتفاع به فقط. فهل هناك آفاق لتصورِ بعضِ ما يمكنه أن يحدث للوعي وللإنسان خلال هذه المسيرة الأبدية؟


بكل تأكيد – كما اتضح لنا سابقا – إن إرادة الله قد وقعت على خلقِ إرادةٍ تشبه إرادته، اقتضت طبيعة القدرة الإلهية أن يتحقق كمالها بنموها فيه وصوبَه إلى الأبد، في رحلة سرمدية لا تنتهي. وإذن فإن جوهر الوجود هو النمو والتطور في المطلق صوب المطلق. وإذا كنا نقف مبهورين أمام حجم ما اعترى الكون والوجود من تطور خلال عدة مليارات من السنين أدت بالمادة العجماء في نهاية المطاف إلى أن تعي ذاتها في الإنسان. وإذا كنا نصاب بالدوار لحجم التغير الذي اعترى الوعي في عدة آلاف من السنين، بما انعكس على الواقع بمستويات مختلفة من النمو في تلك الرحلة السرمدية. فهل يمكننا أن نحافظ على توازننا إذا أطلقنا لخيالنا العنان كي يتصور جزءا ولو يسيرا مِما يمكنه أن يحدث خلال عدة ملايين من السنين قادمة من نُمو الوعي؟!


إن ملاحظةً خاطفة نلقيها على معادلة التطور والنمو التي خضعت لها المادة منذ ما قبل أن تكون حية، بل ومنذ ما قبل أن تكون ذرية، تكشف لنا عن هوية هذه المعادلة المرعبة في كونها تعكس تسارعا مهولا في التطور كلما حدث تطور. إن هناك علاقة طلسمية غريبة يؤثر بها قانون التطور على نفسه. فهو يطور المادة بسرعة "س" لتصل إلى مستوىً "أ"، وعندما تصل إلى هذا المستوى، فإن تطورَها نحو المستوى الذي يليه وهو "ب" يتسارع بحيث تغدو سرعة التطور نحوه أكثر بكثير من "س"، وتستمر عملية التسارع وسوف تستمر، بحيث أن حجم التطور الذي قد يعتري الإنسان في جزء واحد فقط من مليون جزء من الثانية بعد مليون مليون سنة من الآن، قد يكافئ حجم التطور الذي سيكون قد حصل خلال عشر مليارات كاملة من السنوات من عصور التكنولوجيا المتطورة جدا.


وهنا نتساءل ذلك التساؤل المثير. هل سيبقى الإنسان إنسانا؟!


في الحقيقة لن تَهمنا التسمية الاصطلاحية هذه، لأننا في الواقع إنما نتحدث عن تطور في المادة الحية الحاسة الواعية نحو التَّأَلُّه. وهي وإن سميت في مرحلة معينة نباتا، وفي مرحلة أخرى حيوانا، ثم في مرحلة ثالثة إنسانا، لغايات الاصطلاح وتيسير لغات التخاطب، فهذا لا يعني أن الفواصل بين تلك المراحل جدارية، بل هي طيفية ومتداخلة "يراجع فصل الروح من كتابنا تجديد فهم الإسلام". ولأن لفظة إنسان ارتبطت بالوعي الذي استوطن المادة، ولأن التطور اللانهائي الذي نتحدث عنه سيعتري المادة الواعية هذه، فربما كان هذا هو السبب في غلبة مصطلح "إنسان" علينا ونحن نتحدث عن ذلك الوجود المتَأَلِّه الذي سيتواجد بعد ألف مليار سنة مثلا. أما إذا افترض الواقع آنذاك أن تتغير المصطلحات والمفاهيم وهي لا شك ستتغير، فهذا مما يتم التعامل معه آنذاك، وآنذاك فقط. وكل الذي علينا أن نعرفه الآن، هو أن المادة ومنذ أن وعت ذاتها فينا ككيانات مُتَأَنْسِنَة وإلى الأبد ستتغير وستبقى تتغير داخل دائرة التغير الذي تخضع له المادة الحية الحاسة الواعية، أيا كانت الأشكال التي ستصل إليها هذه المادة.


وإذن وفي ضوء التحليل السابق لدلالة البعث والخلود ولكيفية تحققهما في الواقع، هل تغدو هناك أي عقلانية في افتراض تلك النهايات المرعبة والتراجيدية للكون؟!


هل يعقل أن يتطور الإنسان نحو التألُّه ليدمر الله به كونه العظيم، وليقضي به على الحياة التي تعتبر أعظم ما خلق الله؟!


أي عبثية أكبر من افتراض تلك النهايات "النيرونية" لهذا الوجود، وبلا منطق ولا مبرر ولا داعي ولا هدف غير القتل والإبادة والتدمير ونشر الكوارث!!!


أيخلق الله مادة بمنتهى قدرته وقوته وحكمته وعلمه، ويدفعها إلى التطور المبهر عبر نواميس وسنن وقوانين هي من تجليات إبداعه، عبر مليارات السنوات، لتنجز هذه الحضارة التي ستواصل تطورها واكتشافها ونماءها، ثم ينهيها بكل هذا البطش، وبأيدي سفاء، طوروا العالم لينهوه ويبيدوه باسم الله وخدمة للسماء؟!


ما هي الحكمة التي يمكن أن نجدها في نهاية عبثية لكون نتشدق ليل نهار بأنه عظيم ومبهر، وفي نهاية تراجيدية دموية لحياة نتشدق كل لحظة بأنها أنبل وأعظم ما خلق الله؟!


هل يحتاج الله الذي تجلت قدرته وعظمته في هذا الخلق المدهش المبهر، أن يؤكد لنا قدرته تلك بالتدمير وبالقتل وسفك الدماء؟!


هل يحتاج الله الذي أرسل كل أنبيائه ليقيموا العدالة وليحرروا البشر، لأن يجعل نهاية خلقه في معركة صنعتها خيالات موبوءة بالحقد على الإنسانية؟!


كيف يكون محبا لله أو صادعا باسمه أو محققا لإرادته، من يقول أن الله اختاره ليقتل به مئات الملايين من البشر الذين ستملأ دماؤهم الأنهار والسهول والجبال، كي يحقق النشوة والسعادة، لفئة باقية تعتبر نفسها هي من تستحق ذلك، لمجرد أنها كانت أداته – أي أداة الله - في هذا القتل المروع؟!


اللهم كلما أبحرت في هذا الكون وفيك، وكلما اكتشفتك فيه واكتشفته فيك، أدركت أن عقلا واحدا لا يمكنه أن يخلق ويبدع ثم يهلك ويدمر!! فإذا كان الخلق والإبداع منك وهو قطعا منك، فلا شك في أن الإهلاك والتدمير في معتقدات من يريدونك أداة يرتكبون بها جرائمهم في ما يسمونه آخر الزمان، هو من هؤلاء ومن وحي شياطينهم، وإني أبرئ صورتك المشرقة، من أن يخدشها شيء من ذلك الباطل والضلال!!!


السؤال الثاني


سفر النبي أرميا وما ذكر عن طرد نبوخذ نصر لليهود من مملكتهم التي هي للكلدانيين أصلا, وتحذير أرميا لليهود كي يخرجوا منهاورفضهم لنصحه الخ.. ما هو سبيل المقارنة مع الحقائق التاريخية. وقد ذكر لنا الدكتور بهجت قبيسي في لقائه السابق أن نبوخذ نصر لم يخرجهم بدموية بل لعربات ملكية! هذا أولا وكيف يمكننا تصديق كل مافيه والأسفار الحقيقية خمسة فقط ناهيك عن تحريفها. وكيف مازال حقدهم إلى هذا اليوم حول هذا الأمر ونحن نعلم تمام العلم ان يهود الأمس ليسوا يهود اليوم إنما بقيت الامور سياسية صرفة؟


الإجابة


الموضوع شائك وطويل، ويحتاج منا إلى وقت وجهد كي نوصله بكامل حيثياته إلى القارئ، لأنه مرتبط بعناصر كثيرة. ولأن الأمر يحتاج إلى دقة، فإنني أرجو إعطائي الوقت الكافي لعرضه عبر هذا اللقاء، خاصة وأنه من الموضوعات التي تشغلني كثيرا وأتابعها باستمرار، وأتابع كل جديد فيها. من هنا فسوف أشير في إجابتي هنا إلى المحاور الرئيسة التي يتطلب حسم الموضوع أن تبحث فقط، ليصار إلى بحثها بعد ذلك موضوعا موضوعا وبهدوء وتؤدة وروية، بعد أن نأخذ وقتنا الكافي، خاصة وأن وقتنا الحالي لا يسمح بالتفرغ الكامل لها. والله الموفق..


المحور الأول.. سقوط المقولة السامية "التوراتية" بمقتضى نصوص القرآن الكريم. وسقوط كل ما يقوم عليها بالتالي. فالقرآن يؤكد على أن "موسى" عليه السلام، ليس من ذرية نوح، وبالتالي فإبراهيم وإسحاق ويعقوب وكل بني إسرائيل بل وبني إسماعيل أيضا، لا علاقة لهم بنوح عليه السلام، وكل روايتهم بهذا الشأن ليست سوى أكاذيب وأضاليل. فضلا عن أن نوح لم يكن له سوى ولد واحد هو الذي غرق في الطوفان. وبالتالي لا مجال للحديث عن ذرية لنوح من صلبه يمكن لرواية السامية أن تستقيم معها.


المحور الثاني.. "بنو إسرائيل" قبيلة عربية عاشت في غرب الجزيرة العربية شمالي اليمن وجنوبي الطائف. وقد انقرضت بعد أن كانت لها سلطة لمدة معينة وبعد أن دمر ملكها وسقط سلطانها، ولم يبق لها أثر. وفي القرآن الكريم ما يؤكد ذلك، سواء عند التدقيق في الخطاب القرآني الذي يفرق بين "بني إسرائيل" و"أهل الكتاب" حين الحديث عن هؤلاء. فضلا عن متابعة التفاصيل القرآنية حول قصتي "داوود" و"سليمان".


المحور الثالث.. القراءة الجغرافية للتوراة وللعهد القديم تثبت ألا علاقة تاريخية لبني إسرائيل لا بفلسطين ولا بمصر النيل. وما مصر التي ذكرها القرآن، إلا بلدة تقع في غرب الجزيرة العربية. وليس فرعون المذكور في قصة بني إسرائيل سوى حاكم عربي مستبد لبلدة "مصر" البائدة تلك. ولم يثبت في تاريخ مصر القديمة – مصر النيل – أن حكامها كانوا يُسمون الفراعنة، فهذه تسمية مستحدثة، بعد أن تم الربط بين فرعون مصر بني إسرائيل، ومصر النيل، في القراءات التاريخية الحديثة نسبيا. وكل الأسر المالكة لـ "مصر النيل" القديمة كانت تسمى بأرقام، فيقال الأسرة العاشرة والأسرة الخامسة عشرة.. إلخ. ولا توجد حفرية أو بردية مصرية احتوت على كلمة "فرعون"، أو على كلمة "عزيز مصر" أو على كلمة "يوسف" أو على كلمة "موسى"، مع أن هؤلاء كانوا من أهم الشخصيات التي حركت تاريخ المكان المسمى في القرآن "مصر".


المحور الرابع.. حتى التصورات الدينية الإسلامية والمسيحية حول القدس والمسيح وفلسطين.. إلخ، لا أساس قاطعا وثابتا بخصوصها في المرجعيات القرآنية والإنجيلية الأصيلة، والكل معتمد بخصوصها على قراءة توراتية، هي في محصلتها تزوير للتاريخ وتشويه للحقيقة، وبالتالي فلا يقين بخصوصها مما نعرفه عنها في الوقت الراهن.


المحور الخامس.. القراءة المعاصرة للتوراة بدأت مع بدايات القرن الثالث عشر تقريبا على أصح التقديرات، مترافقة مع التغيرات التي بدأت تجتاح أوربا عقب فشل الحروب الصليبية، وبالتالي فلا يمكن فصل تلك القراءة عما شهدته القارة من تغيرات سياسية وثقافية، وعما ستشهده لاحقا من تغيرات في كل الاتجاهات. ومن هنا فنحن أمام حالة معقدة ومتشابكة من القراءات لا ينفصل بعضها عن البعض الآخر، عند محاولة التعرف على أي شيء يتعلق باليهود وبالإصلاح الديني وبالصهيونية وبالأطماع السياسية في المشرق العربي.. إلخ. وأي قراءة مجتزأة سوف تؤدي إلى الخطأ والتضليل.


المحور السادس.. الأصوليات المسيحية واليهودية والإسلامية متشابهة من حيث أنها تؤدي إلى تصوير نهاية كارثية للعالم، وإن كانت كل أصولية تنسب المجد ووقوف الله إلى جانبها ضد الآخرين. وكلما كان الصراع الحالي في المشرق العربي مصبوبا في قالب ديني، كلما كان الأمر كارثيا. ومن المؤكد أن الصهيونية اليهودية التي أنتجتها الصهيونية المسيحية، تتحالف معها الآن لاستكمال بلورة الصهيونية الإسلامية في بعدها الديني تحديدا، بهدف إخراج الصراع عن سياقه السياسي الاقتصادي، وصبه في قالب ديني أصولي قائم على تحييد البعد الحقيقي والجوهري للصراع، من أجل نجاح الأطراف كلها في الحشد والتعبئة الدينية لأجل خوضه، بكل ما في ذلك من كوارث على الإنسانية كلها. وفي المحصلة لا فرق بين الأصوليات الثلاث التي تؤمن بالنهاية نفسها للعالم، من حيث أنها جميعها ضد الإنسانية في نهاية المطاف.


ربما تكون هذه هي المحاور الأساسية التي يثيرها سؤالك سيدتي، لكن ما لا شك فيه أن طبيعة الموضوع قد تستثير وتستحضر قضايا جانبية كثيرة، تندرج في إطار هذا المحور أو ذاك، وربما تشكل محورا جديدا قائما بذاته.


أرجو أن أكون أوضحت بذكري للمحاور، خطورة وصعوبة وتشابك الموضوع، آملا قبول اعتذاري بإرجاء الموضوع إلى أن يتسنى لي عرضه بالهدوء المطلوب وعبر المدى الزمني المطلوب للأسباب التي ذكرتها.


ولكم بالك الشكر والتقدير.


أسامة عكنان